حاجة تخوّف… المعذّبون أمام المرآة!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8069 - 2024 / 8 / 14 - 11:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     



نحن الذين نرتدي الأسودَ الُمبقّع بالرمادي، وعلى ظهورنا ثلاثةُ خطوطٍ حمراءَ مقوّسة، وكأن يدًا عملاقة خمشتِ اللحمَ بأظافرها ففصدَ الدم. نحن الذين نصرخُ في هلعٍ: “أنا معملتش حاجة" راكضين من مكان إلى مكانٍ، حتى إذا ما صادفتنا المرآةُ تسمّرنا أمام صفحتها، شاخصةً عيونُنا، لنصافحَ أرواحَنا المصدوعة، ونتأكد أننا لسنا أنقياءَ كما نتوهّم، بل هناك ما يلوّثُ وهناك ما يُدنّسُ وهناك ما يُخيف. نحنُ المعذّبون الذين لا نعرف كيف نتحرّرُ من عذابنا، إلا حين يقنصُنا الجلادون ويبرقون في عيوننا بفلاش الكاميرا التي تسجّل لحظة الخطيئة، فننصهر مثل الشمع الذائب، ونسقطُ في غيبوبة لا منجاةَ منها إلا التطهّرُ من الآثام ومن الخوف!
كيف تُصاغُ مثل تلك الأفكار المعقّدة شديدة العمق، على خشبة مسرح، دون الوقوع في فخّ التجريد والإسكولائية المباشرة التي تهدمُ الفنَّ؟! كيف تشاهدُ تلك الرؤى الفلسفية المركّبة لا في قاعة محاضرة أو في كتاب فلسفي، بل لحمًا ودمًّا عبر حشد هائل من الشباب والصبايا تطفرُ منهم الموهبةُ والأداءُ الفائق والتناغم المتقن كأنهم يمارسون فنَّ الكتابة والتمثيل المسرحي وفنون الأداء الحركي منذ مائة عام، بينما أعمارُهم حول العشرين؟! شيءٌ صعبٌ ومُلغزٌ لا يعرفُ سِرَّه إلا مايسترو صناعة النجوم: المخرج الكبير "خالد جلال".
دفعةٌ جديدة من دفعات "ورشة الارتجال والتمثيل" التي ينتقيها "خالد جلال" بملقاط الألماس من الموهوبين ويقوم بتدريبهم وضبط إيقاع مواهبهم، حتى ينتجون هذا العرض الجميل: "حاجة تخوّف" الذي يُقدّم على خشبة "مركز الإبداع الفني" ضمن عروض "المهرجان القومي للمسرح المصري ٢٠٢٤".
من العبث أن أنكر حجمَ الخوف الذي تلبّسني قبل بداية العرض وأنا أجلسُ في الصف الأول من مسرح الغرفة المظلم إلا من إضاءات حمراء مريبة كأنها غرفة الإعدام، أتأملُ الفتيات الثلاثة في فساتينهن السوداء بملامحهن الجامدة Poker-Face وشعورهن المُسدلة وحركاتهن الرتيبة! يرقصن على نغمات أغنية Twinkle Little Star بصوت الدمية الشريرة Chucky؛ واحدة منهن تنطُّ الحبلَ والحبل غير موجود، والأخرى تلعبُ "الحجلة" على أرض غير مُخططة بالطباشير، والثالثة تتقدّم نحوك في ثبات وبطء وهي تطرق برأسها وتشخصُ بعينيها الفارغتين في عينيك مباشرة وكأنك "أنتَ" المقصود بهذه المحاكمة "الدورينماتية" التي سوف تخضعُ لها بعد قليل، حين يبدأ العرضُ المخيف، الذي تسبقه ضحكاتُهن الهيستيرية المرعبة، كأنها أزيزُ موتى تحت التعذيب. واحدة منهن تحمل حول جيدها كاميرا، سوف تُطلق ضوء فلاشها في لحظات انسحاق المعذبين حين يدركون، أمام مرآة ميدوزا، خطاياهم ولحظات خوفهم. الطمع، الحقد، الإنكار، العجز، الحسد، الخيانة، اللانتماء، العقوق، الاتجار في البشر، طمس الهوية، الأنانية، وغيرها من فخاخ الشيطان وحبائله التي يلفّها حول أعناقنا لنسقط في وحل الإثم ونتدنس بالخطيئة، ويكون علينا بعدئذ أن نتطهر من أدراننا ونتحمّم بنور الفضيلة، بعدما نتحرر من "الخوف" كشرط أساسي للنجاة. لهذا ينتهي العرضُ بأن يقتل المعذبون خوفَهم بقتل الأسرة الشريرة التي تمثل "الخوف" داخل أعماقنا. تلك الأسرة التي تحتجز الخُطاة في قصر المرايا ليشاهدوا آثامهم وينسحقوا تحت وطأة مخاوفهم.
هذا العجوز الذي يحمل قنديلا في وهج النهار، لم يكن الفيلسوف "ديوجين" الباحث عن الحقيقة، بل كان المسخَ الدميم الذي يتصيّد ضحايا الخوف ويقودهم إلى القصر حيث طقوس العذاب.
شكرًا للفنانين الكبار "محمد حسيب"، "محمد نديم"، هبة كامل"، "أشرف مهدي" وجميع الشباب الواعد الذين يجب ذكر أسمائهم جميعًا وتقديم التحية لهم على هذا العمل الفاتن تحت قيادة مايسترو الإخراج "خالد جلال" الذي يمسك عصاه ليضبط إيقاع سيمفونية الارتجال الفني المضفور باحترافية الأداء ليقدّم لنا على مدى السنوات الماضية: “قهوة سادة”، بعد الليل”، سلّم نفسَك”، “هبوط اضطراري”، ثم “حاجة تخوف”، والقادمُ لا يقلُّ جمالا بإذن الله. هذا "المايسترو" الذي يختار تلامذته بعين جواهرجي ينتقي الدرّ النفيس من حصى الأرض، ويصقل صخورَ الكربون فيتلألأ ألماسًا مُشعًّا يخطف الأبصار ويسرُّ الناظرين.
شكرًا لكل هذا الثراء الفني الوقّاد، وشكرًا للمهرجان القومي للمسرح المصري ومديره النجم "محمد رياض" على هذه الجرعات الغنية التي ننهل منها على مدى أسبوعين من الفن الرفيع.
***
ومن نُثارِ خواطري:
***
(مسرح)
ليَ الآنَ‬
أن أسحبَ الستارةَ الحمراء‬
وأنسحبَ من المسرحِ‬
وأجلسَ مع جمهرة المتفرجين‬
عسايَ
أعيدُ بناءَ جدارٍ متصدِّعٍ‬
في عمق روحي‬...
أمَّا صورتي تلك‬
التي مازالت ترقصُ فوق الخشبة‬
فقد ألقيتُ بها ‬
تمامًا فوق الشبكية‬
لكي أتأمَلَها فيما بعد‬
وحدي.‬



***