البابا …. غاسلُ أقدامِ الكادحين


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 02:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

"البابا"… ليس مجرد لقبٍ كنسيِّ، بل نداءٌ يشي بالحُنوِّ والرأفة والملاذ والسند، والصلاة من أجل جميع المأزومين والضعفاء في هذا العالم، دون تمييز أو إقصاء، فجميعهم “إنسان”. فلسفة لقب "البابا"، بـ"ال" التعريف، هي لا محدودية الزمان والمكان؛ أي لا تُحدّه جغرافيا، ولا تحبسه عقيدةٌ. لأن الأبوةَ لا تسألُ عن الهُوية، بل تحتضن "الإنسانَ" لكونه إنسانًا. فإذا سُمّي رجلٌ “البابا”، توجَّب عليه أن يكون ملاذًا ومِظلّة، ويَدًا تمسحُ الدمع، وقلبًا يسع الجميع، بلا تفرقة. وإن كانت السُّلطةُ في الأرض تُخيفُ، فإن سلطةَ "البابا" تُطمئن، لأنها تستمد قوتها من الضعفاء، وتُشكّلُ مجدَها من التواضع. لكل هذا كان للبابا "فرنسيس"، رحمه الله، نصيبٌ كامل من لقبه. فهو الأبُ الذي يحنو على الخاطي، والذي يوجّه ويُقوِّم، والذي يرأفُ بالضعيف والمكلوم.
لهذا أكتبُ اليومَ لأرثي "البابا فرنسيس" الذي تشرفتُ بلقائه في مصر الطيبة وربَّتَ على رأس ابني المتوحّد "عمر" داعيًا له بالشفاء. لم يقل: لماذا أدعو لمسلم ابن مسلمة وأنا رأسُ كنيسة عالمية؟! لم يقل: أولئك مصريون وأنا أرجنتيني إيطالي فاتيكاني؛ فما شأني بهم؟! لم يفكّر في شيء غير أنه أمام أمٍّ حزينة على صبيٍّ لا يقدر على مواجهة هذا العالم القاسي وحيدًا، فصلّى من أجله.
رحماتُ الله عليكَ أيها الأب الطيب الذي مشى على الأرضِ هَوْنًا خفيفًا، لا يحملُ إلا نورَ المحبةِ وصلواتِ المساكين، وقال للعالم “سلامًا”. الرجل الذي طأطأ رأسَهُ أمامَ الجوعى والمعوزين، وأشرق وجهُهُ بِشرًا حين صافحَ المرضى والعميان والغرباء. الأبُ الجميل الذي أحبَّ الناسَ كما هم، لا كما يُرادُ لهم أن يكونوا، ونادى بالسلامِ في زمنٍ قاسٍ يتغذى على الجدران والأسلاك والدماء.
منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، لم يتردد البابا "فرنسيس" لحظةً في استخدام كلمته كسلاح رحمةٍ ماضٍ في وجه سفاح أعمى. ندَّد مرارًا بكل حسم استهداف المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس. وقف في ساحة القديس بطرس وهتف: “كفى! أوقفوا هذه الحرب! لا مبرر لقتل الأبرياء. كل طفل يُقتل هو هزيمةٌ للإنسانية.” قال هذا بنصوع ودون مواربة في وقت تجنّب فيه كثيرون من زعماء العالم الغربي استخدام كلمة “غزة”، أو الإشارة المباشرة للضحايا من أبنائها! كان البابا "فرنسيس" يسمي الأشياء بأسمائها دون حسابات ولا موازنات ولا مجاملات. وكان يصلي كل يوم من أجل الفلسطينيين، والضحايا في جميع أرجاء الأرض، ويُذكّر العالمَ الغافلَ بأن "العدالة لا تعرفُ الانتقائية، وأن الضميرَ لا يخضعُ للتسييس.”
ومثلما كان من أوائل مَن نددوا بالعدوان الصهيوني على "غزة"، كانت مأساةُ "فلسطين" حاضرةً في آخر كلمات قالها قبل رحيله عن عالمنا: “يجب وقف إطلاق النار فورًا، وإطلاق سراح الرهائن، وتقديم المساعدة لشعب فلسطين الذي يتضوّر جوعًا ويتوق إلى مستقبل يسوده السلام.”
كان البابا "فرنسيس" رجلَ "لقاء". أي أنه يُجيد بناء الجسور بين الناس، لا الجدران والحواجز. يسعى للحوار، ويؤمن بأن التفاهم هو السبيل إلى السلام، مهما كانت الاختلافات الدينية أو الثقافية أو السياسية. لم يعش البابا "فرنسيس" في برجه العاجي كزعيم روحي ورمز عالمي ورقم صعب في سلطة العالم، بل كان يجول يصافحُ الكادحين، ويجالس المهمَّشين، ويتحدث إلى الناس من منبر "الإنسانية" قبل العقيدة؛ إيمانه بأن كل إنسان يستحق أن يُسمَع. ظلَّ يسعى لخلق مساحات تلاقي بين الأديان، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الكنيسة والعالم بأسره بكل ما يحمل من هموم ومشاكل وعنصريات وحروب.
زار العراق عام ٢٠٢١ حاملا رسالة سلام لأرض أنهكتها الحروب والطائفية. التقى بالمرجع السيستاني في النجف، وزار الموصل التي دمّرها تنظيم داعش، ووقف وسط الخراب وهتف: “الأخوّة أقوى من القتل.” وعام ٢٠١٩ وقّع مع شيخ الأزهر الشريف "وثيقة الأخوّة الإنسانية" في أبو ظبي، فحواها: "أن كل البشر إخوة، وأن الأديان يجب أن تكون جُسورًا لا حواجزَ.” وهو الذي دافع عن اللاجئين والمهاجرين العرب، ودعا إلى فتح الأبواب لا إغلاقها. وحين زار جزيرة ليسبوس اليونانية، عام ٢٠١٦ لتسليط الضوء على معاناة اللاجئين في مخيم "موريا"، عاد إلى الفاتيكان مصطحبًا عائلات لاجئة على متن طائرته الخاصة. وفي "خميس العهد" من كل عام، كان البابا "فرنسيس" يكسر الصورة التقليدية لجلال المنصب الرفيع يخرج من أبهاء الفاتيكان إلى هوامش المجتمع يغسل أقدام الفقراء واللاجئين المسلمين، مثلما فعل السيد المسيح مع تلامذته.
برحيل قداسة البابا "فرنسيس"، تطوى صفحة مشرقة في تاريخ العالم. فقد كان أكثر من قائد ديني للكنيسة الكاثوليكية؛ كان ضميرًا حيًّا للإنسانية، وصوتًا جسورًا للرحمة والعدالة في عالم تهيمنُ عليه الانقساماتُ والمصالح. فلنطلب جميعًا له السلام الأبدي والرحمة، مثلما عاش حياته يطلبهما لنا جميعًا دون تمييز.


***