قشرة البندق!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8173 - 2024 / 11 / 26 - 11:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
هل صادفتَ من قبل عزيزي القارئ رجلا يأكل قشرة البندق، ويرمي ثمرتها الداخلية الشهية؟ أنا صادفتُ وأصادفُ كلَّ يوم مثل هذا الرجل، فهو كثيرٌ. هذا الشخصُ يوقنُ أن القشرةَ أهمُّ من القلب. فاته أن يتعلّمَ أن الثمرةَ المعطوبة، لا قيمة لها وإن كانت قشرتُها برّاقةً زاهيةً تسُرُّ الناظرين. لم يعلّمه أبواه ومعلموه أن الجوهرَ أولى من المظهر، وأن المضمونَ أهمُّ من الشكل. الكأسُ: مظهرٌ، شكلٌ، وعاء. أما السائلُ داخل الكأس، فهو الجوهرُ، وهو المضمون، وهو الفكرة. ولولا السائل، ما كانت الكأسُ. وإن غاب السائلُ، ما الحاجة إلى كأس؟ هل يروقُ لك كأسٌ من البلّور الثمين، تحمل في قلبِها رشفةَ سُمٍّ زعاف؟! هل تمتدُّ لها يدٌ لحُسنها وبريقها؟ أم تكسره اليدُ، وتلتقط كوبًا بسيطًا يسكنه الشهدُ الشهيُّ والإكسير الطيب؟
كثيرون ممن نصادفهم كل يوم يرون الدينَ، أيَّ دين، مجموعة من الطقوس والكلمات المحفوظة، ولا بأس من "الكِمالة" بسبِّ الأديان الأخرى وتقريع مُعتنقيها وتسميم نهارهم وليلهم بالسخرية والتكفير والوعيد بالعذاب والهلاك كأنما يملكون سلطان الآخرة، كنوع من التوكيد على الصلاح والتقوى وكمال الإيمان! "ولّما يدخل الإيمانُ قلوبهم". أولئك هم آكلو القشور لافظو ثمارها. الإيمان بالله وحبّ عباده، هو الثمرةُ وهو الإكسيرُ وهو الجوهر، بينما الطقوسُ هي القشرةُ التي تدلُّ على الثمرة، والكأسُ الُمظهر للجوهر. العارفون يدركون أن صلاح النفس وحسن الخلق ونظافة القلب هو الغاية، وهو الجوهر الحق للدين، لأن "الدين المعاملة". أما الشكلانيون الذين لم يتجاوز تديّنُهم الطقس ولم يقرنوا الشكل بالجوهر، فقد قال فيهم مولانا "جلال الدين الرومي” في “المثنوي”: “اذْهَبْ، واسْعَ وراء المعنى، يا عابد الصورة…. فالروح التي تخلو من المعنى تكون في الجسد مثل سيف خشبي في غمده. فمادام السيف في الغمد، بدا ذا قيمة، فإذا أُخرج منه صار آلة لا تصلح إلا وقودًا للنار. فلا تحمل إلى الميدان سيفًا خشبيًّا.”
لهذا علّمني أبي المتصوّفُ، وهو في ظنّي من العارفين، أن الدينَ، كلَّ دينٍ وأيَّ دينٍ، هو جوهرٌ ورسالةُ حبٍّ وبِنيةٌ أخلاقية وروحية وسلوكية وتربوية، قبل أن يكون طقسًا، وأن من لم يملأ الحبُّ قلبَه للناس وربِّ الناس، لم يصل بعد إلى روح الله تعالى الذي أحبَّ جميعَ خلقه دون استثناء فمنحهم من فيض نعمه ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.
ثمة رجلٌ يصليّ الفروض، والسُّنن، ويصوم، ويُزكّي، ويحج، لكنه لا يجد غضاضة في أن يجمع ما سبق من "عبادات"، بممارسة كل ألوان الفساد في عمله من رشوة، يرشو أو يرتشي، ومن محسوبية، ومن مداهنة لرئيس، وظلم لمرؤوس، ومن تعيين معدومي الكفاءة من ذوي القربى والنسَب، وحرمان الكفء الغريب المستحقّ، وظلم المختلف العَقَدي وحرمانه من حقه في الترقيات، والتكاسل عن خدمة المواطنين وغوث الملهوف منهم بتعطيل مصالحه، إذا حلّ موعد الصلاة في مواعيد العمل، بينما يُجيز له الدين مساحةً زمنية فلسفتُها إتاحة الفرصة لإتقان العمل في وقته. ثم يخرج من عمله، ليُكمل عبثَه مع الحياة، فلا مانع من أن يتحرش بفتاة في الطريق؛ فهي مستباحةٌ مادامت خارج بيتها، (لماذا لم تقرّ في بيتها؟). ولا بأس من أن يُلقي بمنديله الملوث أو أعقاب سجائره في الطريق المُستباح، فقد نسي أول درس في كتاب القراءة "النظافة من الإيمان"، فإن عاتبته لا يعتذر بل يصرخ في وجهك: "وأنت مالك؟! الجميع يُلقي الزبالة في الشارع، اشمعنى أنا؟! هي جات عليا؟!". وإن مرّت به فتاةٌ تضع صليبًا، أو راهبةٌ بتول، لا مانع من أن يفزعها صارخًا: "أعوذ بالله"، كأنما صادف شيطانًا رجيمًا، فتلك هي “كِمالة” طبق الكشري الذي يُكمل بها تدينه الشكلي. فإن عاد إلى بيته توضأ وصلّى العصر، ثم تفرّغ لزوجته يُقرّعها لأن الملح زاد في الطعام أو قلَّ، ولا بأس من كلمة جارحة أو ونظرة مزدرية، “كمالة” الطبق. بعدها يجلس إلى التليفزيون سعيدًا، وبعدما يصلي العشاء، ينام قرير العين، وهو موقن من رضا الله ضامنٌ جنّة الخلد لأنه أدى "ما عليه" لله، ومن ثم فعلى الله أن يمنحه ما وعد.
لم ينجح الماليزيون مع "مهاتير محمد"، في تحويل ماليزيا من دولة متهالكة إلى دولة حضارية، إلا بتسخير ميزانية الدولة لصالح التعليم والبحث العلمي، وغرس فلسفة اقتران التنمية الاقتصادية المستدامة بالقيم الأخلاقية، والاستثمار في الثقافة بدعم الفنون والقوى الناعمة وتعزيز الهوية الماليزية. أولئك تمسكوا بالثمرة، وإكسير الكأس، وهذا جوهر الإيمان بالله. اللهم قِنا وقِ وطنَنا العزيز شرورَ آكلي قشور البندق المنافقين.
***