المحبة التي لا تسقط … في -أروم-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8187 - 2024 / 12 / 10 - 00:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
في صالون الدكتور "وسيم السيسي" الذي ينعقد في الجمعة الأخيرة من كل شهر في "مكتبة المعادي العامة"، وبدعوة كريمة من هذا الطبيب والمفكر الموسوعي العظيم، دُعيتُ لإلقاء محاضرة. واخترتُ أن أتكلّم عن "مرض نقص الحُبّ.” وليس هناك مجاز شعري في اعتبار "نقص الحب" مرضًا. فهو خللٌ نفسي بوسعه أن يجعل خلايا الجسم تتوحّش وتدخل في موود "التدمير الذاتي". أما على المستوى الأعمّ، ففي كل لحظة يتأكد إيماني بأن غياب المحبة بين البشر، أصلُ جميع شرور العالم.
"الحب"، هو "القانون" الذي غرسه أبي في طفولتي؛ حين علّمني أن أحبَّ "جميع الناس" دون سبب، وألا أكره مهما كان السبب". أسمّيه "قانونًا"؛ وليس مجرد "نظرية" أو "فكرة"، لأن عليه أدلة ثبوتِية كوّنتها تجاربي وقراءاتي، حوّلت النظريةَ إلى قانون. دعونا نتأمل فكرة أن "جميع الشرور والآثام وأزمات البشرية تظهر مع غياب الحب"، لاختبار مدى صحّتها. تأملوا ظواهر الفقر والظلم والطائفية والإرهاب والحروب وحتى الجوائح والكوارث التي صنعها الإنسانُ حين تدثّر برداء الأنانية الضيق وأغفل حبَّ صديقه الإنسان وحبَّ الطبيعة الأمّ وركض وراء مغانمه الصغيرة. علينا أن نحذرَ ونكافح آفة "نقص الحب"؛ لأن عُقباها غيابُ "الحق والخير والجمال" من الحياة، ثم لا يتبقى بعد ذلك إلا غياب "الحياة"؛ ذاتِها.
إن قبضتَ على نفسك مُتلبّسًا بالكراهية، اعلمْ أنك في خطر. مصدرُ الخطر ليس "مَن تكره”، إنما الخطرُ قادمٌ منك "أنت"، متوجهٌ صوبكَ "أنت”. فالبُغضُ رصاصةٌ مُرتدّة، ترتدُّ صوب قلبك، قبل أن تصل إلى خصمك. إن كنت تكره، فأنت تُمثّلُ خطرًا داهمًا على نفسك! فالكراهية تُدمّرُ سلامك النفسي وتقتل هرمون السعادة داخلك، وتجعلك ترى كل شيء من خلال غلالة سوداء من الحزن والغضب وعدم الرضا، ثم تغدو جاهزًا لارتكاب جميع الخطايا التي عرفها الإنسان لتغذية الوحش الساكن داخلك ولا يشبع: “البغضاء”. لا تستثنِ أية خطيئة عن خيالك. لو توفرت لديك أدواتُ أية جريمة؛ فسوف تأتيها. أنت فقط رهن توفُّر الظرف المناسب لارتكاب الخطايا. غيابُ الحب عن قلبك، جعلك عبدًا للوحش الذي احتلّ روحك، تعيش عمرك كلّه لتغذيه ولا يشبع، ترضيه ولا يرضى.
دعونا نتأمل "الخطايا السبع": الكبرياء، الجشع، الشهوة، الحسد، الشراهة، الغضب، السلبية، أليس مردُّها جميعًا: "غياب الحبّ"؟ القتل، الظلم، الخيانة، استلاب حق الغير، العنصرية، التنمّر، البذاءة، الأنانية، العقوق، هل من سبب وراء كل ما سبق من خطايا إلا "غياب الحب"؟!
“ظاهرة الحب لدى الإنسان" كان عنوان إحدى حلقات صالوني الشهري الذي توقف مع جائحة كورونا عام ٢٠١٩. واخترنا، أنا والفنان المتصوف الجميل "سمير الإسكندراني"، الأب الروحي للصالون، "أم الغلابة" نموذجًا للحب. هي التي أحبّت دون شرط ودون انتظار مقابل. لأن مَن أحبتهم أفقرُ وأغلب وأشقى من أن يقدموا ما يقدمه الناسُ للناس. أحبت مرضى "الجذام" الذين يفرُّ الناسُ منهم خشيةَ العدوى، لهذا يعزلونهم في منافٍ وجزر بعيدة حتى يموتوا وحيدين في صمت. احتضنتهم وحملت أطفالهم مقروحي الأبدان. قبّلتهم غير عابئة بعدوى الميكروب القاتل. حوّلت معبدًا هنديًّا يسمى معبد "كالي"، وهو إله الموت والدمار عند الهندوس، إلى دار لرعاية المصابين بأمراض لا شفاء منها، حتى يتمتعوا بالحب والحنوّ في أيامهم الأخيرة. أنشأت مئات من دور الأيتام، جعلتهم يشعرون فيها بأنهم محبوبون ذوو كرامة. وارتدت طوال حياتها ثوبًا بسيطًا أبيض بإطار أزرق عند الكُمّين. وجعلت الراهبات القائمات على تلك الدور يرتدين مثلما ترتدي، لكي يتعرف المحتاجون عليهن، فيطلبون المساعدة. إنها الراهبة الألبانية الجميلة "الأم تريزا”. نالت لقب "أم" وهي بتولٌ عذراء، فهي أم الفقراء واليتامى، لهذا استحقت جائزة نوبل للسلام عام ١٩٧٩. عاشت تحاربُ عدوًّا واحدا اسمه: "مرض نقص الحب". ولم تعترف بين كل ما نالت من ألقاب؛ إلا بلقب واحد هو: “أم الغلابة". لأن الغلابة أقربُ البشر إلى الله. أعتبرها أمي ليس وحسب لأن ذكرى رحيلها تتفق مع ذكرى رحيل أمي "سهير"، بل لأنني واحدة من "الغلابة" التي كانت لهم أمًّا.
وأما "أروم" في عنوان المقال، فهو جاليري جميل في مصر الجديدة قرر استضافة صالوني الثقافي الشهري، بعد خمس سنوات من التوقف. وكلمة "أروم" فعلٌ واسمٌ في آن. الفعلُ يعني: أريدُ وأطمحُ، والاسمُ يعني: “الجوهرُ والأصل". وهو معكوس "مورا" وهو اسم الفتاة الجميلة التي أنشأت الجاليري مع مجموعة من الشباب "مسلمين ومسيحيين"، ليكون ساحةً وقاعاتٍ للقاء زملاء الدراسة والعمل من أجل الاستذكار وعمل الأبحاث والاجتماعات. والجاليري مزودٌ بمكتبة للقراءة تكبر يومًا بعد يوم. اليوم الخميس، في السابعة مساء، أولى حلقات صالوني في "أروم". واختاروا أن نبدأه بالحديث عن "المحبة التي لا تسقط أبدًا".


***