“العيال فهمت- … إشراقةُ المسرح الكوميدي


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8073 - 2024 / 8 / 18 - 11:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“العيال فهمت" … إشراقةُ المسرح الكوميدي
Facebook: @NaootOfficial

هذه واحدةٌ من إشراقات "المسرح الكوميدي" العريق التابع لـ"البيت الفني للمسرح"، الذي قدّم لنا على مدى يربو عن القرن، خوالدَ وفرائدَ كوميديةً يزدادُ بريقُها ورسوخُها في وجداننا مع مرور السنوات. ومنذ تولّيه رئاسة "فرقة المسرح الكوميدي" قبل عامين، أنتج الفنانُ الجميل "ياسر الطوبجي" مجموعة من الأعمال الجميلة الهادفة أحدثُها مسرحية "العيال فهمت"، التي اختيرت لتُمثّل "البيت الفني للمسرح" في "المهرجان القومي للمسرح" ٢٠٢٤، الذي تشغلُ عروضُه الجميلة معظمَ مسارح مصر منذ نهاية الشهر الماضي وحتى ختامه يوم ١٧ أغسطس الذي تُعلن فيه أسماءُ العروض الفائزة.
"العيال فهمت"، عرضٌ استعراضي موسيقي حاشدٌ بالثراء والرقي، يقدمه "مسرح الدولة"، على خشبة "مسرح ميامي"، يليقُ باسم مصر العريق في صناعة المسرح، مثلما يليق بالأسرة المصرية المثقفة التي تربّت على رفيع الفن السمعي والبصري. كيف، في عرض واحد، تجتمعُ جميعُ خيوط المشاعر الإنسانية المتناقضة! يُمسُّ القلبُ بوخزة الوجع، فتدمعُ عيناك في مشهدٍ، ثم يعلو صوتُك بالضحك الصافي في مشهدٍ تال؟! معادلةٌ فنية صعبة وعصيّة أن يجتمع الاستعراضُ والموسيقىُ والغناءُ والرقصُ والدراما في وشيجة الكوميديا! كيف لمجموعة من الفنانين من أعمار متباينة تتراوحُ بين الأربعين والسنوات الخمس، أن يتآلفوا وينسجموا على هذا النحو المدهش فيقدمون عملا غنائيًّا استعراضيًّا يحمل كلَّ هذا القدر من البهجة حدَّ "الفارْس"، ومن المورال القيميّ الأخلاقي الرصين؟! إنه، أولا، الشغفُ بما يقدمون من فن، وإنها، أساسًا، عصا المايسترو الدقيقة التي يحملُها مخرجٌ فنانٌ اسمه "شادي سرور". العمل مستوحًى من الدراما الاستعراضية الخالدة Sound of Music “صوت الموسيقى"، الذي علّمنا أن الموسيقى قادرةٌ على ضبط الإيقاع البشريّ نحو التفوق والامتياز. "الموسيقى" بطلٌ رئيس في هذا العرض المدهش غزلها الموسيقار "أحمد الناصر" على أوتار العذوبة، والأغنيات الجميلة نسج كلماتِها الشاعرُ "طارق علي" من خيوط الدلالات، والحوار الكوميدي والكتابة المسرحية أبدعها باقتدار "أحمد الملواني". الديكور والإضاءة والملابس إلى جانب تصميم الرقصات الفاتن الذي رسمته مصممة الاستعراض "دارين وائل" أبطالٌ أساسيون في هذه المسرحية التي سوف تُخلّدُ في مدونة المسرح المصري.
أجملُ الكوميديا تخرجُ من الشخص الجادّ العبوس. هذه عبارة صحيحة أؤمن بها، أثبتها الفنانُ "رامي الطومباري" الذي جسّد دور الأب الصارم، كابتن طيار، المتجهم طوال الوقت، والذي حوّل بيته إلى معسكر قاس معزول عن العالم، من أجل حماية أولاده الثمانية بعد رحيل والدتهم. أما الفنان "عبد المنعم رياض" فقد أدى ببراعة دور مُربّي الأطفال الطيب الذي عوضّهم بحنوّه وحبه عن غياب الأم موتًا، وكذلك غياب الأب الطيار المسافر دائمًا، والذي حتى في حضوره القليل كان غائبًا عن أولاده بمشاعره. حتى تدخلَ البيتَ الباردَ المربيةُ الوديعةُ "نغم" تحملُ جيتارها، التي جسدّتها ببراعة الجميلةُ "رنا سماحة" لتملأ البيتَ دفئًا وحبًّا ومشاعرَ وموسيقى، وتنجح في وصل الأولاد بخيوط أحلامهم التي بترها الأبُ الجادُّ، الذي كان يظنُّ أن الصرامةَ وفرط الانضباط، دون مشاعر، هو الطريق الأمثل، بل الأوحد، لتنشئة الأبناء، وحمايتهم من شرور المجتمع.
شكرًا للبيت الفني للمسرح، وشكرًا للمسرح الكوميدي، اللذين أنتجا لنا هذا العمل المسرحي الجميل الذي أتمنى أن تزوره كلُّ أسرة مصرية، وأن تُنظّم إليه الرحلاتُ المدرسية والجامعية، للوقوف على صحيح الفن الرفيع. شكرًا للمخرج الجميل "شادي سرور" ولجميع صنّاع هذا العمل العظيم: ”إيهاب شهاب"، "رانيا النجار"، "أميرة فايز"، "منة الحسيني"، ومساعدي الإخراج والإداريين والفنيين، وجميع الشباب الموهوبين الذين لم يمثّلوا فقط بأجسادهم، شأن العمل الاستعراضي، بل مثّلوا بملامح وجوههم التي يطفرُ منها الشغفُ بالفن والمعايشة الحقيقية للحظة الدرامية، والذوبان الكامل في الشخصيات المرسومة بدقّة لأفراد "الكتيبة" التي تنوّعت أحلامُهم. فهذا شغوف بالغناء، وهذه بتصميم الأزياء، وذاك شغوف بالرقص، وتلك بالكتابة الأدبية، وهذه بالرسم، وذاك بالعلوم والابتكار، وتلك غارقةٌ في حكايا الأميرات الرومانسية، انتهاء بالطفل الموهوب "علي شادي" الذي كان يتأمل كل ما يحدث من حوله ويحلّله على طريقته الخاصة فتطفرُ الكوميديا.
***
ومن نُثارِ خواطري:
***
(قيثارة)
أنا المليحةُ
أحملُ قيثارتي
وأطيرُ بين الشجرْ
أقطعُ المحيطاتِ والوديانَ والصحاريَ
وفي سَلّتي
أُخبِّئُ قرابينَ
من شموسٍ وأمطار
أرفعُ الغيماتِ
فوق رؤوسِ المُتْعبين
وتحتَ أقدامِ القُساة
أنثرُ الموسيقى
علَّ نبتةً خضراءَ رهيفةً
تورقُ
في القلبِ الجامدْ.


***