-الملحد-... والمغالطات المنطقية


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8090 - 2024 / 9 / 4 - 11:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“الملحد"… مغالطة: “الكتابُ يُقرأ من عنوانه"!!!!
“نظرة"، عنوان إحدى أجمل قصص "يوسف إدريس". لو لم تكن قد قرأتَها، من فضلك أخبرني: ماذا وصلك من عنوانها؟ أغلبُ الظنّ سيمضي حدسُك في اتجاه أنها "نظرةٌ" رومانسية حالمة بين حبيبين على ضوء الشموع. ولو كنتَ شخصًا عمليًّا ربما ذهب عقلُك نحو "نظرة" استشراف المستقبل في ظل الواقع الاقتصادي والسياسي والديموجرافي الجديد. لكن من العسير، المقترب من المستحيل، أن يخطر على بالك أنها "نظرة" طفلة فقيرة نحيلة حافية تحمل فوق رأسها صاج فرن أكبر من حجمها، نحو كرة مطاطية طوّحتها في الهواء أيادي أطفال سعداء يلعبون، بينما هي محرومةٌ من اللعب والمرح. “الشحاذ"، أجمل ما كتب العمدة "نجيب محفوظ" من روايات. لو أنك لم تقرأها، إلامَ يذهبُ خيالُك من عنوانها، وعلامَ تدور؟ هل بطلُها شحاذٌ، والروايةُ ذات سمتٍ اشتراكي تدعوك إلى التعاطف مع الفقراء؟ وماذا لو أخبرُتك أن بطل الرواية محام شهير ميسورُ الحال، وليس من بين شخوصها "شحاذٌ" واحد؟! هل يمكن أن تتصور أن البطل الثريّ في لحظة عدمية وقنوط، راح "يتسوَّلُ"، أو "يشحذُ" الشحاذةَ الروحية بحثًا عن: الشغف، الحقيقة، الأمل، السعادة، النغمة الهاربة من الحياة، الجدوى، الهدف…. وغيرها من المجردات غير المادية التي من العسير أن "تُشحَذ"، أو "تُتسوّل"؟!!! “الجريمة والعقاب"، وهي من أواخر كلاسيكيات القرن ١٩ التي قد يُفضي عنوانُها إلى دلالاتها، ماذا تفهم من عنوانها؟ هل أراد "ديستويفسكي" أن يقول إن لكل جريمة عقابًا؟ أم أن ثمة مجرمين يُفلتون من العقاب؟ أم أن أبرياء ينالون العقاب بدلا من المجرمين؟ أم أن العقاب النفسي أشدُّ وطأة على المجرم من عقاب القانون؟ أم ألفُ احتمالٍ واحتمال تحمله هاتان الكلمتان الُمبهمتان اللتان تشكلان "العنوان"، الذي لا يقولُ شيئًا قط، ولا ينبغي له أن يقول؟ لابد أن "تقرأ" الرواية كاملة لتضع الإجابة! لابد أن تشاهد الشخوص يتحركون وتسمع وجيبَ قلوبهم وتعايش همومهم وتشاركهم آمالهم لكي تقف على دلالة الرواية ومغزاها الفكري أو الأخلاقي. جريمةٌ كبرى أن تتحدث دون قراءة أو مشاهدة. قبل قراءتك الرواية ليس من حقّك أن تفتح فمك لتنطق بحرف واحد عنها، سلبًا أو إيجابًا.
من أسوأ وأخطر وأقبح الأمثلة الشعبية التي تتداولُها الأفواهُ، والعقولُ للأسف، مقولة: “الكتاب يُقرأ من عنوانه"! لا يا فندم، الكتابُ يُقرأ من عنوانه فقط في قصص الأطفال وحواديت الجِنّيات؛ لأن عقل الطفل لا يفهم الإحالات والإزاحات والمجازات. رغم أن عقل الطفل أكثر اتساعًا ورجاحةً من عقول الكبار، لأن العقلَ الطفلَ "نظيفٌ" لم يُلوّث بعد بالتراكمات والمغالطات والأكاذيب والمصالح وغيرها من أدران البشر. الكتابُ أبدًا لا يُقرأ من عنوانه! تلك مغالطةٌ "غير" منطقية حتى. حتى سور القرآن الكريم لا تعبّر عناوينُها عن مضمونِها إلا فيما نَدُر. فجزء "عمَّ"، لو لم تقرأه، ما كنتَ تدرك أنه أخذ اسمَه من مجرد "أداة استفهام" تستفتحُ سورة "النبأ" في قوله تعالى: “عمَّ يتساءلون؟" وهي جُماع: “عن ماذا". وسورة "الحديد"، لابد أن تقرأها كاملة وتتأمل دلالاتها الجميلة لئلا يدورَ في خلَدك أنها تتحدثُ عن معدن الحديد إلا في شطر صغير من آية… وهكذا.
مهزلةٌ كبرى أن يتكوّن الرأيُ العامُّ الشرسُ وتبرزُ أنيابُه ويرغي ويزبدُ ويغضبُ ويلعنُ ويُكفّر ويُزندّق ويُهرطّق ويطلقُ الرصاصَ على "عنوان" فيلم، لم يشاهده أحدٌ بعد، فيتمُّ وأدَه في مهده! مهزلةٌ مخيفة لا تحدثُ إلا في المجتمعات الظلامية التي أنامت عقولها أو وأدتها أو أعارتها إلى غيرها ليفكر بالنيابة عنها، دون أية نِيَّة في استردادها!
فيلم "الملحد" الذي تريدون رميَه بالرصاص قبل أن يتنفس، ببساطة سوف يعيش أكثر من قاتليه. ليس وحسب لأن الفيلم "يحاربُ الإلحاد" ويناقش ظاهرة خطيرة تجتاحُ المجتمع العربي بأكمله مثلما ناقش "الضيف"، و"صاحب المقام" ظواهرَ مجتمعية شديدة الخطورة، بل الأهمُ لأن المُصادرةَ على المواطن المصري، ومعاملته كأنه "طفلٌ" غيرُ ناضج فاقدُ الأهلية، تحجبون عنه أفلامَ الكبار، أمرٌ مخجلٌ لا يليقُ بشعب عريق ومثقف مثل الشعب المصري الذي شيّد حضارته على العلوم والفنون والفكر والفلسفة. المصريون ليسوا قطعًا من الأسفنج الهشّ الأجوف تخشون عليهم من رذاذ التفكير والتدبّر، بل هم بشرٌ ناضجون مفكرون يعرفون كيف يميّزون بين الحق والباطل، الخير والشر، الإيمان والإلحاد. وأما محاولة وأد الفيلم بدافع "الشخصنة" الرخيصة، لأن كاتبه مفكرٌ إشكالي وإصلاحي كبير بحجم "إبراهيم عيسى"؛ فليس إلا مغالطةً منطقيةً أخرى اسمها: "مغالطة رجل القش". ارفعوا أياديكم عن الإبداع واحترموا "الإنسان" المصري الجدير بالاحترام.

***