حدوتةُ الحاج -مدبولي- (٢)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8185 - 2024 / 12 / 8 - 13:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حدوتةُ الحاج "مدبولي" (٢)
Facebook: @NaootOfficial
أستكملُ معكم ما بدأتُه في مقالي يوم الخميس الماضي من حدوتة "الحاج مدبولي"، الناشر الشهير، الذي اختطفته حبائلُ الشغف بالكتاب، وهو بعد صبيٌّ صغير في السابعة من عمره، يوزّع الصحف والمجلات على عربة خشبية صغيرة يجولُ بها في شوارع القاهرة، فيتحوّل مع الأيام إلى واحد من أهم ناشري وموزعي الكتب في العالم العربي، ثم يتجاوزُ تلك الخانة نحو مدى أوسع حتى يعتبره المثقفون المصريون والعرب أحدَ "صنّاع الثقافة والفكر"، الذين ضحّوا بالجهد والمال والعمر والحرية والأمان من أجل حماية المفكرين والزود عن أفكارهم وآدابهم من الملاحقات والمصادرات التي يفتعلُها أعداءُ الفكر والحرية، حتى تصلَ إلى مُبتغاها الأخير وهو: “عقل القارئ"، حتى لقّبه المثقفون بـ"وزير ثقافة العرب"، واحتلَّ اسمُه موسوعة "أعلام مصر في القرن العشرين"، الصادرة عن وكالة أنباء الشرق الأوسط.
“محمد مدبولي"، الذي علَّم نفسَه بنفسِه القراءةَ والكتابة من عناوين الصحف التي كان يحملها إلى النوادي الاجتماعية ومقار الجاليات الأجنبية في أربعينيات القرن الماضي، كان زبائنه يسألونه عن عناوين كتب وروايات، فيبحث عنها بشغف الصياد الباحث عن طرائده، حتى عرف طريقَه إلى دور النشر العربية الشهيرة في لبنان وبغداد وسورية عطفًا على الدور المصرية. ثم راح يتعرّف، بـ حِسّه الفطري وذاكرته اليقظة، على إيقاعات "شغف القارئ"، ومتى يكونُ الكتابُ "حيًّا" يطلبُ قارئيه، أو راكدًا ميّتًا لا يعبأ به أحدٌ حتى يبلى في غباره. هذا الرجل الفريد الذي يُعدُّ ظاهرة ثقافية مصرية تستحقُّ التأمل والدراسة، والذي كُرِّم في العديد من دول العالم، بعدما تحول من منتهى البساطة إلى منتهى الشهرة والنجومية في محافل المثقفين، لم يتنكّر يومًا للجلباب الشعبي الذي كان يسافر به إلى عواصم العالم العربي والأوروبي ليقف على رأس جناح "مكتبة مدبولي" في معارض الكتب، يُسلّم الكتابَ إلى مريده بنفسه، كان محطَّ أنظار جميع الكتّاب الشباب. أذكرُ أنني التقيتُ به في بدايات مشواري الأدبي بعد صدور كتابي "الكتابة بالطباشير" عن دار شرقيات، وهو كتاب عن علاقة "العمارة" بالفلسفة بالفنون الستّة خلال الانتقال من الكلاسيكية إلى الحداثة وما بعدها. ذهبتُ إلى المكتبة في ميدان "طلعت حرب" والتقيتُ بالحاج مدبولي ووقفتُ أمام كتابي المعروض على أحد رفوف المكتبة وقلبي يخفقُ. جاء الحاجُّ وتناول الكتاب وراح يتصفحه ويمرُّ على عناوين الفهرس بعين العارف الخبير، ثم قال: “كتابك القادم نطبعهولك إن شاء الله". ولم أصدّق فهتفتُ بفرح: “بجد؟!”؛ لأنني أعلمُ أن "مدبولي" لا يطبع إلا للكبار الوازنين، فكيف يتحمّسُ لكاتبة تتلمس خطاها الأولى ولم تُصدر بعدُ إلا كتبًا ثلاثة، حينها؟! لهذا اعتبرتُ كلمته من قبيل التشجيع المعنوي؛ ولم آخذها مأخذ الجد. لكنني علمتُ من أساتذتي الأدباء أن هذا الرجل يزن كلماته بميزان الذهب ولا يجاملُ في "الكتاب" الذي يعتبره "شرف الإنسان". وتأكد هذا حين التقيتُ بها في مصادفات عديدة بعد ذلك وكان يصافحني ببِشر قائلا: “فين المخطوطة؟!” ولكن للقدر خُططَه. فلم يتحقق حEلمي بالنشر لدى مدبولي إلا قبل أيام قليلة، فطبعتُ كتابين دفعة واحدة. الأول هو: “محاكمة القمح" وهو حوار تخيّلي مع صديق افتراضي "متطرف وإقصائي"، والكتاب الآخر هو: "صهواتُ الخيول"، وهو حوارات قديمة، وطازجة أجرتها الروائيةُ الكويتية الشهيرة "فاطمة يوسف العليّ" مع عمالقة الفكر والفن مثل "يوسف إدريس، توفيق الحكيم، صلاح طاهر، محمد جبريل، محمد عبد القدوس، مصطفى محمود، نزار قباني، وآخرين على جريدة القبس في ستينيات القرن الماضي.
ومثلما يلاحقُ المتشددون المتطرفون، في كل زمان ومكان، فرائدَ المفكرين والأدباء الذين لا يكتبون على "مازورة" الرجعية، فإن ناشري الكتب الجسورين الذين يطبعون لأولئك المفكرين ينالون نصيبهم من الملاحقة والعنت والاغتيال الأدبي. لهذا حوكم "الحاج مدبولي"بتهمة "ازدراء الأديان"، الحصان الأسود لدى تجار الدين، ووقف على باب السجن، لكن كبار المثقفين في مصر والعالم العربي دعموه وساندوه احترامًا لمكانته في الحراك الثقافي العربي.
يتبقّى أن أسجّل امتناني لصديقي الراحل الكاتب والسياسي الوطني الطبيب "محمود العلايلي" الذي تحمس لكتابي "حوار مع صديقي المتطرف" الذي كتبتُه خلال حكم الإخوان في ذلك العام الحزين، وطبعته عام ٢٠١٦، وأوصاني بإعادة طباعته لأهميته وتنبيه النشء القادم بمخاطر الإخوان. وفي صباح حار من صباحات أبريل الماضي عطّل "محمود العلايلي" جميع أعماله الصباحية في الحزب والعيادة، وانتظرني في "مكتبة مدبولي" الشهيرة بميدان "طلعت حرب"، مع العزيز "محمود مدبولي"، حامل مشعل أبيه "الحاج مدبولي"، واستلم مني مخطوطة الكتاب الذي أخذ عنوان "محاكمة القمح"، وكتب مقدمته المفكر الإصلاحي والطبيب د. "حسام بدراوي".
تحية احترام لروح "الحاج مدبولي"، ولابنه المهندس "محمود مدبولي" الذي ضحّى بعمله الهندسي المرموق ليحمل مِشعل أبيه ويكمل رسالته من أجل عيون "الكتاب".
***