-لعبةُ النهاية- … العبثُ المخيف!!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8087 - 2024 / 9 / 1 - 10:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
مشلولٌ كفيف عصبيُّ المِزاج، يجلس على مقعده المتحرك يحدّق للأعلى ولا يكفُّ عن الثرثرة في انتظار شيء غامض لا يأتي. خادمه الأعرج مصابٌ بداء يمنعه من الجلوس، متبّرمٌ وضجِر لكنه مطيعٌ لأوامر سيده المتناقضة الهزلية المتلاحقة واللامعقولة. ولا ندري أبدًا لماذا لا يتركه ويمضي رغم هذا، ورغم تصريحه بأنه لا يحبُّ سيده حين سأله: هل تحبّني؟ يتحرك الخادمُ هنا وهناك ينظف البيت الخالي تقريبًا من الأثاث ويتجول بمقعد سيده الذي يُصرُّ على المكوث في منتصف الغرفة تمامًا، وكأنه يصبو لاحتلال ذروة اهتمام العالم. وفي أحد أركان البيت، صندوقا قمامة، يسكن فيهما رجلٌ وزوجته، مبتورا الساقين، هما والدُ القعيد الأعمى، ووالدته.
أولئك هم أبطال الحكاية الأربعة الذين يعيشون في مكان ناء فيما بعد الحياة، ينتظرون "النهاية" التي لا نعلم أبدًا ماهيتَها، وإن كانت طيبة أم كارثية. إنها تيمةُ "الانتظار" التي يجيد "صمويل بيكيت" اللعبَ على أوتارها لكي يُشعرك بالقلق الدائم والتهديد والخوف من المجهول، حتى وإن كان ذلك المجهولُ هو "المُخلّص" الغامض الذي أبدًا لا يأتي، كما في مسرحيته الخطيرة "في انتظار جودو" Waiting for Godot التي كتبها "بيكيت" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ليعبّر بها عن حال الإحباط والانكسار الإنساني والخُذلان الذي تعيشه البشريةُ بعد تدمير العالم إثر حربين هائلتين عبثيتين، لا مهرب من تداعياتهما الكارثية إلا بانتظار "مُخلّص" وهمي، لا يطأ بقدميه خشبةَ المسرح/ الحياة. ومع هذا فالجميع في انتظاره، حتى أنا وأنت يا عزيزي القارئ. كلٌّ منّا ينتظرُ شيئًا ما، فإن جاء نبدأ في انتظار غيره، وإن لم يأت فحالُ الانتظار دائمًا على الوضع ON لأنها العلامةُ الوحيدة على الحياة. لا تنتهي حالُ الانتظار إلا بالموت، في "نهاية اللعبة".
Fin de Partie “نهاية اللعبة" كتبها "صمويل بيكيت" بالفرنسية عام ١٩٥٧، وهي استمرار لحال "التروما" الإنسانية التي عاشها "بيكيت" ومجايلوه أثناء الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت رغم الحركات "السلامية" التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، فدمّرت نصف العالم وغّيرت وجهه إلى التجهم والعبوس. فالحروب لا تنتهي بانتهاء التحركات العسكرية، بل تمتدُّ آثارُها السلبية على البشرية إلى نهاية الحياة، أو "نهاية اللعبة". فالحياة لعبةٌ في أصلها "أنما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهو"/ الحديد ٢٠.
نعودُ إلى بيتنا الحزين، وشخصياتنا الأربع كما رسمها "صمويل بيكيت" في واحدة من أعظم أعمال "مسرح العبث" Absurd الذي كان في أصله تمردًا، وربما محاكاةً، لعبثية الإنسان حين يتسيّد ويقتل ويُجوّع ويُمرض ويظلم ويستبد ويطغى…. متوّسلا في ذلك أحطَّ الأدوات القمعية مثل السلاح أو السلطة أو التجهيل المعرفي للبسطاء. “نهاية اللعبة"، أو "لعبة النهاية" كما اختار أن يسميها "البيت الفني للمسرح" على "مسرح الطليعة" العريق احترامًا للعنوان الذي وضعه المخرج الراحل "سعد أردش" عام ١٩٦٢ ليكون أول عرض يُقدم على "الطليعة". تُعرض اليوم في المسرح ذاته في ثوب فني جديد من إخراج "السعيد قابيل"، وبطولة أربعة من المميزين هم وفق الظهور المسرحي: “كلوف" الخادم المتبّرم، وأدى دورَه بعبقرية الفنان "محمد صلاح، "هام" الكفيف المشلول، وأدى دورَه بامتياز الدكتور "محمود زكي، "نيل" الأم مبتورة الساقين التي تسكن صندوق القمامة وأدت دورها بامتياز الفنانة "لمياء جعفر"، وأخيرًا "ناج" الأب مبتور الساقين الذي يسكن في صندوق قمامة ملاصق لصندوق زوجته، وأدى دوره بامتياز الفنان "محمد فوزي الريس". النصُّ الفرنسي ترجمه إلى العربية الشاعر اللبناني الصديق "بول شاوول"، ديكور "أحمد جمال"، ماكياج "وفاء مدبولي"، أزياء "مها عبد الرحمن" إضاءة "إبراهيم الفرن". مخرج منفذ "محمد فاروق"، وأما الموسيقى فكانت إهداءً من مخرج العرض الجميل "السعيد قابيل".
شكرًا للمخرج "عادل حسّان" على استضافة هذه العروض الجميلة على خشبة مسرح "الطليعة" الذي نهرعُ إليه لنرتشفَ الشهدَ المُصفّى من فرائد المسرح الرفيع؛ رغم ما نتجشَّمه من أهوال بصرية وبشاعات وأخلاقية حتى الوصول إلى بابه، بسبب الإشغالات "المخجلة" التي تسدُّ الطريقَ إليه، وتحتلُّ حَرَمَه ومساحتَه الخاصة، وتمتد إلى "مسرح العرائس" و"المسرح القومي"!!!
كتبتُ كثيرًا حتى جَفَّ مِداد قلمي حول هذا الوضع المهين لمسارح عظيمة، كان آخرها مقال كتبتهُ في مساحتي بجريدة "المصري اليوم" عنوانه: (سيادة الرئيس... انقذْ لنا مجمعَ مسارح العتبة) بتاريخ ١١ يوليو ٢٠١٩، وإثر المقال تحركت بالفعل وزارةُ الداخلية وأزالت الإشغالات فورًا، لكنها سرعان ما عادت من جديد لتُشوّه واحدةً من أجمل بقاع مصر الثقافية والتاريخية. وكلّي أمل في نجاح وزير الثقافة الفنان د. "أحمد هنّو" في استرداد هذه البقعة الثقافية الثرية المخطوفة بالإشغالات والبلطجة.


***