كلامٌ في -البديهيات-... المنسية!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 7992 - 2024 / 5 / 29 - 11:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
“من حقّ كل مواطن: أن يتنفس الهواء، يشرب إن ظمأ، يخلد إلى الراحة الأبدية إن انتهى أُجلُه"….. لماذا لم ينصُّ أيُّ دستور في العالم على ما سبق؟ لأنها بديهيات من المضحك الحديثُ عنها. فالهواء منحةٌ أبدية من الخالق لمخلوقاته، من حقّ كل بشريّ أن يملأ به رئتيه ليحيا، والماءُ منحةُ السماء ليرتوي الظِّماءُ ويُشرقَ الثمر، وإن انتهى أجلُ إنسان بأمر الله، فله أن يخلد للراحة دون أن يزعجه أحدٌ؛ ذلك منطق الأشياء. لهذا لن يناقشَ أيُّ دستور تلك البديهيات، وإلا صار دستورًا طفوليًّا يشير إلى الوردة ويقول: “هذه وردة"، مثلما كنّا نقول في طفولتنا السعيدة: I have two eyes, and I can see.
ويحدث أن ينسى الناسُ طبيعةَ الأشياء، نتيجة عوامل كثيرة مثل سيطرة تيارات إقصائية، تتعارضُ مصالحُها مع البديهيات الأولية التي استقرّ عليها البشرُ منذ بدء الخليقة. هنا يضطر الحكماءُ أن يُذكّروا الناسَ بالبديهيات فيكتبون قواعدَ نبيلةً يسير عليها الناس. فتأتي قاعدةٌ (مثل المادة ٥٣ من الدستور المصري) تتكلم عن المساواة التامة بين المواطنين دون النظر إلى الدين أو الجنس أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعي الخ. وتلك "بديهية" ما كان يجب أن ينصّ عليها دستورٌ مثل بديهة الهواء، لولا ينسى الناسُ البديهيات!
لنرسم أصل الحكاية، كاريكاتوريًّا. كان هناك كوكبٌ. عليه شخصان عاقلان. فطبيعي أن يتقاسم العاقلان خيرات الكوكب بالتساوي، دون أن يجور واحدٌ على حق أخيه. لو تغلّب الأقوى منهما على الأضعف، وانتزع حقه في الهواء والثمر، نكون أمام ظاهرة همجية لن نناقشها إذ افترضنا بدءًا أن الشخصين عاقلان. دعونا نفترض أن أحدهما صحيحُ البدن، والآخر سقيمٌ كسيح، أو أعمى، أو أصمّ، هنا نقف أمام مبدأين علينا الاختيار بينهما: ١ المساواة بليدة القلب، وتقضي بأن يتساوى الاثنان في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى قوة الأول وضعف الثاني. ٢ العدل الواعي والمساواة المثقفة، وتقضي بأن يحتوى القويُّ السقيمَ ويحميه من جبروت الطبيعة وشراسة الضواري، دون أن يجور على حقه في الثمر وطيبات الأرض. فإن حدث وكان أحدهما أخضرَ اللون، والثاني أزرق. هل يؤثر لونُ الإنسان على حقوقه وواجباته؟ مبدأ الحق والخير والجمال يقول: "لا يؤثر." فإن حدث واختار أحدُهما أن يقدّس الشمسَ، وأختار زميله تقديس القمر، فهل يقتتلان من أجل هذا؟ هل ينتقص أحدهما من حقوق أخيه لاختلاف الفكرة والرؤية؟ أم يخلو كلٌّ إلى قدسه في خلوته، ثم يخرج إلى صاحبه يصافحه ويتشارك معه الحياة في سلام وتوادّ؟ بديهيات!
يحدث أن يظهر شخصٌ ثالث، جاء ليتشارك مع صاحبينا الحياة على الكوكب. في البدء كان لطيفًا مسالمًا، فاتفق الشخصان أن يُعاد تقسيم الأرض والطيبات على ثلاثة أنفس بدلا من اثنين، وفق مبدأ العدل الذي أقرّاه منذ البدء. ومرّت الأيامُ في هدوء إلى أن قرر هذا الثالث أن يزرع الفتنة بين الصديقين، ليستلب منهما الكوكب، فراح يوغر صدر أحدهما على الآخر، ويوهمه أن له حقوقًا تفوق حقوق صاحبه! ماذا يحدث آنذاك؟ لو احتكم كلاهما لصوت العقل والضمير والفطرة السوية، فسوف يتحدان معًا ضد الشرير، وإن استسلما له حدث الاقتتال واختل التوازن وخسر الجميعُ.
ويحدث أن يأتي للكوكب شخصٌ رابع ينادي بمبادئ الجمال والعدالة والخير. ويحدث أن يحبّه كثيرٌ من الناس لأنه ينادي بالعودة إلى الفطرة الإنسانية والبديهيات النبيلة التي نسيها الناسُ. ويحدث أن يمقته مَن لهم مآربُ في تكريس العنصرية ومصالحُ في إشعال الفتن بين الناس.
في المجتمعات المثقفة، يُحمل على الأعناق ذلك الرابعُ المنادي بمبادئ الإنسانية والعدالة، ويوضع الشريرُ رقم ٣ وراء القضبان حتى تتطهر روحُه من دنايا العنصرية. وفي المجتمعات الظلامية، يُحمل الثالث الشرير فوق الأعناق، ويحارَب الرابعُ ويُقتل.
ومن نُثارِ خواطري:
***
(حقّ)
في نهاية الزمان
يقفُ "ابنُ رشد"
يهتفُ:
"الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ!"
ونقفُ أمام الله
لنشهدَ
كيف جعلنا الحقَّ
يُضادُّ الحقّ.
***