النبلُ … صوتُ الدفاع عن حقّ الآخر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8031 - 2024 / 7 / 7 - 11:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

دخل البروفيسور إلى قاعة المحاضرات في إحدى الكليات الغربية التي تدرّسُ القانون. جال ببصره بين طلاب السنة النهائية. وقع بصره على إحدى الطالبات: شابة جميلة في مقتبل حياتها. أشار نحوها بإصبعه وقال بكل هدوء وحسم:
- البروفيسور: أنتِ هناك... في المقعد الثاني…. أنتِ ذات الفستان الأزرق…. ما اسمُكِ؟
ابتسمتِ الطالبةُ وقالت:
- الطالبة: اسمي أليكسيس.
- البروفيسور: أليكسيس... أرجو منكِ مغادرة القاعة فورًا …. ولا أريد أن أراكِ في أيٍّ من محاضراتي مرة أخرى.
اصفرَّ وجهُ الفتاة، وعلا محياها سيماءُ الإحراج والانسحاق:
- الطالبة: لم أفهم!
- البروفيسور: لن أعيدَ كلامي…. شكرًا لك.
وأشار نحو باب القاعة.
أغلقتِ الطالبةُ حاسوبها والدموعُ متحجّرة في عينيها…. جمعت أغراضها… أخذت حقيبتها وتوجهت نحو باب قاعة المحاضرات تتعثّر في خجلها، وخرجت وسط دهشة زملائها وهمهمات التساؤل الصامت، تلك التي قطعها البروفيسور… إذ توجّه إلى الطلاب قائلا:
- البروفيسور: لماذا توجد القوانين؟ ما الغرض من القوانين؟ هل من مجيب؟
- طالب: وجدت القوانينُ لتحقيق النظام الاجتماعي.
- طالبة: لحماية الحقوق الشخصية للأفراد.
- طالبة أخرى: حتى نستطيعَ الاعتمادَ على الحكومة.
وخلال تلك الإجابات المختلفة، كان البروفيسور يومئ برأسه بما يعني أن الإجابات غير دقيقة أو ناقصة أو خاطئة. إلى أن قال طالبٌ:
- العدالة.
أشار البروفيسور بإصبعه نحو هذا الطالب، مستحسنًا إجابته وقال:
- شكرًا لك.
ثم عاد ونظر إلى الطلاب وسألهم:
- البروفيسور: الآن أخبروني…. هل كنتُ غيرَ عادل مع زميلتكم قبل قليل؟
أومأ الطلاب برؤوسهم إشارة الموافقة، فاستطرد البروفيسور قائلا:
- باتأكيد لم أكن عادلا مع زميلتكم. ولكن... لماذا لم يحتجّ أيٌّ منكم؟!! لماذا لم يحاول أحدُكم إيقافي؟! لمَ لمْ ترغبوا في منع الظلم؟!
نظر الطلاب إلى بعضهم البعض في حيرة…. فاستطرد البروفيسور:
- حسنًا، ما تعلمتوه للتوّ خلال مشهد طردي لزميلتكم دون سبب، لن تستوعبوه في ألف ساعة من المحاضرات، ما لم تعايشوه بأنفسكم. الحقيقة أنكم لم تتكلموا لأن الأمر لم يؤثر عليكم شخصيًّا!
أطرق الطلابُ برؤوسهم علامة شعورهم بالخجل، فاستطرد البروفيسور:
- لكن هذا السلوك يضركم ويضر الحياة.
ضحك البروفيسور ساخرًا وأكمل:
- أنتم تظنون أن ما ارتكبتُه من ظلم لا يعنيكم ولا شأن لكم به. حسنًا، أنا هنا اليوم لأقول لكم:
- إذا لم تساعدوا فى تحقيق العدالة، فربما ستواجهون الظلم َذاتَه يومًا ما... ولن يقف بجانبكم أحدٌ. الحقيقة والعدالة مسئوليتُنا جميعًا. ويجب أن نكافح من أجلها جميعًا؛ لأننا في الحياة والعمل، نعيش معًا. ولكن ليس (إلى جانب) بعضنا البعض. نبررُ الصمتَ لأنفسنا بأن مشاكل الآخرين لا تعنينا ولا تخصُّنا…. ونذهب إلى البيت سعداء لأننا نجونا! لكن الأمر يتعلق "بالوقوف إلى جانب بعضنا البعض". الظلمُ يحدث يوميًّا فى العمل والرياضة أو فى الحافلة. ودائمًا ما نعتمد على "شخص آخر" ليعتني بالأمر! وهذا لا يكفي! من واجبنا أن نقف إلى جانب الآخرين... وأن نتحدث باسمهم عندما لا يتمكنون من ذلك. أنا هنا لأعلمكم (قوة الصوت) التي تمتلكونها. أريدكم أن تتعلموا (التفكير النقدي) الذي يمنحكم قوة الوقوف إلى جانب الحق…. حتى لو كان ذلك يعني مواجهة ما يفعله الجميع.
***
انتهى الفيديو القصير الذي شاهدتُه على إحدى المنصّات، والذي أسَرَني لأنه لخّص كلَّ ما تعلمتُه من أبي، رحمه الله، حين كنتُ أراه يقفُ إلى جوار كل مظلوم لا يعرفه، مدافعًا عن حقّه ومكافحًا لرفع الظلم مهما كلّفه هذا من وقت ومال وألم. علّمني أبي أن النبلَ يبدأُ وينتهي عند الوقوف في وجه الظلم، وإن لم يقع علينا مباشرة. هذا مبدأي وتلك عقيدتي، وذاك درسُ أبي.
***
ومن نُثار خواطري:
***
(محكمة)
جئتُ
من أقصى المدينة أسعى
أدخلُ القاعةَ المَهيبة
أنزعُ عن عينيّ
عُصابةَ العدلِ
وريشةَ الضمير عن تاجي
أضعُ المَيزانَ فوق المِنّصَّةِ
ثم أهبطُ الدرجات
وأقطعُ القاعةَ الواسعة
مخترقةً نظراتِ الحضور
تتطايرُ من حولي مثل سهامٍ مارقة
لن أنظرَ إلى نفسي
لكي أتأكدَ أن الروبَ الأسودَ
مُحكمٌ حول جسدي النحيل
فأنا
مازلتُ “ماعت”
دون ريشةٍ ودون ميزان
ألجُ بهدوءٍ خلفَ السياج
أقبضُ بيديّ على القضبان
وأنتظرُ
……
ثلاثَ دقاتٍ
من المِطرَقة.

‬***