“مكرم هارون-… واحدٌ من النبلاء
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8223 - 2025 / 1 / 15 - 10:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ذهبت أمٌّ إلى الصائغ لكي تبيعَ قِرط طفلتها. وكان هذا القُرطُ الصغير آخرَ ما تبقي لديهما من مصوغات ذهبية. حرّرتِ الأمُّ القرطَ وخلعته عن أذن الصغيرة، ففرَّت دمعةٌ من عينها؛ لمحها الصائغُ؛ فسأل الأمَّ الواجمةَ عن سبب البيع. لم تجب الأمُّ، وأشاحت بوجهها لكي تُخفي دمعةً غافلتها وأطلّت من عينها، فطردتها بظهر كفّها. وجاءت إجابةُ السؤال في همسة همست بها صديقةُ الأمّ التي كانت ترافقهما: "نبيعه لعلاج البنت!” وضع الصائغُ القِرطَ الصغيرَ في مِجلاة التلميع، حتى عاد بريقُه يُشعُّ كنورِ نجمة في سماء ليلٍ، ثم وضعه في علبة من القطيفة الزاهية، وقدّمه للصغيرة الحزينة. ثم أعطى الأمَّ مظروفًا به ثمن القرط، كأنه ابتاعه. لكن كبرياء الأم وعفافَها أبيا القبولَ. فأصرَّ الصائغُ الشهمُ على موقفه، وأصمَّ أذنيه عن جميع كلمات الرفض قائلاً: هذا القرطُ هديتي للصغيرة الجميلة؛ فهو لن يكون جميلا إلا في أذنيها.
هذه القصة الجميلة ليست من حكايا الـ Fairy Tales، بل واقعةٌ حقيقية شهدها الأمسُ في مركز "الباجور" محافظة المنوفية. لم نعرف الحكاية من بطلها النبيل، فهو شأنه شأنُ كلِّ شريفٍ، لا تعرف يسراه ما أنفقت يمناه، بل عرفناها حين شكرت صديقة الأم هذا الصائغَ الطيب على صفحات سوشيال ميديا. فانتشرت القصةُ وعرفنا أن الجواهرجي الطيب هو الأستاذ "مكرم عبد الملاك هارون"، الشهير بـ "مكرم عبده هارون". لكننا، بكل أسفٍ، لم نعرف اسم الطفلة الجميلة ولا الأم لكي نؤازرها. لهذا أدعو الجهات المختصة بالتعرف عليها وعلاجها على نفقة الدولة، فهذا حقُّها على وطنها العظيم الذي لا ينسى أبناءه.
من أجل مثل تلك الحكايا الجميلة التي تحدثُ كل يوم في شتى بقاع الأرض، ولا يصلُنا منها إلا قطراتٌ من غيث، يرحمنا اللهُ ويغفر خطايا البشرية. هذي المواقفُ النبيلة التي يصنعها الشرفاءُ بين الحين والحين، هي الضمانةُ الوحيدة لاستمرار الحياة على كوكبٍ حزين أرهقته الحروبُ والويلات. كوكبٍ يتفنّن فيه الأشقياءُ في صناعة الشرور فتذبل الورود على سيقانها، حتى يأتي الأخيارُ ويغسلون الأرض بـ نُبلهم، ليعود إشراقُ الزهور.
غوثُ الملهوف، هو صوتُ الضمير الذي يُلبّي النداءَ ولا يصمُّ أذنيه عن صرخةِ وجع أو همسة رجاء، مهما خَفُتَ صوتُها حياءً أو وهنًا. في زمن تسارعت فيه خطواتُ البشر نحو ذواتهم، بات جبرُ الخاطر هو النبضَ الذي يُبقي جسدَ الإنسانية حيًّا، رغم هِرمه وشيخوخته وعيائه.
جبر الخواطر هو أرقى بوابات السموّ الروحي، حيث يسمو الإنسانُ فوق ذاته الضيقة نحو براح الآخر على شسوعه، فيصبح الجابرُ خاطرًا، شريكًا في بناء عالم أكثر دفئًا وجمالا وطوباوية. إنها رسالة تقول إن العالم ليس مريرًا بقدر ما قد يبدو، وأن الخير مازال يسري في عروق الناس مسرى الدم، مهما غاب وجهه عن عيوننا. مثل تلك الحكايا الطيبة التي تصافح وجوهَنا كنسمةٍ باردة في هجير، تجعل العالم يستحقُ أن يُعاش.
يقول "مارك توين": “اللطفُ هو اللغة التي يسمعها الأصمُّ ويراها الكفيف"، وتقول "إيميلي ديكنسون": “لو كان بوسعي إنقاذ قلب واحد مكسور، فإن حياتي لم تكن هدرًا.” ويقول "غاندي": “أفضل طريق لأن تجد نفسَك، هو أن تتركها تذوب في خدمة الآخرين.” وأما "الإمام الشافعي" فيقول شِعرًا: “الناسُ للناسِ ما دامَ الوفاءُ بهُمُ/ والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وأزمانُ/ وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ/ تُقضَى على يدهِ للناسِ حاجاتُ.”
في هذا العالم الموحش الذي يزداد قسوةً، تبقى الرحمةُ الأملَ الوحيد لإعادة صياغة معنى الحياة، ويغدو جبر الخواطر عبادة إنسانية لا تقل قداسة عن الصلاة مع الله، لأن التراحمَ صلاةٌ مع خلق الله، وجسرٌ للعبور إلى الآخر، يُحيي فينا الروح النقية التي خُلقنا عليها.
يقول الحديثُ الشريف: “من يسَّر على مُعسر، يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة.” وهذا الرجلُ النبيل يعرف قول المسيح عليه السلام: “كأسُ ماء بارد لا يضيع أجره"، وقوله: “أعطوا فيُعطَى لكم، مِلءَ قامتِكم رَجعًا وفائِضًا.”
***
قِرطُ الجميلة
***
برقتِ دمعةٌ في عيِن الصغيرة
فرفعَ النبيلُ يدَه
كما يرفعُ راعٍ عصاه
ليوقفَ الرياحَ عن وردةٍ نحيلة
لئلا تنكسر
وقال:
"النجومُ
لا تُباعُ هنا
ولا تُشترى
مثلما لا يُباعُ الفرحُ
أعيدوا النجمةَ للصغيرة
فهي أبهى في جِيدها
وأشدُّ نصوعًا"
...
أنصتتِ السماءُ
لما يجري تحت مظلتها
وابتسمتْ
ثم أرسلت في عتمة الليل
شعاعَ شمسٍ
ورسالةً:
“تستحقون ضيائي
مادام في عالمكم
خيرٌ
وفرحٌ
ونجوم.”
***