-كيميت-... تُحيِّي القانونَ في عيده


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 12:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

أن تذكرَ كلمةَ "القانون" فلابد أن تذكر "مصرَ"؛ لأنها واجدةُ القانون، وأولُ مَن شرّعه وكتب أبجدياته في فجر التاريخ. ويظلُّ "قانونُ ماعت" أعرقَ وأرقى ما ابتكر الإنسانُ من قيم أخلاقية؛ لا تنظّمُ أسسَ العَيش الكريم بين الناس وحسب، بل تُهذِّب الإنسانَ وتجعل منه كائنًا راقيًا مُستحقًا للحياة. تصوّروا قانونًا يُجرِّمُ أن يتسبّب إنسانٌ في دموع إنسان آخر! تصوّروا قانونًا يُجرّمُ تعذيبَ الحيوان، بل يُجرّم تعذيب النبات بحرمانه من الماء؟! ومتي؟ قبل الميلاد والحضارات بآلاف السنين. وبالطبع استهلَّ القانونُ موادَّه بالقيم العليا للأخلاق: "لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تشته زوجة جارك….”، ثم جاءت مستوياتُ التهذيب الأعلى: “كنتُ عينًا للأعمى، كنتُ ساقًا للكسيح، كنتُ يدًا للمشلول، كنتُ أبًا لليتيم...” بل كان القانونُ المصري القديم أولَ من حضَّ على النظافة: “لم ألوّثْ مياهَ النهر"، وغير ذلك من فرائد الأخلاق والتحضُّر وردت في بنود قانون "ماعت" المصري التي بلغ عددُها ٨٤ بندًا؛ نصفُها اعترافاتٌ ثبوتية: “كنتُ - فعلتُ"، ونصفُها الآخر ٤٢ اعترافًا إنكاريًّا: “لم أكن، لم أفعل".
أفخرُ بأنني حفيدةُ أحد أنبه رجالات القانون في مصر، مؤسس مجلة "دنيا القانون، وصاحب كتاب "أشهر قضايا التاريخ… لأعلام القانون في الشرق والغرب" الصادر عام ١٩٦٦، وكتاب "المرافعات في أشهر القضايا الجنائية" وغيرهما من الكتب الخالدة، وهو المستشار "محمود عاصم" المحامي بالنقض. في طفولتي، كنتُ أتأملُ روبَه الأسودَ المهيب، مُزيّنًا بأوسمة الشرف، معلّقًا على الشماعة في غرفة مكتبه في حي باب اللوق، فتغمرُني حالٌ من الشعور بالإجلال والتوقير، إذ أوقن أن رجال القانون مجبولون من طينة أخرى غير البشر. فهم حملة لواء "الحق"؛ واللهُ هو "الحق"، وهم سدنة باب "العدل"؛ واللهُ تعالى هو "العدل". وتأملوا معي عبقريةَ دلالة أن أسماء الله الحسنى لم تقل إن الله "عادل"، بل هو "العدل" المطلق.
حالُ الإجلال ذاتُها تغمرني الآن وأنا أشهد من حولي رجالات القضاء وسدنة القانون في هذا الحفل المهيب الذي أقامته "المؤسسة العربية للسلام والتنمية"، بالتعاون مع "محكمة التحكيم العربية"، و"مجلس الوحدة الاقتصادية بالجامعة العربية"، والذي نظّمه المستشار الجليل "كمال خليفة"، المدير التنفيذي لمركز "كميت للتحكيم الدولي" أمس الأول في أحد الفنادق الكبرى، احتفالا بـ"اليوم العالمي للقانون" الذي يحلُّ يوم ١٣ سبتمبر من كل عام، تذكيرًا للإنسانية برفعة لواء القانون الذي أوجده اللهُ قبل الخليقة تصديقًا لقوله: “والسماءَ رفعَها ووضع الميزان". والميزان هو رمز العدالة في أدبيات الإنسان على مرّ العصور، تحملُه "ماعت" ربّةُ الضمير في حضارتنا المصرية، التي نشهدها على جميع جداريات محاكم العالم تحمل الميزان معصوبةَ العينين، دلالة العدل المطلق وعدم المحاباة، وفوق رأسها ريشةُ الضمير.
تصوروا أن تضمَّ منصّةٌ واحدة قاماتٍ شواهقَ من أصحاب المعالي مع توقير الألقاب: “مفيد شهاب"، "عمرو موسى"، "إبراهيم محلب"، "أحمد الزند"، "محمد شيرين فهمي"، "محمد رضا شوكت"، "محمد عيد محجوب"، وغيرهم من فرائد رموز مصر وصنّاع تاريخها الحديث، قدّمهم المستشارُ "كمال خليفة" بقوله: “أولئك بعض قامات العدالة وسدنة الحق من شرفاء مصر الذين شرّعوا القانون، وطبّقوه، ونادوا به، وسعوا إليه...”
أشاد المهندس "إبراهيم محلب”، رئيس الوزراء الأسبق بأهمية رجل القضاء بوصفه "سفيرَ الله على الأرض"، وأكّد أن قضاءَ مصرَ بخير. وقال ا.د. “مفيد شهاب"، عَلَمُ القانون الأشهر وأستاذ القانون الدولي، وصاحب اليد البيضاء في استعادة مصر حقوقها في قضايا تاريخية إن القانون هو منظومة القيم الرفيعة التي تنظم الدولة وتحقق الأمن والاستقرار، ولذا تظلُّ له الكلمةُ العليا. وتحدث السيد "عمرو موسى" السياسي الأشهر عن "سيادة القانون" بوصفها أصلَ الحكم في الدولة كما ينصُّ الدستور، وأوصى بأن يدرس التلاميذُ "دستور الوطن" في مدارسهم؛ حتى ينشئوا مبكرًا على الوعي بفكرة "الحقوق".
وبالطبع لم تغب قضية "فلسطين" وعدوان الكيان الصهيوني السفّاح على غزة والعروبة بأسرها، عن فعاليات المؤتمر السنوي للاحتفال بيوم القانون. فأوصى السيد "عمرو موسى" بأن يصدر المؤتمرُ بيانَ إدانة لما تفعله "إسرائيل" من خرق صارخ للقانون الدولي وجميع مواثيق حقوق الإنسان، وبدعم فاضح من دول عظمى. كما تكلم المستشار "أحمد الزند" عن الكيان الصهيوني بوصفه "هولاكو العصر" الذي يقتل المدنيين ويتفنن في ترويع الأطفال والنساء بشهيّة جائعة للدماء، ولا أحد يحاسبهم على تطاولهم على محكمة العدل الدولية، وهي أعلى بناء قضائي في العالم، وبدعم كامل من أمريكا التي تمدهم بالماء والسلاح والتكنولوجيا. وكرّم المؤتمرُ روحَ العلاّمة القانوني الراحل أ.د. “فتحي سرور" وتسلّم حفيدُه د. "حاتم" درعَ التكريم.
كل عام والقانون والحق والعدالة بخير.
***