-ماسبيرو- … هرمُ مصرَ الرابع


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8052 - 2024 / 7 / 28 - 11:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في مصر العظمى أكثرُ من مائة هرم شُيدت في مختلف العصور. فعطفًا إلى الأهرامات الثلاثة الشهيرة: “خوفو"، "خفرع"، "منكاورع"، لدينا: "زوسر"، "سخم خت"، "سنفرو"، "أوسر كاف"، "ساحورع"، "نفر إر كارع"، منكاو حور"، "سنوسرت: الأول والثاني والثالث"، "أمنمحات الأول والثاني والثالث"، وغيرها العديد المنسوبة لأسماء الملوك الذين شُيّدت الأهرامات لحفظ جثامينهم وكنوزهم، انتظارًا للحظة البعث، وفق المعتقد المصري القديم. على أن المستقرَّ في العقل الجمعي أن بمصر أهراماتٍ ثلاثةً وحسب، تلك المسجلة على مواقع اليونيسكو للتراث العالمي، أكبرها من عجائب الدنيا السبع. ولهذا جرى الاصطلاحُ حين نودُّ أن نُجلَّ أثرًا أو مُنشأة، أو حتى شخصية مصرية عظيمة، أن ننعتها بقولنا: “هرم مصر الرابع".
واليوم أكتبُ عن أحد أهرامات مصر الحديثة في عيد ميلاده الرابع والستين، تقديرًا لمكانته الرفيعة، ورجاءً أن يعود لمجده الذي ولد عليه يوم ميلاد بّثه الأول في ٢١ يوليو ١٩٦٠. أتكلم عن "مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري" الشهير بـ "ماسبيرو" وقد اتخذ لنفسه هذا الاسم تخليدًا لعالم المصريات الفرنسي "جاستون ماسبيروو" الذي أحبَّ مصرَ ودرس تاريخَها وحافظَ على آثارها وقام بجهد محترم لمكافحة سرقة الآثار المصرية القديمة، وساعد العالم الأثري المصري "أحمد كمال" باشا في استعادة مئات المومياوات المنهوبة ونقلها إلى المتحف المصري.
أقفُ أمام صرح "ماسبيرو" العظيم، فأشعر بالفخر كونه أقدم تليفزيون حكوميّ في أفريقيا والشرق الأوسط بعد تليفزيون العراق. أجلسُ على ضفّة النيل، في مواجهة "ماسبيرو" وأُنصتُ إلى كلِّ إشارة بثّتها أعمدةُ موجاته منذ افتتاحه في العيد الثامن لثورة يوليو ٥٢.
في قلب كل مصري، خصوصًا أبناء الشارع الثقافي، عشقٌ خاص لهذا الصرح العظيم. فهو بمثابة "المعلم الأول" لكل مثقف من جيلي. فأمام شاشته الفضية كنّا نجلس صغارًا لكي نراقبَ أسرارَ طفولتنا مع "سلوى حجازي"، و"نجوى إبراهيم"، ونتعلّم الفيزياء والبيولوجيا من الدكتور"مصطفى محمود" في "العلم والإيمان"، ونعرفُ أسرار الحيوان من "محمود سلطان" في "عالم الحيوان"، ونشاكسُ ممالك البحار مع الدكتور "حامد جوهر" في "عالم البحار"، ونتعلّم تفسير القرآن من الإمام "الشعراوي" مع "أحمد فراج" في "نور على نور"، ونُطلُّ على العالم من "نافذة على العالم" مع "منال الأتربي"، ونتابع الأفلام الغربية مع تشريح نقدي رفيع مع الدكتورة "درية شرف الدين" في "نادي السينما"، ونتعرف على أحدث الأغنيات الغربية مع "حمدية حمدي" في "العالم يغني"، ونصافح مشاهيرنا مع "سمير صبري" في "هذا المساء"، ونبتهج في سهرات رمضان مع فوازير "نيلي" و"سمير غانم" و"شريهان"، ونتعرّف على ثقافات العالم الغربي مع "ميرفت فرّاج" في "بانوراما فرنسية"، ونرتوي بقطوف الفن مع "فريال صالح" في "اخترنا لك"، ونتجوّل في دروب المحروسة مع “سهير شلبي” و"نهال كمال" و"أحلام شلبي" وشافكي المنيّري" و"نهلة عبدالعزيز" في "تاكسي السهرة"، ونصافح رجل الشارع البسيط مع "طارق علام" في "كلام من دهب"، ونلامس أحوال مصر مع "مفيد فوزي" في "حديث المدينة"، ونختصمُ الخارجين عن القانون مع "رواية راشد" في "خلف الأسوار"، ونضحك مع مقالب "إبراهيم نصر" في "الكاميرا الخفية"، وننقّب كنوز ترابنا مع "سرّ الأرض"، ونصافح وجه مصر الجميل مع "صباح الخير يا مصر"، ونتابع أخبار الدنيا مع عظماء الإعلام: “همت مصطفى"، أحمد سمير"، "محمود سلطان"، ونصافح تراثنا الشعبي مع "سامية الأتربي" في "حكاوي القهاوي"، ونعاين وجه مصر الثقافي الأنيق مع “ليلى رستم” وحواراتها القديمة الخالدة مع عمالقة الفكر والأدب والثقافة”، وغيرها من دُرر الأعلام وفرائد البرامج.
تجول في أعماقنا تلك النوستالجيا، فنحزن على ما آل إليه هذا الصرح التثقيفي الإعلامي العظيم، ونتمنى أن يعود إلى مجده الذي ينبغي له. لو كنتُ رجلَ أعمال ثريًّا، لمددتُ يدي الصغيرة لتسند حجرًا في هذه الهرم الذي يليق به الخلودُ خلودَ الأهرامات. كل عام وماسبيرو خالد.
***
ومن نُثارِ خواطري
***
(بصر)
عندما يأتي المساء
يخرجُ الغيمُ
كعادتِه كلَّ غسقٍ
يسترقُ السمعَ لصوتِ الله
فيما يسقي الحقولَ
بِـ رِيِّ الحروف
والمعاني
وهناك
خلفَ زرقةِ السماء البعيدة
عند انشطارِ الحقيقةِ
فوق حافةِ الجبل
يمسحُ العارفون صفحةَ عيني
فتتلوّنُ تحديقتي المغروسةَ
في زرقةِ الشاشةِ
بشيءٍ من البصر.

***