المولد النبوي .. وطقس عروسة الحلوى


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8104 - 2024 / 9 / 18 - 12:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


مازلتُ أذكرُ في طفولتي لحظات اللهفة والترقّب التي تسبقُ خروجي مع أمي لشراء "عروسة المولد" استعدادًا للمولد النبوي الشريف، يوم ١٢ ربيع الأول من كل عام هجري. في الطريق إلى حيّ "العتبة الخضراء"، حيث محال بيع حلوى المولد، تزحفُ اللحظاتُ بطيئةً، كأنها الدهرُ اللا ينقضي. تتواثبُ عيناي من نافذة السيارة تمسحُ معالمَ الطريق، تستعجلُ الخُطى وتستحثُّ المسافاتِ أن تنكمش. وبين لحظة وأخرى ألتفتُ نحو أمي لأرمقُ يدَها على عجلة القيادة أرجوها همسًا أن تُسرع لئلا تسبقني البناتُ الأخريات في اختيار العروس الأجمل. وبعدما نصلُ إلى المحل المنشود، تبدأ لحظاتُ الحيرة تدورُ بعينيّ بين الرفوف الكثيرة والعرائس المتراصة فوقها لأختار عروسًا واحدة من بين عشرات الموديلات والأشكال والأحجام. تقول القاعدةُ: كلّما كان حجم العروسة أكبرَ، كانت تفاصيلُ ملامح وجهها أوضح، وفستانُها المزركشُ بورق الكوريشة الملون أكثرَ تعقيدًا وأبهى في تعدّد طبقات الكرانيش زاهية البريق. ثم تأتي لحظةُ القرار والاختيار. لابد من حسم الحيرة الآن واختيار عروس على وجه السرعة. يحدث هذا بمجرد أن تنظر أمي في ساعتها وألمحَ سيماءَ الضجر ونفاد الصبر على وجهها حين تقول بحسم: (يالله اختاري عروسة عشان تأخرنا!). تتأجج الحيرةُ فأشيرُ إلى هذه، ثم إلى تلك، ثم أتشبّثُ بتلك الهائلة التي تقفُ على الباب يُزيّن بها التاجرُ محلّه. فترفض أمي شراءها بحجّة أن تلك العروس أطولُ مني أنا شخصيًّا، ثم كيف سنحملها في السيارة وهي بهذا الحجم الهائل، وأين سنضعها في البيت وووو، ويُقاطعنا البائعُ في هدوء وقد بدأ صبرُه هو الآخر في النفاد قائلا: (العروسة دي أصلا مش للبيع يا هانم، دي ديكور للدعايا.) فأتنازلُ عن حُلمي الصغير صاغرةً، وأوافق على عروسة أصغر حجمًا. بعشقٍ، أحملُ عروستي بين ذراعي، وبحذرٍ أُجلسُها إلى جواري على المقعد الخلفي للسيارة، ونبدأ رحلة العودة إلى البيت. هنا تبدأ لحظات القلق على الكنز الثمين. عيناي لا تبرحان عروستي، وقلبي يخفقُ مع كل مطّب في الطريق خشيةَ أن تنكسر العروس والحلم. فأطلبُ من أمي أن تُخفضَ السرعةَ، بينما أتمنى أن تطير بعروستي إلى بيتها الجديد.
لحظاتُ الشغف والترقّب، لحظاتُ الاستعجال والحيرة، لحظةُ القرار والاختيار، ولحظات القلق على الكنز؛ ثم تأتي اللحظةُ الأصعب. المسابقة التي نُجريها نحن طفلات العمارة والحيّ بين عرائسنا، لنرى مَن صاحبة العروس الأجمل والأكبر حجمًا والأكثر أناقةً والأوسع كرانيشَ. ثم يأتي الصبيان الصغار من أبناء الجيران للمشاغبة، يحمل كلٌّ منهم حصانًا يجلسُ فوقه فارس. ومع الحُصُن والفرسان، يحملُ الأولادُ "شرورَهم الصغيرة" حين يبدأون في إزعاج البنات وإفساد لحظات مرحهن، بتكسير أجزاء من عرائسنا واختطافها وهم يتصايحون ويتضاحكون غير عابئين بدموعنا وصرخاتنا ونحن نرى عرائسنا تتكسّر وتتهاوى وتسقط عنها كرانيشُها وتيجانُها وأكاليلُ رؤوسها. ثم ننتبه، نحن البنات، أن لا طائلَ من الدموع، وأن لحظة "الانتقام" قد أذنت، فنقرع أجراسَ الحرب. نصوّبُ سهامَ غضبنا نحو الفرسان وحُصُن الحلوى، ونبدأ في تكسيرها والتهام ما تيسّر، مثلما فعلوا بعرائسنا. وبعد المعارك، نبدأ في الضحك جميعنا، فيما نلتهمُ قطع الحلوى المصنوعة من عسل النحل والنشا، من يد العروس هذه أو رأس الحصان ذلك أو أو عنق الفارس ذاك.
كبرنا وكبرت لحظاتُنا وثقُلت همومُنا وصنع اللهُ من أجسادنا عرائسَ جميلة وفرسانًا حيّة من الأطفال أحلى من السكر. ولكن أطفالنا لم يعبئوا بعرائس المولد ولا فرسان الأحصنة. لا يطلبونها ولا اختبروا شغفَ طفولتنا على عتبات العروس والفارس فوق حصانه. كبرتُ وفهمتُ لماذا كانت أمي تتخلص من العروسة بعد المولد مباشرة، حماية لي من السكر المُضرّ جدَّا بالصحة. وصِرتُ مثلها أنفرُ من حلاوة السكر، وأقتربُ من "حلاوة المعاملة الطيبة" مع الآخر. تلك هي "حلاوة الإيمان المصفّاة". وحين حدثتني مديرة منزلي عن غلاء سعر حلاوة المولد، قلتُ لها إياك وتلك السموم، وإن جاءتك علبة حلاوة تخلصي منها حفاظًا على صحتك. لكنها أخبرتني أن خطيبة ابنها لابد تُهدى علبة حلاوة، وإلا عُيّروا. ووجدتُ من العبث أن أشرح لها أن "حلاوة المولد" تقليدٌ لا علاقة له بالدين ولا بميلاد مولانا الرسول، وإنما هي عادة ابتكرها الفاطميون لجمع الناس على مشترك مبهج في مناسبة دينية. لهذا أومأتُ برأسي موافقةً، والتزمتُ الصمت. كل عام وكل البشرية في خير وفرح ومحبة وسلام. ومولد نبوي طيب على كل الدنيا.

***