رحلةُ العائلة المقدسة … و-الوعي الشعبي-


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8174 - 2024 / 11 / 27 - 15:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
تصوّروا معي هذه الصورة القلمية الطريفة عن أسرة عريقة، لكنها رقيقةُ الحال. تكدُّ وتكافحُ في نهارها وليلها حتى توفّر بالكاد قوتَ يومِها ومصاريفَ تعليم أبنائها. نقرر زيارة هذه الأسرة. نطرق البابَ وندخل، ثم نستأذن في التجوال في أرجاء القصر الواسع، الذي ورثته الأسرةُ عن أجدادها الأثرياء. نتأمل التابلوهات الأصلية على الحوائط، والمنحوتات القيّمة في زوايا القصر، وغيرها من النفائس التي تتكلم عنها الأسرة بفخر، فهي تراث العائلة العريق، والمجد الباقي حتى وإن غدو اليوم فقراء. في إحدى الغرف المهملة، نشاهدُ خزانة قديمة متهالكة يكسوها الغبارُ. نستأذنُ في فتحها، فتفاجئُنا قطعةٌ ضخمة من الألماس النقي، حجمُها ألفا قيراط! ما هذا؟ كيف تعيشون هذه الحال البسيطة بينما تمتلكون هذه الثروة الهائلة؟! راح أفرادُ الأسرة ينظرون بعضهم إلى بعض بدهشة، وكأنهم فوجئوا، مثلنا، بهذا الكنز الخبيء في بيتهم القديم منذ ألفي عام، ولا يدرون عنه شيئًا!!
طالما تساءلتُ: لماذا وكيف نهملُ هذا الكنز العظيم وذاك التميز الهائل الذي تمتلكه مصرُ، وحدَها، من بين دول العالم بأسره؛ وهو حلول وفد السيدة العذراء وطفلها السيد المسيح، عليهما السلام، زوّارًا لأرض مصر، ومقيمين فيها، إذ قضوا بين ربوعها ما يقاربُ السنوات الأربع؟! أيُّ أرض في هذا الكوكب حازت هذا الامتياز التاريخي والديني الفريد؟! وحدها مصرُ. نعترفُ أن هناك جهودًا مبذولة من قِبل الدولة المصرية لإحياء "رحلة العائلة المقدسة" ووضعها على رأس المزارات السياحية العالمية. بدأت تلك الجهودُ المحترمة عام ١٩٩٨ على يد وزير السياحة ووزير الإعلام ووزير الشباب المثقف الراحل القاضي المستشار "ممدوح البلتاجي". أعقبته جهودٌ خجولٌ من وزاء سياحة تالين. ثم انتعش الأمل ُمجددًا مع القيادة السياسية الحالية، إذ اهتم الرئيس السيسي بتكريس "الوعي" بالهوية المصرية وتاريخنا الخالد. وبدت في الأفق جهود سيادية لتطوير مسارات الرحلة، تزامنت مع جهود مخلصة من مثقفين ورجال أعمال وطنين سخّروا وقتهم وأموالهم لهذا المشروع الوطني مثل "جمعية إحياء التراث الوطني- نهرا"، بقيادة السيد "منير غبور"، والجهود الدؤوب التي يقوم بها منذ عقود الخبير السياحي، وعضو اللجنة الوزارية لإحياء مسار العائلة المقدسة السيد "نادر جرجس"، والتي كان أخرها ندوة مهمة عقدها روتاري مدينة نصر تناولت "محاور إحياء مسار العائلة المقدسة" وتحدث فيها مسؤولون كبار ومثقفون عن جهود الدولة والجمعيات الأهلية في هذا الشأن، وأن الأمل في سطوع هذا الحلم في دنيا الواقع قد بات وشيك التحقق. نعم، نعلم أن هذا المشروع الوطني، الذي سيحقق حلم ال٣٠ مليون سائح، يحتاج إلى المال والعمل من أجل تطوير المناطق المحيطة بالمزارات والمسارات التي مشت فيها ومكثت السيدة مريم ومن معها. ولكن شيئًا أهم، في تقديري، مازال غائبًا، يحول دون تحقيق الأمل. هذا الشيء الغائب هو: (الوعي العام به). حالُنا لا يختلفُ كثيرًا عن حال الأسرة التي رسمتُها في صدر المقال حينما فوجئوا بخبيئة الألماسة الضخمة في بيتهم، لا يدرون عنها شيئًا!!!
منذ عام ٢٠٠٠ تقريبًا وأنا أكتب مقالا سنويًّا في أول يونيو من كل عام عن تلك الرحلة التاريخية الفريدة، وفي كل مقال أنادي بأن يكون (١ يونيو عيدًا قوميًّا) يحتفل فيه المصريون "كافة" بهذا الحدث الجلل، فهو في المقام الأول حدثٌ "وطني-تاريخي" وليس حدثًا "دينيًّا" وحسب؛ لأنه ببساطة وقع قبل الرسالة المسيحية، إذ كان السيد المسيح عليه السلام نفسُه، وقت دخوله مصر على ذراع والدته البتول، طفلا رضيعًا لم يكد يكمل عامه الأول. كيف لحدث بهذه الفرادة ألا يُدرّس في المدارس ويتناوله الإعلام المصري ليلَ نهار حتى يكون حديثَ الشارع المصري، لكي يستقر في ذاكرة "الوعي العام"؟! كيف يغيبُ مثل هذا التميُّزُ المصري عن خارطة السياحة العالمية وهو كنز حقيقي أوقن أنه سيدرُّ دخلا قوميًّا يكافئ دخل قناة السويس؟! وفق منظمة السياحة العالمية، فإن عدد السياح كل عام يتجاوز ٤ مليار سائح، منهم ٢٧٪ يقصدون السياحة الدينية، فتصوروا حجم ما نكسبه كل عام إن تحقق حلم إحياء ذلك المسار؟!
إنه "الوعي" بفرادة تاريخنا المصري المميز، وفي قلبه فرادة تاريخنا الروحي مثل مزارات وفد السيدة العذراء، ومزارات آل البيت الشريف الذين زاروا مصر وقطنوا بها مثل: السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والإمام الحسين، والإمام علي زين العابدين وغيرهم، رضوانُ الله عليهم أجمعين. "الوعي الشعبي" بما نمتلك من "كنوز وفرائد" هو السبيل الأوحد لاستغلالها، وهو كذلك حجز الزاوية في تكريس اعتزازنا بأصالتنا وهويتنا المصرية المميزة، تلك التي لا تشبه إلا نفسها، والتي من شأنها أن تنقلنا اقتصاديًّا إلى منطقة أخرى، في مقدمة العالم.

***