“جريمة بيضاء-… في محكمة الضمير!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8066 - 2024 / 8 / 11 - 11:23
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

هل قتلتَ أحدًا من قبل؟ أغلبُ الظنِّ ستقول: "لم أفعل!". لكن الحالَ أن قتلةً كثيرين يعيشون بيننا، وربما لا يدركون أنهم قتلوا. فالقتلُ ليس وحسب سكينًا وغدارةً ومسدسًا وسُمًّا، بل هناك ألوانٌ شتى من القتل، لا تراقُ فيها الدماءُ البشرية، بل تُهرَقُ فيه دماءُ الروح. كثيرون ارتكبوا جرائمَ أفلتت من قبضة القانون لأن لا أدلةَ ثبوتيةً عليها، وهو ما يندرجُ تحت مظلّة "الاغتيال المعنوي". القانونُ يجرّمُ "شهادة الزور"، لكنه يُمرّرُ "الكذب"، وهو رأسُ الجرائم، مثلما يتجاوزُ عن جرائمَ قاتلة مثل: الحقد، البُغض، الطمع، الأنانية، الحسد، الاغتياب، وغيرها من جرائمَ قد تصل في مُنتهاها إلى "القتل"، ولكن تعقُّبَها وإثباتَها جنائيًّا مستحيل. لهذا فلا عجب أننا نصادفُ في حياتنا بل ونصادقُ آلاف القتلة يعيشون بيننا خارج أسوار السجون، وقد نكون نحن من أولئك المجرمين، نُقرُّ بذلك، أو نُنكر، يعاقبُنا الندمُ، أو نبرر لأنفسنا ما لا نسامح فيه سوانا. تلك هي المسافة بين "القانون" و"العدل". القانونُ ميزانُه "الدليل"، والعدلُ ميزانُه "الضمير".
تلك الإشكالية الوجودية الأزلية كانت الهاجس الذي يحرّك قلمَ الكاتب السويسري "فريدريش دورينمات" في كثير من أعماله، مثل مسرحية "زيارة السيدة العجوز" التي ظلمها أهلُ القرية طفلةً فقيرةً وافترسوا جسدها في "جرائمَ بيضاء" من تلك التي لا يراها القانونُ، فعادت إليهم وهي عجوزٌ ثرية لتعقد محاكمتها الخاصة وتنتقم من جلاديها. ومثل قصة "العُطل" التي ترجمها للعربية المبدع "سمير جريس" وتحكي عن ثلاثة من رجال القانون: قاضٍ، ممثلُ نيابة، محامٍ، استقالوا من مِهنهم لكفرهم بمواد القانون العاجزة عن تحقيق العدل إذا غاب الدليل. فالشاهدُ أن جرائمَ عديدةً تنجو من قبضة العقاب؛ لأن لا دليلَ ماديًّا عليها، إذ تُرتكَبُ داخل خبيئة النفس البشرية بعيدًا عن عيون الناس والقانون. انتبذ الأصدقاءُ الثلاثة بيتًا معزولا في مكان ناء، وراحوا يمارسون "لعبة العدالة" عبر محاكمة مرتكبي تلك الجرائم "البيضاء" التي لا يعاقب عليها القانون.
مسرحية "جريمةٌ بيضاء" يقدّمها "مسرح الهوسابير" ضمن عروض "المهرجان القومي للمسرح المصري"، كتبها الشاعرُ "يسري حسّان"، وأخرجها المبدع "سامح بسيوني" وأنتجتها الكاتبة الجسورة "أروى قدورة" التي تتحمّسُ للأعمال الصعبة دون حسابات "ربحية"، إلا ما يصبُّ في حقل الفن الرفيع. فلعّلها من نوادر مسرح القطاع الخاص أن نشاهد على خشبته عرضًا بهذا التعقيد الفلسفي والتركيب النفسي وباللغة العربية الفصحى، التي لا نستمتعُ بها إلا على خشبات مسارح الدولة.
“جريمةٌ بيضاءُ"، عنوان اختير بعناية، إذ يُذكّرنا بـ"الكذبة البيضاء"، حين نودُّ أن نبررَ لأنفسنا تزييفَ الحقائق، رغم إدراكنا أن "قانون الأخلاق" له معاييرُ أشدُّ صرامةً من مواد القانون العقابي المعروفة. فالكذبُ كذبٌ لا لونَ له، والجريمةُ جميعُها سوداءُ، مهما نجحت في الفرار من العقاب. العرضُ مكتوبٌ بلغة رصينة لا تخلو من المرح، والإخراجُ جيد تداخلت فيه أزمنة الحاضر والماضي. الحاضر: حيث المحاكمة التي شيدها سادةُ القانون المتقاعدون مع الجلاد؛ ليحاكموا الموظفَ البسيط الذي أثرى بعد ارتكابه "جرائمَ بيضاء" مثل: "الحسد، الطمع، الإغواء، الخيانة، الوشاية،" فتسبب في مقتل رئيسه ليحتلَّ مكانَه ويثرى؛ دون أن تخضع أيٌّ من جرائمه لعقاب القانون. والماضي: حيث يعترفُ المجرمُ بجرائمه بعد الضغط عليه والإيقاع به من قِبل وكيل النيابة الذكي الذي ينجح في استخراج الخطايا من دفينة اللاوعي إلى حاضرة الوعي، عن طريق الإشارة إلى أشياء تدل على الثراء المفاجئ الذي حصده الموظف في وقت قصير مثل الولاعة الذهبية والسيارة الفارهة وغيرها من القرائن التي تحولت إلى أدلة ثبوتية باعتراف الموظف، رغم تحذير المحامي له بعدم الثرثرة، وتحت عيني القاضي السعيد بانكشاف الحقائق، والجلاد المتشوّف المتشوّق لتنفيذ القصاص. العرض بطولة "محي الدين يحيى" في دوار "ألفريدو ترابس" الموظف المتهم، "ممدوح الميري"/ القاضي، "خالد محمود"/ المحامي، "سامح بسيوني" (مخرج العرض) في دور ممثل الإدعاء ووكيل النيابة الماكر. وأما شخصية "الجلاد" فقد أداه باقتدار الفنان "أحمد أبو زيد" بجلبابه الأسود وشعره المنسدل وملامحه الجامدة وعينيه القاسيتين، كما يليق بشخصية "عشماوي".
ومثلما تحمس القطاعُ الخاص لإنتاج هذا العمل "الدورنيماتي" المعقد في سابقة جسورة، نذكر أن "العطل"، سبقت الدولةُ في تقديمها على "مسرح الغد"، وتُعرض الآن كذلك ضمن عروض المهرجان بعنوان "النقطة العميا"؛ في إشارة إلى البقعة المظلمة في نفوسنا التي نخفي فيها جرائمنا عن عيون الناس والقانون والعدالة. وهو عرضٌ فائق الجمال من إخراج "أحمد فؤاد"، وسبق أن كتبتُ عنه مقالا في جريدة “المصري اليوم” بعنوان: “النقطة العميا… المسرحُ في تمامه". شكرًا للمسرح المصري، العام والخاص، على كل هذا الثراء والتنوع والجمال.
***