“ميتا- تسافرُ بكنوزنا إلى الماضي في حضرة -المتحف المصري-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 11:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان صغيري "عمر" يجلس صامتًا وعيناه تنطقان بآيات الانبهار. هو لا يتكلم كثيرًا ليعبّر عن مشاعره؛ شأن "المتوحدين"، لكنني تعلمتُ قراءة أحاسيسه من عينيه، فأنا لستُ أمَّه وحسب، بل رفيقة مشوار حياته الصعب. نحن في حضرة "المتحف المصري" بالتحرير. نجلسُ أمام واجهته الرئيسية المهيبة، ذات اللون الوردي، ونحاول أن نتخيّل قلم الرصاص في يد المهندس الفرنسي "مارسيل دورنيو" يجلسُ إلى طاولته المعمارية يرسم مساقطه الأفقية والرأسية ليخرج إلى الوجود هذا المتحف الفخم الضخم، ويُفتتح رسميًّا عام ١٩٠٢ في عهد الخديوي "عباس حلمي الثاني"، رغم أن قرار تأسيسه الفعلي بدأ قبل هذا التاريخ بنصف قرن في عهد "الخديوي إسماعيل" بفكرة عالم الآثار الفرنسي "فرانسوا مارييت" العاشق لتراث مصر وحضارتها الفريدة. نحن إذن أمام صرح تاريخي مهيب هو أقدم متاحف الشرق الأوسط وأفريقيا، وأحد أعرق متاحف العالم، وأول مبنى في العالم يُشيّد كمتحف، ومخصص بشكل حصري وكامل لعرض الآثار المصرية. وأما أقدم متحف في تاريخ البشرية فكان كذلك من نصيب مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، أسسه "بطليموس الأول" كجزء من "مكتبة الإسكندرية القديمة ببلوتيكا أليكسندرينا"، ومن اسمه Musaeum اشتُقت كلمة Museum التي تعني الآن "متحف".
كان الحفل مهيبًا، بحضور وزير السياحة والآثار د. "شريف فتحي"، ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات د. “عمرو طلعت"، ود. "علي عبد الحليم" مدير "المتحف المصري"، ود. "أحمد غنيم" مدير "المتحف الكبير"، وغيرهم من أبرز القيادات في مجالات السياحة والآثار والتكنولوجية الرقمية، بالإضافة إلى ممثلين لشركة "ميتا" العالمية المؤسِسة لمنصّات التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، "انستجرام"، "واتس آب". في العيد رقم ١٢٢ لميلاد "المتحف المصري"، كانت الهدية إطلاق "مشروع إحياء التراث المصري القديم رقميًّا" عبر تكنولوجيا الواقع المعزز بالتعاون مع شركة "ميتا" Meta العالمية.
وأنت تتجول في متاحف مصر القديمة ومعابدها تشاهد تماثيل الملوك القدامى وخوالد آثارنا الفريدة، كم مرّةً تمنيتَ أن ترى تلك الفرائد في صورتها الأولى يوم نُحتت أو شُيّدت قبل أن تمرَّ عليها السنوات والعقود والقرون وعشرات القرون، فيتهدّم منها ما تهدّم، وتتقشّر عنها بعضُ ألوانها، أو يخفتُ بريقُها؟ صحيحٌ أن جزءًا من جمال الأثر، بل معظمه، يكمن في هذا القِدم وذاك التهدُّم، وتلك الصدوع وهاتيك الشقوق التي شقَّها الزمانُ، لكن فضولَ الخيال الإنساني يجعلنا نتوق لمعرفة الشكل الأصلي لتلك القطع الفنية في صورتها الأصل قبل زحف الزمان وصروفه بكل ما يحمل من قساوة وعوامل تعرية. والحقُّ أن "ترميم" أي أثر قديم جريمةٌ كبرى لا يسامحُ فيها التاريخ. فنحن علينا الحفاظ على الأثر ومحاولة تأخير عوامل الهدم، لكن غير مسموح مطلقًا ترميمه أو إعادة بناء المتهدم منه؛ لأن هذا تزييفٌ وإفقارٌ لقيمة الأثر. لكن الخيالَ بوسعه أن يرمم ويُصلح دون أن يُحاسَب أو يقع تحت المساءلة. والتكنولوجيا الرقمية، والواقع المعزّز بوسعهما أن يحققا ما يتصوره الخيالُ الإنساني الفنانُ. تلك هي فكرة هذا المشروع العظيم الذي يتم الآن في شراكة مُلهمة بين وزارة السياحة والآثار المصرية، وشركة Meta العالمية.
سوف تقفُ أمام تمثال الملكة "حتشبسوت" مثلا، الرأس موجود والجسد أفنته السنواتُ. ابحث جوار التمثال الناقص عن "بار كود" صغير، وسلِّط عليه كاميرا هاتفك، فيفتح لك على منصة "انستجرام" تصوّرًا دقيقًا ثلاثي الأبعاد للتمثال الكامل قبل التهدم، بكامل هيبته وألوانه الأصلية. بوسعك كذلك أن تدير التمثال ٣٦٠ درجة لتشاهده من جميع زواياه مع كلمة بالعربية والإنجليزية تحكي لك تاريخ الأثر. أيُّ جمال هذا وأيُّ سحر!
هكذا ينتصرُ الخيالُ على الواقع، وهكذا تهزمُ التكنولوجيا الرقميةُ تصاريفَ الزمان، مع الاحتفاظ بأصالة القطعة الأثرية الخالدة واقعيًّا، لأن جزءًا أصيلا من جمالها في تهدمها ونُقصانها. بهذه الفكرة الذكية وذاك المشروع العملاق بوسعنا جمع الحُسنيين، والمزاوجة بين ما لا يجتمع من روائع: القِدم، والأصالة، الاكتمال والنقصان، التاريخ والمعاصرة. نعرفُ أن في النقصان جمالاً وحسنًا، لكن شغفَ المعرفة يُغرينا بمشاهدة الاكتمال قبل النقصان. فنشاهدُ بعين الواقع ما نقُص، وبعين الخيال نشاهد أصلَه قبل النقصان.
وكانت ندوة ثرية بإدارة السيدة "شادن خلاف" رئيس السياسات العامة لشركة "ميتا" بشمال أفريقيا، تحدث فيها السادة: "عمرو القاضي"، رئيس هيئة التنشيط السياحي، “هشام الديب" مستشار وزير الاتصالات، "إيلينا بانوفا" منسق الأمم المتحدة في مصر، عن أهمية هذا المشروع الحيوي وانعكاسه على إحياء التراث المصري والترويج السياحي والتعليم والبحث العلمي. وبعد الحفل شدت الفنانةُ المصرية الجميلة "كارين دانيال" على أنغام فرقتها أغنيات مسّت قلوبَنا، كان ختامُها "حلوة يا بلدي"، وفعلا حلوة. شكرًا لكل يد تضع حجرًا في بنيان نهضة مصر الخالدة.
***