-أوديب- … وقد غادر الطائرة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8181 - 2024 / 12 / 4 - 11:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
منذ العتبة الأولى للنصّ، يُلقي بك "محمد سلماوي"، الأديبُ الكبير، في عمق "الفانتازيا الزمانية" بمجرد مطالعتك عنوان الرواية: "أوديب في الطائرة"! فكيف للملك "أوديب" الذي خلقه خيالُ "سوفوكليس" في القرن الرابع قبل الميلاد، أن يركب طائرة أنتجها خيالُ علماء الثورة الصناعية فصارت واقعًا في القرن العشرين؟! ولم يكتف خيالُ الأديب بِـ إدغام القديم في الحديث، ومزج ٢٤ قرنًا، وتسكين الخيال في الواقع، بل ضفّر تلك "الفانتازيا الزمانية" المركّبة بـ"فانتازيا مكانية"؛ إذ استعار من بلاد الإغريق القديمة حيزًا مكانيًّا ليصير مسرحًا لأحداث رواية جرت أحداثُها على أرض "طِيبة" عاصمة مصر ومدينة صولجانها. هكذا "الفن" يُجيزُ للفنان رسم ما لا يُخطر على بال. لهذا يقول "برنارد شو”: (الناسُ يرون ما هو موجود ويقولون “لماذا؟”، أما أنا فأحلم بما ليس موجودًا وأقول: “ولمَ لا؟!”) الأديبُ يلعبُ بالزمان والمكان والشخوص ليخلق عالمًا لا حدود فيه بين الواقع والخيال.
في روايته "أجنحة الفراشة" الصادرة عام ٢٠١٠، استعار "محمد سلماوي" من العلم نظريةَ: "أثر الفراشة" لكي يتنبأ، من خلال أبطال الحدوتة: مصممة الأزياء "ضحى" الباحثة عن نفسها، و"أيمن" الباحث عن أمه، بأن ثورة وشيكة سوف تشتعل في ميادين مصر. وفي رواية الجديدة "أوديب في الطائرة" يعالجُ الأزمة النفسية التي تصيبُ الإنسانَ حين يرتكبُ أعظم الخطايا، دون أن يدري، فـ يُدينُه القانونُ والشرائعُ والمجتمع، بينما هو يقفُ على أرض راسخة واثقًا من براءته، مستنكرًا ما يُرمى به من اتهامات؛ لأنه لم يرتكب الخطايا بإرادته ولا بعلمه. هكذا كانت شخصية "أوديب" الذي تنبأ العرافُ قبل ميلاده بأنه سوف يقتل أباه ويتزوّج أمه، فيتخلّص منه الأبُ بمجرد ميلاده ويُلقى به مقيّدَ القدمين بين الجبال، ليلتقطه أحدُ الرُّعاة ويُطلق عليه اسم "أوديب"، أي "متورّم القدمين"، ويتبناه، ليكبرَ الطفلُ ويصير شابًّا فتيًّا، يصادفُ أباه الحقيقي "لايوس" على مدخل المدينة ويتقاتلان، فيقتله، دفاعًا عن النفس دون أن يدري أنه أبوه، ثم يهزم الوحشَ الرابض على باب المدينة بحلّ اللغز العصيّ، فيحمله أهلُ المدينة على الأعناق بوصفه البطلَ المخلّص، ويرسمونه ملكًا ويزوجونه مليكتهم "جوكاستا"، أرملة "لايوس"، دون أن يدري أنها أمّه. هكذا تكونت مأساةُ "أوديب" المرتكب أبشع الخطايا دون علمٍ ولا إرادة! فهل هو في عُرف الأخلاق مجرمًا أم بطلا، آثمًا أم ضحية، مُخيّرًا مختارًا خطاياه، أم مُسيّرًا أعمى بحكم نبوءة الأقدار؟! لغزٌ لم تحلّه الرواياتُ والمسرحياتُ ولا الفلسفاتُ حتى صار أمثولةً للتراجيديا الملغزة، وإحدى العُقد النموذجية في علم النفس. ولكي تكتملَ المأساةُ وتغلق قوسَها الدامي، تقتلُ "جوكاستا" نفسَها حين تعلم أنها تزوجت ابنها، فينتزع "أوديب" دبوسين من ملابسها ويفقأ عينيه عقابًا لنفسه لهول ما ارتكب من آثام. هكذا كانت الأسطورة التي تناولها قَدامى المسرحيين والشعراء بداية من "سوفوكليس" وانتهاء بـ"توفيق الحكيم". لكن "أوديب" الملك في رواية "سلماوي" يرى نفسَه بريئًا وبطلا أنقذ بلاده من بَغي "أسبرطة"؛ فيرفضُ مغادرةَ الطائرة الحربية التي أقلّته من قصره إلى قاعة المحاكمة، ثم يرفضُ النزول من الطائرة التي أقلّته من المحكمة إلى السجن. وبين المشهدين برهةٌ زمنية قضاها في خيمة مشددة الحراسة. ومن أجمل الصور الإبداعية الموجعة في الرواية حين يتشوّق "أوديب" لمشاهدة السماء التي طالما حلّق في رحابها طيارًا مغوارًا، فينظر إلى الأعلى ليجد شقًّا صغيرًا في سقيفة الخيمة، تُطلُّ منه بقعةٌ من السماء، فراح يتأمل تلل اللوحة التشكيلية المعكوسة، فهي لم تكن رسمًا بالزيت على توال كانفس، بل كانت مزقًا في الكانفاه تظهر من خلاله لوحةٌ رسمها اللهُ بالغيم على صفحة السماء. يرفعُ يديه ليُمسك باللوحة فتختفي وراء كفّه الُمشهرة.
سلّط "سلماوي" الضوءَ على الأدران المجتمعية المزمنة مثل المحسوبية، الطائفية، الأحزاب الهشّة، البطالة، الجهل، الفقر، وغيرها من الكوارث التي لا تقلُّ بؤسًا عن "الطاعون" الذي ضرب مدينة "أوديب" بعد ارتكابه الخطايا العظمى، واعيًا كان أو غير واع، ولا منجاةَ منها إلا بتشييد مجتمع مدني مثقف لا تحكمه الخرافة.
في جلسة ثرية من جلسات "نادي الكتاب" العريق، دعانا المهندس "صلاح دياب" وعقيلتُه الجميلة، على شرف رواية "أوديب في الطائرة" الصادرة حديثًا عن دار "الكرمة"، بحضور كاتبها الأديب "محمد سلماوي" ونخبة من المثقفين والمبدعين للمناقشة والتحليل. قدمت الدكتورة "أماني فؤاد"، أستاذة للنقد الأدبي الحديث ورقة بحثيه ثرية عن الرواية، كما قدّم كلٌّ من الحضور مداخلة قيّمة يشرح خلالها كيف قرأ باطن النص وظاهره وكيف حلّل الرموز الخبيئة بين السطور. جميلٌ أن تحتشد العقولُ في جلسة "عصف ذهني" ليرسم كلٌّ رؤاه الخاصة وتشريحه الفكري لعمل واحد يراه كلٌّ عبر منظوره الشخصي. وجميلٌ هو الإبداع الذي يخلق العوالمَ الموازية.
***