الموتُ … الفقدُ…. غيابُ الأمل
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8048 - 2024 / 7 / 24 - 11:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
ليستِ المشكلةُ في "الموت"، بل في "الحياة" بعد موت مَن نحب. حين يموتُ مَن نحبُّهم، يتلوّنُ العالمُ بغلالة معتمة تحجبُ الضوءَ والإشراق. تتحوّلُ الذكرياتُ الحلوُة إلى وخزاتِ أشواكٍ تقضُّ المضاجعَ فلا نهنأ بنوم أو بصحو. نهربُ من ذكرياتنا مع من نحبُّ، فتتلقفنا غيرُها، ولا يخفُتُ الوجعُ، حتى يغدو العقلُ أداةَ تعذيب نتمنى أن يخمُدَ أو يتوقف عن العمل. نحنُ لا نخافُ الموتَ، لأننا ذاهبون إلى الجمال المطلق حيث وجه الله الذي لا يُخشى في حضرته شيء. لكننا نرتعبُ من رحيل أحبّتنا لأننا لا نتحمّل الحياةَ دونهم. فجيعةُ الموت تكمن في "فقدان الأمل" في رؤياهم من جديد. حين يهاجرُ الذين نحبُّهم، إلى حيث لا ينتوون الرجوع، نظلُّ نأملُ أننا مُلاقوهم ذات نهارٍ مشرق. فهم يحيون والحياة مع وجودهم مُحتملة. لكن الموتَ يصفعُنا بسؤال مُرّ: “معقول مش هاشوفه تاني؟! يعني ايه؟!” للسؤال إجابةٌ نعرفها، لكننا لا نقبلُها.
خلال الأسبوع الماضي اصطدمتُ باثنتين من حالات الرحيل، وعاينتُ هذا الشعورَ المفجع في عيون أحبّتهم. أحدهما صديقي، والأخرى شقيقة صديقي. في جريدة "المصري اليوم" كتب صديقي د. “طارق الشناوي" مقالا موجعًا عن رحيل شقيقته الدكتورة "مها الشناوي". كان بينهما وعدٌ باللقاء لكي يصحبها إلى طبيب شهير. هاتفها ولم تردّ. فقد أخلفت وعدَها معه وسافرت إلى السماء دون أن تودعه. ويحكي صديقي بكلمات من وجع عدم استيعابه فكرة أن شقيقته الحبيبة لم تعد موجودة! في المقبرة وقف أمام ضريحها ذاهلا منفصلا عن الواقع، كأنما يشاهد المشهد من وراء شاشة! وكما نفعلُ في النوازل، راح يهمسُ لنفسه أن هذا المشهدُ مؤقتٌ عابر وغير حقيقي. لابد أن يُطلَّ وجهُ شقيقته، وتركض إليه تعانقه. وفي صباح اليوم التالي راح ينتظر مكالمتها الصباحية المعتادة لتسأله عن كلمة في أغنية أو ذكريات إصدارها، ووجد نفسه على صوت فيروز يهتفُ: “بحبك يا مها"!
الراحل الثاني صديقي الدكتور "محمود العلايلي"، الطبيب المثقف والقيادي السياسي والإصلاحي التنويري الكبير. في مسجد "الشرطة" بالشيخ زايد، دخلتُ أبحثُ بين العيون الحزينة عن عيني زوجته وشقيقته وابنته؛ لكي أعانقَ قلوبَهن. وكما توقعتُ. كانت العيونُ شاغرةً لا حياة فيها، وكأنما ارتسمت على صفحات وجوههن مسحاتٌ من عدم الاكتراث، وهي إحدى "الحيل الذهنية" التي يصنعها العقلُ لكي يتأهب لتحمُّل النوازل الجسام التي لا يتحملها عقل ولا يُطيقها قلب. إنه الذهول وعدم التصديق، أو الأدق عدم الرغبة في التصديق.
مازلتُ أذكرُ لحظة وفاة أمي. في مسجد "النور" بميدان العباسية، كنتُ جالسةً أمام نعش أمي بعد الصلاة عليها، شاغرةَ العينين خاويةَ القلب محطّمة الحواس. وفجأة همست صديقتي في أذني: “ماما واقفة برا وعاوزة تشوفك.” طِرت من الفرح وركضتُ نحو باب المسجد لأقابل "ماما”. فهذا هو المنطق الوحيد بين كل ما يجري من عجائب أعيشُها منذ الصباح من وفاة وتغسيل وتكفين وبكاء ونحيب.مستحيلٌ أن ترحل أمي وتتركني وحيدةً ويدي مازالت مُعلّقةً في طرف ثوبها!!! وصلتُ إلى باب المسجد وبحثتُ عن أمي يمينًا ويسارًا حتى شعرتُ بيدٍ تربت على ظهري وحِضنٍ يتلقفني ويدسُّ رأسي في كنفه. استسلمتُ برهةً لهذا الشعور المُطمئن أن أمي عادت إليّ ولم تمت. لكنني لم أشمّ رائحة أمي ولا شابه دفءُ الحِضن دفءَ حضنِها. رفعتُ رأسي لأبصرَ مَن يعانقني، فوجدتها والدةَ صديقتي، وهي المقصودة بقولها: "ماما برا عاوزة تشوفك"!!! أمي أنا رحلت ولم يعد ممكنًا أن أراها، ومن يومها صرتُ أخافُ اللون الأبيض.
***
(اللونُ الأبيض)
ماذا أعملُ بالثلجِ
عشّشَ في أركانِ البيت
يُخبرني كلّما أنسى
أن البرودة
هي كلُّ ما تركتِه لي؟
ماذا أعملُ بقِطَّتِكِ البيضاء
تُقعي في غرفة المعيشة
تنظرُ في ترقُّبٍ
نحو بابِ البيت
تَرْجُفُ أذناها
مع كلِّ وقعِ قدمٍ
على درجات السُّلّم
تظُنُّها أنتِ
مثلما أظنُّ أنا
ماذا أفعلُ
بالأبوابِ البيْضِ
مغلّقةٍ أمام قلبي؟
بستارةٍ بيضاءَ
ساكنةٍ لأن الشيشَ مُقفَل
ماذا أفعلُ
بالسيارةِ البيضاء العجوز
تبكي غيابك؟
ماذا أفعلُ بشالِك الأبيض
وقطرةٍِ من ماءِ زمْزمَ
عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك؟
ماذا أفعلُ
بخوفي يا أمي التي تركتني وطارتْ
ويدي لم تزل
معلّقةً في طرفِ ثوبِها؟
بعد رحيلكِ... صرتُ أخافُ اللونَ الأبيض.
***