-فيروز-… عيونُنا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8174 - 2024 / 11 / 27 - 11:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حينما يضربني الحنينُ إلى مصرَ، إذا ما سافرتُ، أستمعُ إلى "أم كلثوم" و"عبد الوهاب”. وحينما يضربني الحنينُ إلى الإنسانية والطفولة، أُنصِتُ إلى "فيروز"، عصفورة الشمس رمز العذوبة والبراءة. في مثل هذه الأيام الخريفية الجميلة، التي تراوغ بين الصيف بخيوطه الصفراء الحادة، والشتاء بخيوطه الرمادية الحزينة، في نهار خريفيّ يودّعُ صفحة الصيف، وينتظر قطرات الشتاء، قرّرت السماءُ أن تُهدي الأرض المنذورة للأحزان، هدية جميلة؛ فمنحتنا "نهاد حداد"، الطفلة الآسرة التي ستغدو مع الأيام: "فيروز"، جارة القمر.
وكانتِ الصبيّةُ المليحة، كنزُنا الثمين، التي ستكبر يومًا بعد يوم لتغيِّر، مع الرحابنة، "عاصي" و"منصور"، ثم الابن الموهوب "زياد"، وجهَ القصيدة، ووجهَ الموسيقى، ووجهَ الغناء، ووجهَ الطفولة والجمال. كان ذلك قبل تسعين عامًا حين نقطةُ نورٍ سقطت فوق كوكبنا المُطرق على أحزانه فانتبه، ولاح على وجهه ظِلُّ ابتسامة، حين انتبهنا أنها "فيروز"…. غيمةُ القَطْر العذب التي مرّت فوق صحارينا العطشى لكي تُبلِّل حلقَها الجاف.
"فيروز"، ظاهرةٌ عابرة للأزمنة والجغرافيا. ونحن أجيالٌ محظوظة إذ واكبناها. صوتُها يشعرك بعجز اللغة، كلّ لغة، عن الإفصاح. فطاقةُ صوتها وطبقاتُه وموسيقاه ومخزون الطفولة الخبيئة بين موجاته، تقول أكثرَ مما تقولُ الكلماتُ التي يحملها هذا الصوت، وإن كانت كلمات شعراء كبار مثل "جوزيف حرب" و"جبران" و"الأخطل الصغير" و"أحمد شوقي”، أو موشحات أندلسية.
كلُّ مَن تعوّد أن يبدأ صباحَه بصوت "فيروز" يراهنُ على نهارٍ طيب، يبتسم فيه المارّةُ للمارّة دون سبب سوى المحبة، مهما أثقلتِ الهمومُ القلوبَ. نهارٌ يقدّم فيه الإنسانُ أخاه لكي يمرَّ قبله في الطرقات، ويحملُ فيه كلُّ إنسان وردةً ليلقيها على أول ما يصادفه في الصباح! هل هذا "كلام شُعراء" خياليّ حالم؟ لماذا؟! هل غدتِ المحبةُ والابتسامُ والرحمة والطفولةُ أصعبَ من العنف والتجهم والتطاحن؟ كيف سمحنا لأنفسنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه من فقر في الروح وافتقار للحب وقدرة على الإيذاء وقد عاصرنا "فيروز"؟!
أؤمن أن بصوت "فيروز" طاقةً صوفية شفيفة بوسعها أن تنقّي الروحَ من شوائبها وغبارها. طاقةٌ تضع الإنسانَ في حال صلاة دائمة. وإلا ما سرُّ تغيّر مِزاجنا بعد سماع أغنية لفيروز؟ أزعم أن من تعود الاستماع إليها يظلّ طفلا لا يشيخ. "سيكبر خارج الزمن" مثلما قال "صلاح عبد الصبور" عن حبيبته. لهذا أسمعُها تقول لي الآن: "تعا تا نتخبى من درب الأعمار، وإذا هِنِ كبروا نحن بقينا صغار، سألونا وين كنتو؟ وليش ما كبرتو انتو؟ وبنقلون نسينا؟ واللي نادى الناس تا يكبروا الناس، راح ونسي ينادينا!!"
صوتُ "فيروز" لونٌ من الفن يهذّبُ النفسَ. فلا يجوز لإنسان تربّى عليه أن يحقد أو يكره أو يبتذلُ في القول. وهي التي تقول له كلَّ أصيل: "لأجلكِ يا مدينة الصلاة أُصلي، عيوننا إليكِ ترحل كلَّ يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانقُ الكنائسَ القديمة وتمسحُ الحزنَ عن المساجد."
قدّمت "فيروز" لهذا العالم لمحاتٍ من الجمال والالتزام والحب مثلما فعلت رموزٌ تاريخية ساطعة مثل: جيفارا وجان دارك وعبد القادر الجزائريّ والأم تريزا وغاندي وعمر المختار ومارتن لوثر كينج، وغيرهم من إشراقات هذا العالم. مَنْ مثل فيروز بلوّر داخلنا فكرة "العودة" إلى الأرض الُمستلبة؟ مَن مثلها أبكانا على القدس وبذر فينا اليقينُ بعودتها ذات وعد؟ أيُّ شيء مثل صوتها ظلَّ يهتف بالوطن: أنْ عُدْ؟ حتى لكأن الوطنَ يرفض أن يعود كيلا يتوقفَ صدحُها عن الوعد بحُلمٍ طال انتظاره.
وردةٌ مشرقة لعينيك في عيد ميلادك يا "قمر على دارتنا" لكيلا ننسى أن شيئًا حلوًا واكب زمانَنا، وأن الحياةَ جميلةٌ وتستحق أن تُعاش رغم كل ما يحدث فيها من اقتتال وعنف وإرهاب وغلاظة قلوب. نحن المحظوظين، الذين اتفق لنا أن عاصرنا "فيروز"، نرومُ أن نقبض على لحظة "الجمال" هذه قبل أن تمرّ. إذ كيف لنا أن نمرّرَ هبةً سماوية من دون أن نحتفي بها ونحمي وجودَها لكيلا تدهسَها مراراتُ الحياة التي تدهس كلَّ جميلٍ ونقيٍّ في حياتنا؟ كيف لا نسرّب لأجيالٍ تلينا رسالةً تقول إننا كنا واعين أن غيمةً عذبةً مرّت من هنا، فرفعنا رؤوسنا عاليًا ولوحّنا لها بأكفّنا؟ دومي جميلةً أيتها الجميلة الـ"سمرا يا أمّ عيون وساع". وشكرًا يا فيروز لأنكِ موجودة.
تذكرتُ الآن شيئًا. قبل عشر سنوات كنتُ أكتبُ مقالي في مقهى "بيتا باراديس" بمدينة أنهايم / كاليفورنيا. سألتُ النادلَ الأردني أن يُشغّل أغنيةً لفيروز لأن اليوم عيد ميلادها. فقال لي النادلُ "نسيم عُبيدات" مبتسمًا: "تكرم عيونك، بشرط، أن تقولي لها، عيشي ألفَ عام يا فيروز!"