٦٢٦٦ عامًا على رُزنامة: -توت-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8101 - 2024 / 9 / 15 - 11:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

٦٢٦٦ عامًا على رُزنامة: "توت"

يحلمُ شرفاءُ هذا العالم بأن يختفي الشرُّ إلى الأبد ويعمُّ الحقُّ والخيرُ والجمال. لو تحقّق هذا الحلمُ العصيُّ، إذن لأُفرغتِ السجونُ وتحوّلت إلى حدائقَ، وأُغلقتِ المحاكمُ وتحولت إلى مدارسَ، ولكن شيئًا خطيرًا ومهمًّا سوف يُفقَد مع ما سبق وهو: دراما الحياة، والدياليكتيك الذي ينشأ من جدلية الخير والشر، العدل والظلم، الرحمة والقسوة، وهلم جرّا. لابد من الظلم حتى يبرزَ الفرسانُ ينتصرون للمظلومين. ولا مناصَ من الشر ليحاربه الطيبون، وتستمر دورةُ الحياة. على أن ما سبق هو "تجليات" و"نتائج" صراع الجمال والقبح، ولكن السؤال كان عن "السبب". "لماذا" لا يموتُ الشرُّ ويصفو لنا وجهُ العالم؟ هذا السؤال الوجودي الأزلي الأبدي الخالد الذي حيّر الفلاسفة على مدى الأزمان، سوف تجد إجابتَه أيضًا عند سلفنا: "الجد المصري القديم" العظيم.
الأسطورةُ المصرية القديمة تحلُّ شفرةَ ذلك اللغز المُحيّر. تخبرنا الأدبياتُ المصرية أن "تحوت"، ربَّ الحكمة عند المصريين القدامى، هو المسؤول عن إدارة أي صراع يجري فوق الأرض بين قوى الخير وقوى الشر. وظيفته تتلخّص في مساعدة طرفي الصراع في حِياد تام، لكي يستمر الصراعُ دون غالبٍ أو مغلوب، فيعالجُ المهزوم منهما، إن جُرح أو أُصيب، حتى ينهضَ من كبوته ويستأنفَ معركته، فلا ينتهي صراعُ الخير والشر من الأرض أبدًا. ووفق تلك الفلسفة المصرية، نعرف بكل أسف، أن الشرّ لن ينتهي من هذا العالم، إلى أن يستردَّ اللهُ الأرضَ المحزونة بمَن يسكنها، ويحكم بميزانه العدل بين الظالم والمظلوم.
أكتب عن ذلك العالم المصري "تحوت" لأن يوم ١١ سبتمبر كان غُرّة الشهر المسمّى باسمه (توت) في التقويم المصري القديم، وهو واحد من أعرق وأقدم التقاويم التي عرفتها البشرية منذ أكثر من ستين قرنًا، مضافًا إليها مائة ألف عام من السعي الحضاري. احتفلنا بالأمس مع "جماعة حُرّاس الهوية المصرية" برئاسة المحامي والباحث "سامي حرك" برأس السنة المصرية الجديدة ٦٢٦٦ على الرُّزنامة الفرعونية، التي يعرف شهورَها عن ظهر قلب كلُّ فلاح مصري؛ إذ يحسب مواعيد غرس البذور ومواعيد حصاده وفق تلك الشهور الثلاثة عشر: توت، بابة، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمود، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى، نسي. بداية السنة المصرية يعرفها المصريون باسم "عيد النيروز". وأصله اللغوي مُشتقٌّ من الكلمة المصرية القديمة: ني-يارؤو، وتعني: (الأنهار). لأن بداية شهر (توت) يتوافق مع موعد اكتمال فيضان نهر النيل (حابي) أصل الحضارة والحياة في مصر.
العالمُ المصري الكبير "تحوت"، أو "توت"، يعود إليه الفضلُ في ابتكار التقويم المصري، ولهذا تبدأ الشهور المصرية باسمه (توت) تخليدًا لمكانته الرفيعة في العلوم والفلسفة والفلك واللغة والرياضيات والهندسة. وهو مخترع حروف الأبجدية الهيروغليفية التي خلّدت حضارتنا العظيمة. لهذا يُعرف بإله (القلم)؛ وكرّمه الجدُّ المصري بتنصيبه إلهًا للحكمة والمعرفة في الميثولوجيا المصرية؛ تقديرا لعلمه الموسوعي الغزير. وتُصوره الجدارياتُ الفرعونية بجسم إنسان ورأس طائر "أبي منجل". وهو النظيرُ الذكوري للإلهة "ماعت" ربّة العدالة والضمير في أدبياتنا المصرية.
"رأس السنة المصرية" عيدٌ مصري "وطني" يخصُّ المصريين "جميعهم". (وليس عيدًا دينيًّا مسيحيًّا، كما يظنُّ البعض). لأن هذا التقويم العريق موجودٌ قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بأكثر من ٤٠٠٠ سنة. وأرجو أن تدشّنه مصرُ "عيدًا قوميًّا"؛ لأنه "رأسُ حَربة" اعتزازنا بهويتنا المصرية الرائدة الخالدة، التي نرجو ترسيخها في وجدان الشعب المصري. ولمعرفة السبب في خلط بعض الناس بين "رأس السنة المصرية القديمة كعيد مصري"، وبين "رأس السنة القبطية كعيد مسيحي"، دعونا نحكي القصة من البداية. بدأ التقويم المصري القديم منذ ٦٢٦٦ عامًا؛ حينما اكتشف الجدُّ العبقري حتمية تدوين الزمن، وابتكار تقويم زمني دقيق؛ من أجل تنظيم عمليات الزراعة ومواقيت: الحرث-الغرس-الريّ -الحصاد. وظل التقويم المصري قائمًا وحده حتى عام ٢٨٤ ميلادية، حين وقع "عصر الشهداء" الأقباط في مصر، بسبب رفض المسيحيين المصريين الطقوسَ الوثنية التي انتشرت في عهد الإمبراطور الروماني "دقلديانوس". في ذلك العام قرّر المصريون (تصفير) التقويم المصري القديم، حتى يبدأ من تاريخ "عصر الشهداء" تخليدًا للشهداء المصريين. ومن هنا تزامن "التقويمُ المصري" مع "التقويم القبطي"، وظل الاختلافُ في العدّاد الزمني قائمًا. ولهذا صار لدينا تقويمان: ١ "التقويم المصري"، وقد وصلنا فيه إلى عام ٦٢٦٦ مصرية، ٢ "التقويم القبطي "ووصلنا إلى عام ١٧٤١ قبطية. سنة مصرية جديدة سعيدة، حاشدة بالرحمة من الله تعالى الرحمن الرحيم على جميع البشر في هذا العالم.
***