صديقتي … الأطفالُ …. والشغف


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8171 - 2024 / 11 / 24 - 11:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


بيننا أميالٌ لا حصرَ لها، ولم نلتقِ أبدًا، على وعد بلقاء في الربيع. جمع بيننا الشغفُ… وجمع بيننا عشقُنا للطفولة… وجمع بيننا الشغفُ بصناعة الجمال. شغفُها بأطفالها الكثيرين، يشبه شغفي بصغيري "عمر". هي الأمُّ الروحية لأطفال لا حصر لهم تبدأ أعمارُهم من شهور ستة وحتى السنوات الأولى من أعمارهم المشرقة. هجرت العمل بالحكومة الأسترالية بعد دوام يناهزُ الربع قرن، واختارَ لها الشغفُ أن تعمل مع الأطفال لكي ترسمَ لهم عوالمَ جديدة مليئة بالحب والحياة وصناعة الجمال. هي مديرةٌ لإحدى دور الحضانة "غير الربحية" في سيدني الأسترالية، تعيشُ طفولتَها مع الصغار من مختلف الجنسيات والثقافات، تعلّمهم كيف يحبّون الله فيحبون خلقَ الله؛ لأن حبَّ الله لا يكتملُ، بل لا يبدأُ، إلا بحبِّ جميع خلق الله دون تمييز ولا عنصرية.
صديقتي مصريةٌ جميلة مهاجرة، لم تزر مصرَ منذ عقود ثلاثة. لكن عشقها للوطن يجعلها تتابعُ مصرَ وصحفَ مصر وكُتّاب مصر؛ فعرفتني من مقالاتي، وتابعتني من أقاصي الأرض في هدوء وصمت، دون أن تكتب لي كلمة، ودون أن تسمح لي بمعرفتها. إلى أن حدث واختفى دواءٌ ضروري من بروتوكول علاج ابني المتوحّد "عمر"، وهو Oxy Mind وتوقفت الشركة المنتجة له في أمريكا عن صنعه. بعد يأسي من الحصول عليه، نشرتُ على صفحتي أسألُ الأصدقاء إن كان الدواءُ موجودًا في أية دولة أخرى. وتجيّش القراءُ الأعزاءُ من كلِّ حدب وصوب لمساعدتي. كلٌّ يبحثُ عن الدواء في بلد إقامته. لم أجد الدواءَ ولا بدائلَ له؛ لكنني حصدتُ عشرات القلوب الجميلة التي أوقفت حياتَها لمساعدة "عمر"، والبحث عن بدائل للدواء.
وفزتُ بصداقة هذه الجميلة التي أكتبُ اليومَ عن تجربتها الرائعة مع الأطفال في الحضانة "غير الربحية" التي تديرها تحت إشراف الراهبات، وعن مشروع ريادي محترم تقيمه سنويًّا في حضانتها بالشراكة مع المتاحف والجامعات في مدينة "سيدني"، حيث تجعل الأطفال يصنعون مع والديهم قطعًا فنيّة جميلة من الأشياء المهملة والمُلقاة. الفكرة الجميلة هنا ليس وحسب تحويل القمامة إلى قطع فنية، فتنجو البيئةُ من مخلفاتنا مع حصد الجمال، لكن الأهم هو مشاركة الآباء والأمهات مع الصغار في المسابقة، فيرتبطُ الطفلُ مع والديه في مشروع يستغرق أسابيعَ مشحونة بالعمل، فتتقاربُ الأرواحُ وتتواصلُ الأجيالُ وتنقطع حالُ الانفصال بين الطفل وأسرته. حتى أن أبًا كان منفصلا عن زوجته، انضم وشارك في المسابقة مع الأم والطفلة، فحدث لمُّ الشمل الذي كان عصيًّا. تأخذ صديقتي الأطفالَ في رحلات دورية للمتاحف وتصنع بهم معارضَ فنية في شراكة مع "متحف الفن المعاصر" MCA في أستراليا الذي تحمّس لعرض منتجاتهم القيمة على بساطتها. فتلك القطعُ الفنية لم يصنعها فنانون كبارٌ، بل صنعتها أكفٌّ صغيرةٌ لأطفال صغار تتفتح عيونُهم على الحياة وعلى الجمال وكيفية صناعته. هنا القيمة الرفيعة، وهنا الدرس القيّم.
في تقرير مُصوّر عن التجربة، تحكي السيدة "جيل نيكول" مديرة المتحف عن مشروع صديقتي الذي بدأ عام ٢٠١٩، وعن دراسة بحثية عُقدت بين المتحف وجامعة Macquarie University الأسترالية المرموقة والمعروفة بتوجهها البحثي وبرامجها التعليمية المبتكرة، تؤكد الأثر الإيجابي المذهل لمشاركة المعلمين والأسرة للأطفال؛ إذ ينشأ الأطفالُ في صحة نفسية ممتازة، بعد اكتسابهم منتهى الثقة بالنفس حين يشعرون أنهم قادرون على صناعة الجمال وإنماء المجتمع والحافظ على البيئة والتنمية المستدامة؛ مثلهم مثل الكبار. وفي نفس التقرير تحدثت صديقتي عن شغف الأطفال بالمسابقة السنوية وجديتهم في صناعة الجمال مع معلميهم وذويهم، وكيف أنهم لا ينامون الليل قبل يوم المعرض من فرط الشغف والسعادة بعرض منتجاتهم في أروقة المتحف الأسترالي للفن المعاصر.
ولم تتوقف صديقتي عند مستوى تعليم الصغار صناعة الجمال المادي المتمثل في لوحاتٍ ومنحوتاتٍ وتراكيبَ فنية جميلة من المهملات، بل انتقلت إلى المستوى الأعلى من التحضّر في تعليمهم صناعة "الجمال المعنوي" والأخلاقي. علّمت أطفالها المشاركة في الخدمة المجتمعية فيساعدون المسنين والأيتام والمرضى والمنكوبين. الأطفال في حضانتها من جنسيات كثيرة وعقائد مختلفة وثقافات متباينة، لكن الإنسانية والتحضّر والحبَّ والشغف بصناعة الجمال المادي والمعنوي، هو المظلة التي تجمعُ اختلافاتهم وترأب صدوعَ شتاتهم.
نسيتُ أن أخبركم أن شيئًا آخر يجمع بيننا هو حبّنا لزهرة الشمس Sun Flower التي تتبع النورَ أين توجّه، ونسيتُ أن أخبركم أن صديقتي الجميلة اسمها "أماني غالي". أقول لها اليوم أشرقي كما زهرة الشمس، واجعلي الصغار يشرقون. وأهدي إليها هذه الكلمات:
***
"زهرةُ الشمس"
ترفعُ أوراقَها البرتقالية
صوبَ السماء
فتمتدُّ خيوطُ الرحيق
لتشتبك بالسُّحب
وتصنع أرجوحاتٍ
تحملُ الصغارَ
إلى حدائق الفرح
حيثُ الإشراقُ
لا يخبو
والعصافيرُ
لا تنام.

***