كسّارة البندق … عصا -نادر عباسي-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8209 - 2025 / 1 / 1 - 12:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

ننتظرُها في نهاية كل عام مع أعياد الميلاد في مثل هذه الأجواء الصقيعية التي لا يدفئها إلا الأملُ في عام جديد طيّب لا ترهقه الأحزانُ والويلاتُ. ننتظرُ "كلارا"، الطفلة التي تكبرُ خارج الزمان، تحمل عروستها "كسارة البندق" التي سرعان ما تغدو أميرًا وسيمًا يخترقُ أحلامَها ويخطفها إلى عالمه السحري، حيث ممالك الحلوى ورقصات شيكولاتة الإسبان، وقهوة الشرق، وشاي الصين، وماتروشكا الروس، وحيث الموسيقى لا تُسمع بالأذُنين، بل تُشكِّلُ من النغمات سحاباتٍ شفيفةً تدور حول جسدك في دوامات كارمان، في إعصارٍ رحيم من الجمال يخترق كل ذرّة في جسدك، حتى تذوبَ وتتحولَ أنت ذاتُك إلى نغمةٍ ترنو بعينيها إلى عصا المايسترو، الذي يقودُ هذا المحيطَ الهادرَ من العذوبة، فيشيرُ إليك بعصاه أن تطير في الهواء، وتأخذ مكانَك في شلال الموسيقى. حينما تتحولُ أنت إلى نغمة، ستتبدل حواسُّك، فالسمعُ يصيرُ إبصارًا، والإبصارُ يغدو استنشاقًا لعبير الزهور، واللمسُ يصبح تذوّقًا لحلاوة الشهد المُصفّى الذي يقطر من الزهور والفراشات التي ترقصُ الباليه.
موسيقى العظيم "تشايكوفسكي"، على أصابع "أوركسترا أوبرا القاهرة" بقيادة المايسترو "نادر عباسي"، ورقصات "فرقة باليه أوبرا القاهرة" بقيادة الجميلة "إرمينيا كامل" والمعهد العالي للباليه، وأكاديمية الفنون، وتصميم "إيفانوف فايونين"، و"عبد المنعم كامل"، وديكور "سولودوفنيكوف" و"محمد الغرباوي"، وإضاءة "ياسر شعلان"، وتنسيق "محمد عبد الرازق"، وخشبة المسرح الكبير في "دولة الأوبرا المصرية"… تصوروا حين تحتشد كتائبُ السحر هذه لغزل ساعتين من الاغتسال الروحي! وحين يُضافُ إلى ما سبق جمهورٌ مثقف ذوّاقة يعرف قيمة ما يُقدّم له من جمال أنيق، فيعرفُ متى يُنصتُ ومتى يُصفّق، ومتى يحبس أنفاسه حينما يعبرُ النغمُ بين ثنايا فساتين الباليرينات، ومتى يُغمض عينيه ويترك جسدَه ليتسامَى ويتحور إلى نغمة تحركها عصا المايسترو، هنا تكتمل أنشودةُ الجمال.
حينما بدأت رقصة الزهور، حيث تتحوّل الباليرينات إلى زهور ترقص، لاحظت أن صغيري المتوحد "عمر" قد تقدّم في مقعده إلى الأمام وكأنه يود أن يلغي المسافة بينه وبين خشبة المسرح، رغم أننا كنا في الصف الثالث! نظرتُ إلى عينيه وكان شاردًا يُنصتُ إلى الموسيقى ويتأمل الباليه وقد انعزل عن الواقع، فأدركتُ أنه في لحظة الذوبان التي نتحوّل بعدها إلى نغمة. ولم يعد لي ابني إلا بعد نهاية العرض المبهر. لكنه ظلَّ طوال الطريق نحو البيت يدندن بصوته الجميل لازمةً من "فالس الزهور”: “دو مي صول مي فا صول لا صول/ مي فا مي دو ري دو ري مي.”
أكاد أرى "تشايكوفسكي" وهو يكتب موسيقى "كسارة البندق" وهو يتخيل هذا المايسترو المصري العظيم في ليلة ساحرة، بعد ١٣٢ عامًا، يحمل عصاه السحرية ويقود الأوركسترا على النحو الأكمل والأتم والأجمل، فيومئ "تشايكوفسكي" إيماءة الرضا، ويبتسم، ويُكمل التأليف.
دعوني أحدثكم قليلا عن المايسترو الاستثنائي "نادر عباسي". حينما يزور أية دولة أوروبية لكي يقود أوركسترا ذاك البلد، ترفعُ الحكومة "علمَ مصر" في الشوارع المحيط بالفندق الذي ينال شرف استضافته طوال مدة إقامته. تعرفُ دور الأوبرا في جميع أنحاء العالم قدَره الرفيع مثلما نعرفُ نحن المصريين قدَره ونفخر به كما تفخر به مصرُ. قبل عشر سنوات، في ذروة عنف الإرهاب الذي تزامن مع تنظيف مصر من دنس أعداء الجمال، وضع على صفحته صورة رجلين يعتمر كلٌّ منهما خوذة مصفحة ويحمل كلٌّ منهما بندقية يصوّبها إلى صدر أخيه. بعد برهة قليلة سوف تسقطُ ضحيةٌ بشرية مضرجة في دمائها، بمجرد أن تضغط السبابة على زناد السلاح الأصمّ. جوار الرجلين، يقف تمثالٌ رخامي لامرأة جميلة تضع فوق كتفها الأيسر آلة فيولين نحيلة، لكنها، على نحولها، تحمل الحياة والعذوبة لمجرّة من الحزانى. وتقبضُ الحسناءُ بيمناها على القوس الذي إن مرّ وترُه على أوتار الفيولين، انطلق النغمُ الشجيُّ، الذي يجب أن يعلو صوتُه على صوت الرصاص، حتى نستحق الحياة. تحت الصورة كتب المايسترو ما يلي: Stop the Violence. Music can Make a Better World أوقفوا العنف. بوسع الموسيقى أن تخلق عالمًا أفضل.
نعم، صدق المايسترو "نادر عباسي”. الفنون الراقية تهذّب الروح وتكافح الجريمة، وتقوّم الخارجين عن القانون. طبّق المايسترو نظريته حين ذهب مع أوركسترا مارسيليا الفيلهارموني إلى أحد السجون الفرنسية، وعزفوا للنزلاء عددًا من المؤلفات الموسيقية العالمية منها فالسات الدانوب الأزرق و كسارة البندق و بحيرة البجع وأوبرا كارمن وغيرها مما ينقّي الروح من شوائبها. وفي مقال قادم سوف أحكي لكم نهاية قصة السجناء مع الموسيقى.
شكرًا للبايرينا الجميلة د. “لمياء زايد"، مديرة دار الأوبرا المصرية، على استضافة الجمال.
***