طقسُ الشتاء والقراءة في -معرض الكتاب-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 10:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
بالنسبة لنا نحن المصريين، أظن أن هناك ارتباطًا شرطيًّا بين الكتاب والشتاء. مثلما هناك ارتباطٌ "أدبي معنوي" بين الكتاب وبداية العام؛ ربما لأن القراءةَ هي البداية. بدايةٌ لكلِّ جميل وثريّ. وثمّةُ ارتباطٌ "عملي" بين الكتاب وبرودة الطقس؛ لماذا؟ هل لأن القراءة تمنحُ الدفءَ للعقل والقلب معًا؟! ربما. في العام ٢٠٢١، وهو العامُ الذي تلى حظر كورونا، بعدما صمت "معرضُ القاهرة الدولي للكتاب" عن الكلام عامًا. في ذلك العام أخلفَ المعرضُ موعدَه المعتاد وزارنا في شهر يونيو بسبب الجائحة، وها هو يعود إلينا في يناير لنُطفئ شمعتَه السادسة والخمسين، ونتمنى معه أمنيةً جميلة لمصر الجميلة. "معرض القاهرة الدولي للكتاب" أحد أضخم وأقدم معارض الكتب في العالم، وأكبر معرض كتاب في العالم العربي، يزوره سنويًّا أكثر من مليوني زائر، ويعرض كتبًا لمئات دور النشر من كل أرجاء الدنيا. أنشأته "الهيئة المصرية العامة للكتاب” عام ١٩٦٩، احتفالا بعيد الميلاد "الألف" لمدينة القاهرة، التي تأسست رسميًّا عام ٩٦٩ م.، بينما كان ميلادُها الفعليّ قبل الميلاد بألفي عام وعُرفت بأسماء شتى: أون، منف ممفيس، هليوبوليس، الفسطاط، بابليون مصر، العسكر، القطائع، وغيرها، قبل أن يستقرَّ اسمُها الحالي الجميل: “القاهرة".
وكذب مَن قال إن القراءة للتثقف والمعرفة. وكذب من قال إنها للاستمتاع وحرق أوقات الفراغ. القراءةُ أبعد من هذا وأشدُّ أثرًا. القراءةُ دواءٌ مجاني لأمراض البدن والأعصاب والدماغ. انهلوا من إكسير الحياة في "مركز مصر للمعارض الدولية" بالتجمع الخامس، هذه الأيام، لأن في القراءة حياة. فقد أثبت الطبُّ أن مَن يقرأ يوميًّا غالبًا لا يضربه مرضُ آلزهايمر، الوحش الذي يأكل ذاكرة الإنسان ويلتهم تاريخه. في دراسة نشرتها مجلةُ: Destination Santé حول علاقة القراءة بالصحة العقلية، قالت: “اقرأوا الكتبَ، الصُّحفَ، المجلات، والعبوا الشطرنج، ولا تستسلموا للكسل!". تلك النصيحةُ الموجزةُ هي نِتاجُ دراسات مكثفة قام بها باحثون عالميون، خرجوا على إثْرِها بتوصيات تقول إن على الإنسان أن يُشغِّلَ ويُفعِّلَ خلاياه الذهنيةَ والعصبيّة باستمرار، وطيلةَ عمره. لأن تلك الخلايا ليست إلا عضلاتٍ مثلها مثل أي "عضلة" في الجسم؛ تفقدُ قدرتها على العمل إن رَكنَتْ إلى الكسل والرخاوة، وتنشطُ قواها إن مُرِّنَتْ وأُجهِدَت في التدريب المستمر. تمامًا مثلما يمرّن الرياضيون عضلاتهم بالركض اليوميّ والتريّض. وأكّد الباحثون أن الدماغَ، شأنُه شأنَ الساقين والذراعين والخِصْر، يحتاجُ إلى تمارينَ دائمةٍ، لإبعاد شبح آلزهايمر، وغيره من الأمراض العقلية والجسدية. ولهذا السبب ربما أطلقتِ العربُ اسمَ "رياضيات" على عِلم الجبر والتفاضل والتكامل وحساب المثلثات، الخ، لأنها ليست إلا رياضةً للذهن. فهي للدماغ مثلما الرياضةُ للبدن. وهنا نقطةٌ تُحسَبُ لعبقرية اللغة العربية على اللغات الأخرى التي أطلقت على ذلك العلم أسماءً مثل Mathematics المشتقة من الجذر الإغريقي Mathema التي تعني: “ما تمَّ تعلّمه، أو معرفته". وكانت الكلمة تُطلق على معظم العلوم وحتى الفلك، قبل أن ينفرد الاسمُ فقط بعلم الرياضيات المعروف حاليا، من جبر وحساب مثلثات وتفاضل وتكامل، وغيرها من رياضات الذهن الجميلة. وأتذّكر الآن العبارة المدهشة التي كتبها الفيلسوفُ الإغريقي "أفلاطون" على باب "أكاديميا" التي كان يشرح فيها لطلابه مبادئ الفلسفة: (مَن لا يعرفُ الرياضيات والهندسة، لا يدخل علينا.) هنا يتأكد لنا العلاقة الوثقى بين علم المنطق وبناء الذهن الصحي السليم.
أجرى الباحثون دراستَهم على نحو سبعمائة شخصٍ يبلغون من العمر ثمانين عامًا. وجاءتِ النتيجةُ كالتالي: كبارُ السنّ النُشطاء "ذهنًا"، معرضون بنسبة أقلّ للإصابة بمرض آلزهايمر، مقارنةً بأشخاص لم يمارسوا أيَّ نشاط فكريّ خلال أعمارهم. وإذًا، تكفي قراءةُ كتابٍ من وقتٍ إلى آخر، للوقاية من أمراض الشيخوخة الذهنية مثل الخَرَف والنسيان والتراجع العقليّ وفقدان القدرة على التحكم في الوظائف الحيوية. لهذا قيل إن مَن يقرأ يعيشُ ألفَ حياة، لا حياة واحدة. وأجرت الأممُ المتحدة دارساتٍ وأبحاثًا حول عادات القراءة لدى مختلف شعوب العالم. أفادتِ تلك الدراساتُ أن معدَّلَ ما يقرأه الفردُ، سنويًّا، على طول العالم العربيّ وعرضه، هو ربعُ صفحة فقط(!)، فيما معدّلُ ما يقرأه الفردُ الأمريكيّ أحد عشرَ كتابًا، والبريطانيّ ثمانية كتب، كلَّ عام. أما الإسرائيليّ المحتلّ فيقرأ أربعةَ كتبٍ شهريًّا، أي "ثمانية وأربعين" كتابًا كلّ العام! مصادفةٌ عجيبة لرقم حزين (٤٨)!
في معرض الكتاب لا يُباع الكتاب، بل تُقدّم مفاتيحُ الأبواب المؤدية إلى عوالم السحر. كل غلافٍ عتبة، كل صفحةٍ خطوة، وكل فكرةٍ ضوءٌ ينير بقعة معتمة من العقل. كلّ معرض كتاب ومصرُ جميلة ومشرقة وآمنة. اقرأوا تصحّوا؛ لأن في القراءة حياة .
***
***