-عيد الحب- … يبحثُ عن شجرة الزيتون!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 00:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


“الحبُّ". كلمة "ثقيلة" في ميزان قاموس الكلمات؛ والثِقَل هنا بمعنى القيمة الرفيعة والمكانة العزيزة، وصعوبة المنال. “الحبُّ" هو "الرقمُ الصعب" في قاموس النفس البشرية، وهو "المفتاح السحري" لحلّ جميع المشاكل والعثرات والمواجع والآلام، في تقديري الخاص. “غيابُ الحب" هو أصلُ جميع شرور العالم دون استثناء، لا شك عندي في ذلك، وعندي ألفُ دليل. ما يحدثُ في لبنان وفلسطين، اليومَ ومنذ شهور طوال بل منذ أعوام طوال، وما ترتكبه إسرائيل من عنف وتدمير وحشي لكل ملامح الحياة من قتل أطفال ونساء وشيوخ وهدم مدارس ومشافي، بل استهداف عمدي وقتل الكوادر الطبية والمُسعفين لكي يُقضى على كلّ أمل في الإنقاذ والغوث، سببه غلاظةُ القلب وسوادُه، وهي من تداعيات "فقر الحب”. ما حدث منذ ساعات في أحدى قرى المنيا، أيًّا ما كان سببه، سببه غياب الحب. خيانةُ الوطن سببه غياب الحب. الإرهابُ سببه غياب الحب. إهمالُ الموظف في عمله سببه غياب الحب. عقوقُ الوالدين والانهيارُ الزوجي وقسوة الآباء على أطفالهم والظلمُ بوجه عام سببه غيابُ الحب. تأخر شفاء المريض وعدم تعافيه، بل أحيانًا المرضُ نفسه سببه نقص الحب. الفقراء والمعوزون والجوعى والمشردون لهم نصيب في مرمى "نقص الحب" لدى من يملكون لهم الغوثَ، ولا يفعلون.
وهذا "عيد الحب المصري" قد حلَّ علينا قبل أيام. لكن العيدَ يبحث عن الحب ويفتقده. هذا العيدُ ابتكره الصحفي الكبير الراحل "مصطفى أمين"، حتى يحتفي بالحبّ الأشمل بين الناس جميعًا يوم ٤ نوفمبر من كل عام، وليس الحب الرومانسي بين المرأة والرجل كما “الفلانتين” يوم ١٤ فبراير. ويعود السببُ في ابتكاره إلى يوم ٤ نوفمبر عام ١٩٨٨، حين مرَّ نعشٌ لا يسير وراءه إلا رجالٌ ثلاثةُ، من أمام الصحفيُّ الكبير، فاندهش وسأل المارّةَ عن المتوفى الذي خلت جنازتُه من الُمشيّعين! فعلم أن الراحلَ عجوزٌ في السبعين، عاش عمرَه دون أن يحبَّ أحدًا، فلم يُحبّه أحدٌ، ولم يحزن لفراقه أحدٌ، فلم يشيّعه أحد. حزن "مصطفى أمين" وأسرع إلى مكتبه بجريدة "الأخبار" وكتب في عموده الصحفي الشهير: "فكرة"؛ يستأذن قرّاءَه في إطلاق ذلك اليوم عيدًا للحب، لكلّ مَن نسى الحبَّ، حتى نتذكّر ونُذكِّر بعضنا البعض بتلك القيمة الهائلة، التي لو غابت عن قلوبنا، نتحول إلى مجموعة من الهمج والوحوش. وكان "عيد الحب المصري" الذي تجاوز “عيد الفلانتين” إلى رحاب أوسع مدًى من مجرد العشق بين رجل وامرأة، إلى عشق الإنسان لكل البشر ممن لا تربطنا بهم روابطُ معرفة أو مصلحة، أو قرابة أو عمل. الحبُّ في إطلاقه لله ولجميع خلق الله.
الحبُّ الشامل لكل الناس، قيمةٌ عليا لا يدركها إلا ذوو العزم الأتقياء. فأنت حين تحبُّ أطفالَك وأقرباءك، تشبه القطةَ التي تحبُّ أولادَها ثم تفترس الفأر! وتشبه الأسدَ الذي يحنو على أسرته، ثم يفترس الظِّباء. ولكي تعلو درجةً عن مرتبة القطة والأسد، وتستحق لقب: "إنسان"، عليك تجاوُزُ عشيرتَك ليُظلّل حبُّك مَن لا تعرف من بني الإنسان. في هذا قال أحدُ الفلاسفة: “الإنسانُ العادي يتوافق مع الجماعة التي ينتمي إليها. أما الإنسانُ الفائق؛ فيشعر بانتمائه للبشرية جمعاء؛ فيتجاوز حدودَ جماعته؛ ليخاطب الإنسانيةَ كلها بلغة الحبّ."
يُحكى أن الملكَ الفارسي أنوشيوان أعلن عن جائزة قدرها ٤٠٠ دينار لمَن يقول "كلمة طيبة"، غير مسبوقة. ثم تجوّل في أرجاء مملكته رفقةَ حاشيته. فشاهد فلاحًا عجوزًا تخطّى التسعين، يغرس شجرة زيتون. فسأله الملكُ متعجّبًا: "هل تغرس شجرةً لن تأكل منها ولن تتذوّق ثمارها أبدًا؟! ذاك أن شجرة الزيتون تحتاج إلى عشرين سنة حتى تُثمر، وأنت طاعنٌ في العمر، ودنا أجلُك؟!" فقال الفلاحُ الفصيح: "زرع السابقون؛ وحصدنا. كذلك نزرعُ ليحصد اللاحقون.” فقال الملكُ: “هذه كلمةٌ طيبة.” وأمر له بأربعمائة دينار.
ولستُ واثقة من صحّة مقولة "فاقدُ الشيء لا يُعطيه" على إطلاقها خصوصًا في هذا الصدد. لأنني أوقن أن مَن حُرموا من الحب قادرون على نثر الحب من حولهم، لأنهم مدركون وجع فقدانه الذي عانوا منه طوال حياتهم. ربما مَن تنعّم بالحب منذ مولده لا يدرك قيمة الكنز الذي يملك، لكن الذي حُرم منه يدرك. تمامًا مثل الثري الذي ولد لأسرة ثرية، من المرجح ألا يعرف فيمة المال والثروة، على عكس الفقير الذي يعرف قيمة كل قرش يجنيه بالكد والتعب.
ليتنا نعلّم أطفالنا في المدارس "قيمة الحب"، عن طريق تكوين فرق العمل الجماعي، وعمل رحلات لدور الأيتام ودور المسنين وتدريب الأطفال على الخدمة المجتمعية وتعليمهم نثر الحب من حولهم وعقد المسابقات لمكافئة مَن ينثر بذور الحب ويزرع أشجاره في المجتمع.

***