سنة حلوة بالحب… شكرًا ستّ -عفاف-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8213 - 2025 / 1 / 5 - 11:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
بينما تُجهّزُ لنا طعامَ الغداء، راحت، بعفوية وبساطة، تحكي كعادتها ما حدث معها بالأمس من مواقفَ وطرائف. ومن بين الحكايا قالت: (وأنا في الباص بتاع المنشية إمبارح، كان قاعد قدامي ٣ بنات قمرات، تقريبًا كانوا رايحين دير "سمعان الخراز" عشان شوفت صليب على إيديهم. لما عيني جات في عينهم قلت لهم: “كل سنة وأنتم طيبين يا حبايبي. ميري كريسماس وعيد ميلاد مجيد". بصوا لبعض في دهشة، فقلت لهم: “أنتوا زي بناتي، سنة سعيدة عليكم يا رب.” المهم لما جيت أنزل من الباص في المنشية، والسِّلّمة عالية ورِجلي بتوجعني زي مانتي عارفة، لاقيتهم جريوا عليا بيساعدوني أنزل!) لم يكن الهدف من حكايتها القصيرة هذه أن تقصَّ ما فعلتْه مع البنات، بل كان الهدفُ أن تصفَ لي طيبة البنات وتسابقهن على مساعدتها. من طوال عشرتنا معًا، على مدى سنوات العمر، كانت تعرفُ ما معنى "الخدمة" في الأدبيات المسيحية. وكثيرًا ما رافقتني في رحلات خَدَمية في القاهرة وخارجها مع أشقائنا المسيحيين، وتعرّفت معي على "خُدّام" و"خادمات" من أولئك الأنقياء الذين يرعون دور المسنين ودور الأيتام ويساعدون المرضى والفقراء وكل ذي حاجة وعَوَز. لهذا قصّت عليَّ حكايتها لكي تؤكد لي، وكأنني لا أعلم، أن الخادمات الجميلات أولئك، لا يفرقن في خدمتهن بين مسلم ومسيحي، بل يقدّمون الحب للجميع. بطلةُ مقال اليوم وصاحبة الحكاية، هي كنزُ حياتي وسَنَدي ورفيقة مشواري السيدة المحترمة "عفاف طه إدريس" أو "أم محمد"، كما يُطلقُ عليها جيرانُها في منشية ناصر. هي مديرة منزلي ومربية أولادي، والتي يعتبرُها صغيري "عمر" أمَّه الثانية.
لهذه السيدة الجميلة مواقفُ حضارية كثيرة منذ صباها الأول. بعدما أنجبت طفلها الأول، الذي يناهز اليوم الخمسة وثلاثين عامًا، كانت جارتها المسيحية قد أنجبت طفلَها كذلك، لكنها رحلت عن الحياة وتركت رضيعَها لا يتوقف بكاؤه جوعًا وعطشًا وحرمانا من دفء الأم. فما كان من الأم الصغيرة "عفاف" إلا أن أخذت ابن جارتها وأرضعته مع رضيعها حتى فطمتهما معًا. كانت تفعلُ هذا سرًّا خوفًا من رفض زوجها "الحاج يوسف". وبعد بضعة شهور من تأنيب الضمير قررت أن تخبره بالحكاية وهي تدعو الله أن يتقبّل الأمر. وفوجئت به يقول: (لو لم تفعلي هذا، لحزنتُ منك. هذا واجبنا أمام الله.) وصار لهذه الأسرة المسلمة الجميلة ابنٌ مسيحيّ اسمه "أمجد"، صار اليوم رجلا في الخامسة والثلاثين من عمره، أخًا لأبنائها الخمسة بالرضاع.
هذه السيدةُ الجميلة لم تقرأ في التنوير، ولا في حقوق المواطنة، ولا في حقوق الإنسان. لم تقرأ "قانون ماعت" إذ يقول: “كنتُ أبًا لليتيم، وعينًا للأعمى، وساقًا للكسيح، ويدًا للمشلول"، لم تقرأ الحديثَ الشريف: “أنا وكافلُ اليتيم كهاتين في الجنّة". لم تقرأ "العقد الاجتماعي" لـ "جان جاك روسّو"، ولا قرأت "رسالة في التسامح" للمفكر الفرنسي "جون لوك"، ولا قرأت "المواطنة المتساوية" للدكتور "محمد عابد الجابري"، فهي في الأساس لا تقرأ ولا تكتب. لكن فطرتها النقية وقلبها السليم، وثقافتها العقلية والروحية والنفسية، جعلتها تقرأ "كتاب الحياة" على النحو الأكمل والأجمل.
ماذا يريدُ المرءُ أكثرَ من هذا ليتأكد أن التحضر لا يحتاجُ إلى "شهاداتٍ عُليا" بل إلى "نفوس عُليا”.
ماذا يريدُ المرءُ أكثرَ من هذه المواقف الإنسانية العفوية الجميلة بين المسلمين والمسيحيين لكي يتأكد لنا أننا نعيش لحظة حضارية جميلة، أدامها اللهُ علينا!
ماذا يريدُ المرءُ أكثر من هذا ليتأكدَ أن الجمال والطيبة مَلكاتٌ مغروسةٌ بالفطرة في نفوسنا بأمر الله تعالى منذ ميلادنا، وكل ما علينا هو مكافحة أن تنتزعها يدٌ باغضة أو حناجرُ زاعقة تنادي بالفرقة والشتات والتمييز والبغضاء.
ماذا يريدُ المرءُ أكثرَ من هذا ليتأكد أن العنصريةَ والطائفيةَ والتنمّر على المختلف العَقَدي، جميعَها بلاءاتٌ وأمراضٌ خبيثة وويلٌ مقيتٌ نحمدُ اللهَ أن تخطّانا ولم يُصبنا، وندعو لمن أصابته سهامُه بالشفاء والعفو والبراء.
هذه السيدةُ الجميلة كثيرًا ما رافقتني في زيارات لدور مسنين ودور أيتام. وتقوم بدورها التنويري في الحي الشعبي الذي تسكنُ فيه حتى صارت لسان الحقوق والمواطنة تتكلم مع جيرانها بلسان حضاريّ بسيط، فتعلّم أبناءَ حيّها ضرورة نبذ التطرف وقيمة نشر مبادئ السلام والمحبة بين الجميع.
في بداية العام الجديد ٢٠٢٥، قررتُ أن يكون أول مقالاتي فيه هديةً لهذه الجميلة التي ترافقني رحلتي الشاقّة الشيقة مع صغيرنا الجميل "عمر"، وأردِّدُ معها دعاءها الذي تقوله كل فجر: “ربنا يطعمنا فيك يا عُمر". أقول لها "شكرًا"، وكل عام وقلبُها نظيفٌ نقيّ كما هو. وكل عام ومصرُ غنيّة بشرفائها من جميع المشارب والثقافات. عام سعيد على الجميع، اللهم اجعله عامًا طيبًا على جميع البشر.
***