التهجير... هدرٌ للدم المصري والعربي


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8307 - 2025 / 4 / 9 - 10:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


"الوطنُ" ليس بقعةَ أرضٍ وإحداثياتٍ على خريطةٍ، بل هو جِذرُ الروحِ، وإشراقاتُ الذاكرة، والحنينُ حين تُصافحُ العيونُ وجهَ الغربة، والمأوى حين نتيهُ في صقيعِ العالم. "الوطنُ" وجدانٌ، لا حقيبةَ سفرٍ نحملُها ثم نُلقي بها على أرصفة القطارات والمطارات. والمُهجَّرُ المُجتثُّ من أرضه قسرًا، يشبه شجرةً تُقتلعُ من دفء تربتِها، أنّى لها أن تُثمرَ! التهجيرُ جريمةٌ، لا لأنه ينتهكُ حقَّ الإنسانِ في السكن والأمان وحسب، بل لأنه يُفرغُ الجغرافيا من التاريخِ، ويقتلُ ذاكرةَ المكان. تُرى، ماذا يبقى من شارعٍ كان يضجُّ بالحياةِ حين يُفرَّغُ من سكانِه؟! ماذا يبقى من مدرسةٍ بلا تلاميذ، ومسجدٍ بلا ساجدين وكنيسةٍ بلا مُصلّين؟! ما تفعله إسرائيلُ من جرائمَ في حق شعب غزّة، بل في حق الإنسانية، ليست تداعيات احتلالٍ غشوم ولا إرهاصاتٍ لحربٍ تلوح بوادرُها في الأفق إن لم يستيقظ ضميرُ العالم، ولن أقول: "ضمير إسرائيل" لأن الضمير لم يجد طريقه إليها، إنما هو من خوالد جرائم التاريخ الكبرى التي لن يمررها الزمانُ، ولن تصفحُ عنها الأجيالُ القادمة، ولن يخفُتُ سوادُ مِدادها مهما تقادم كتابُ التاريخ.
هذا المقالُ موجّهٌ إلى "الطيبين" من أبناء الشعب المصري الذين يظنون أن الحلَّ يكمنُ في فتح مصر معابرها لأبناء غزة، وتنتهي الكارثةُ بجرّة مِصراع باب! غافلين عن كونهم يقولون:"آمين" للمخطط الصهيو-أمريكي في محو كلمة "فلسطين" من الوجود! من العار أن نجعل من أنفسنا "سيفًا" في يد عدوّنا نقدمُه له طوعًا لكي ينحر به أعناقنا!! أيُّ غفلةٍ وأيُّ عبثٍ وأيُّ سذاجة؟! كَبُرَ مقتًا عند الله أن نُسكنَ العذابَ في جوف الرحمة، وأن نُلبسَ الظلمَ ثوبَ الإنسانية! كلُّ مواطنٍ مصريٍّ يقطرُ قلبُه دمًا على ما يحدث لشقيقه الفلسطيني منذ انفجار ٧ أكتوبر، والشهداءُ في غزةّ يتساقطون على مدار الساعة حتى تجاوز عددهم خمسين ألف شهيد بينهم أطفالٌ ونساءٌ ومسنّون، ونصف هذا العدد مصابون ومفقودون تحت الأنقاض، وقرابة ال ٩٠٪ من المتبقين من سكّان غزة نزحوا من ديارهم هربًا من القصف الغاشم الذي دمّر أحيائهم بالكامل، يواجهون مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، مع وجود قرابة ال٤٠٠٠ طفل معرضين لخطر الموت بسبب سوء التغذية. ومصر لم تقف يومًا مغلولة اليد عن مساعدة أشقائنا الفلسطينين فهو واجبها وحقهم. لكن الحل ليس في فتح المعابر لكي نقدّم "فلسطين" على طبق من فضّة لإسرائيل وأمريكا، وهو الحلم الصهيوني الخالد الذي حال دون حدوثه دماءُ المصريين التي تُراقُ منذ عام ٤٨ وحتى حرب ٧٣. الموافقة الغافلة على التهجير القسري لأبناء غزة ليس سوى تفريغ كامل للقضية الفلسطينية من مضمونها، ذاك أن أرضًا بلا شعب يعني أن تتبدّل هُوية هذي الأرض لتنسرب من يد أصحابها إلى يد المحتل. هذا التهجيرُ المقيت الذي ترومه أمريكا وبنو صهيون ليس وحسب شطبًا لقضية فلسطين من الوجود، بل هو هدرٌ ظالمٌ لدماء شهداء مصر الذين قضوا دفاعًا عن حق فلسطين في الوجود. وفي كل بيتٍ مصريٍّ صورةُ شهيدٍ معلّقة على جدار، فكيف ننظرُ في عيونهم الشاخصة ونحن نهدرُ دماءهم تحقيقًا لمطامع إسرائيل التي لا تشبع؟! تُريد أمريكا ومعها آلةُ القهرِ الصهيونيةُ أن تقتلعَ الفلسطينيَّ من أرضِه، لتُعيدَ فصولَ نكبةٍ جديدةٍ، تُشبهُ جُرحَ ٤٨، بل أشدُّ قسوةً وأعمقُ نزفًا. فكيف نجحت الآلةُ الإعلامية الأمريكية الكذوبُ في استمالة قلوب الغافلين من المصريين لتجنيدهم في مخططها الفاشي؟! الحديثُ عن تهجير الشعبِ الفلسطينيِّ ليس شائعةً عابرة، ولا كابوسًا مُتخيّلًا. بل هو مخطَّطٌ يُرسمُ على طاولاتِ الساسةِ في عواصمَ بعيدةٍ، تُديرُها أيدٍ لم تعرفْ يومًا معنى الوطنِ، لأنها لم تُجربْ فقدَه. يريدونَ أن يُفرغوا غزةَ من أهلِها، ويحوّلوها إلى صحراءَ بلا نبض، كي يُكملوا احتلالَ فلسطينَ بأكملِها، ويُنهوا ما بدأوه منذ عقود.
إن تهجيرَ الفلسطينيين ليس شأنًا فلسطينيًّا فحسب، بل هو شأنٌ مصريٌّ وعربيّ وإنسانيّ. لأنّ اقتلاعَ الفلسطينيِّ من أرضِه، هو في جوهرِه هدمٌ لأمنِ مصرَ القوميِّ، واستباحةٌ لكرامةِ العربِ جميعًا. من يُفرِّطُ في فلسطينَ اليوم، يُفرِّطُ في أرضِه غدًا، ومن يظنُّ أنَّ النارَ ستقفُ عند حدودِ غزةَ، فهو لم يقرأ التاريخَ جيدًا. مصرُ لن تكونَ بوابةً لتمريرِ هذا المخطَّط، ولن تكونَ شاهدَ زورٍ على نكبةٍ جديدة. فسيناءُ مصريةٌ، لا مَنفًى للفلسطينيين، وأهلُ غزةَ لهم وطنٌ اسمه فلسطين، لن تُمحى ملامحُه ولو اجتمعتْ قوى الأرضِ على طمسِها. الفلسطينيُّ لن يتركَ أرضَه، مهما تجبّرت آلة الغشم الصهيو-أمريكي. فهو ابنُ الترابِ الذي ارتوى بدماءِ شهدائه. لن يُلدغَ العربيُّ من الجُحرِ ذاته مرتين، ولن يُسمحَ بأن تتحوَّلَ غزةُ إلى نكبةٍ جديدة، ولا أن تُبادَ فلسطينُ تحتَ سمعِ العالمِ وبصرِه. وإن كان الغربُ لا يرى، فنحنُ نرى. وإن كانوا لا يسمعون، فالتاريخُ لا يصمُت. شكرًا للقيادة المصرية الواعية التي تحمي فلسطين مثلما تحمي مصر.


***