أُهدي جائزتي …. إلى جريدتي
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8200 - 2024 / 12 / 23 - 16:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
ونحن نتأهب للخروج من البيت، سألتُ صغيري "عمر" وأنا أضع له المنديلَ الأخضر في جيب الجاكيت الأزرق: - أنت عارف إحنا رايحين فين يا عمر؟"؛ دائمًا ما أفعلُ ذلك لخلق حوارٍ إيجابي معه، والتأكد من أنه يتابع ما يجري، وما نحن بصدده. أجابني: - “نقابة الصحفيين.”، سألتُه مجددًا: - “طيب رايحين ليه؟" أجاب من فوره: - “جائزة. ماما لها جائزة.”، تلك عادة صغيري، وجميع المتوحدين مثله، في "التقطير" بالكلمات، والإيجاز الشديد والاقتضاب في الحديث؛ عليك طوال الوقت انتزاع الكلمات منهم انتزاعًا. سألتُه: “طيب الجائزة دي اسمها ايه يا عموري؟" وفوجئتُ به يقول: “نوبل". وتركني ومضى.
بالطبعُ لستُ أدري لماذا قال هذا، ولا كيف عرف عن جائزة نوبل!! فمن المستحيل أن تُدرك كيف يُفكّر "المتوحدُ"، ولا ماذا يدور في رأسه. لكن الأكيدَ أن تلك الجائزة الجميلة التي حصدتُها بالأمس، كانت تعادل "نوبل للآداب" بالنسبة لي. السبب في ذلك هو أنني، والحمد لله، قد كُرّمتُ أدبيًّا في محافل دولية عديدة، وحصلتُ على جوائزَ عديدة من الصين وأستراليا وأوروبا وكندا وعديد الدول العربية، لكنها المرة الأولى التي أنالُ فيها جائزةً أدبية من بلدي الحبيب "مصر". لهذا فهي تعني لي الكثير، وسعادتي بها غامرة. عن جائزة: “أفضل كاتبة مقال"، التي توّجتني بالأمس في حفل تسليم جوائز "الإعلامية آمال العمدة، والمحاور مفيد فوزي" في قاعة "حسنين هيكل" بنقابة الصحفيين المصريين.
وصدق الحديثُ الشريف: “إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٌ جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٌ صالح يدعو له.” ورغم أن المبدعين الكبار عصيّون على الموات والنسيان، إذ تبقى أسماؤهم خالدةً في ذاكرة الوطن وذواكر الناس، إلا أن الابنة البارة الإعلامية "حنان مفيد فوزي"، قد أردفت ذلك الخلودَ الأدبيَّ والمعنويَّ لوالديها الكبيرين: "آمال العمدة"، و"مفيد فوزي" بما يُكملُ الأمورَ الثلاثة التي وردت بالحديث: فهي الابنةُ البارّةُ التي تتحدث عن والديها طوال الوقت، وتذكرهما بالخير، شأنها شأن كلّ ابن شريف بارٍّ بوالديه. وأما "الصدقة الجارية" فقد قدمتها نيابةً عنهما حين جمّعت مكتبة والديها النفيسة بكل ما تحمل من مخطوطات وكتب نادرة وعريقة، يصلُ بعضُها عمرًا إلى ١٥٠ عامًا، لتقدّمها هديةً إلى "المكتبة المركزية بجامعة القاهرة"، حتى تفيد الباحثين والطلاب. وأما "العلمُ الذي يُنتفعُ به" فقد قدمه الراحلان الكبيران في منجزهما الإعلامي المشهود الباقي في ذاكرة المكتبات والصحافة والتليفزيون المصري. وها هي "الابنةُ البارّة" تُردفُ هديةَ المكتبة، بهذه الجائزة التي دشّنتها تحت اسم والديها الراحلين لتكريم المبدعين في مجالات الإعلام والصحافة.
حين اتصلت بي الأستاذة "حنان مفيد فوزي" لتُخبرني بفوزي بجائزة "أفضل كاتبة مقال"، قررتُ من فوري أن أهدي الجائزة إلى "بيتي الإعلامي" الذي من خلال شُرفته أُطلُّ على الناس وأُعبّر عن آرائي وأحلامي وهمومي. الجريدة الراقية الرصينة التي لم تحذف لي حرفًا منذ بدأتُ الكتابة بها قبل عشرين عامًا، لأنها صحيفةٌ تحترم الرأي الحرَّ الذي يسهم في بناء الوطن وبناء الإنسان، والتي تؤمن أن حرية الرأي أحدُ أهم الحصون؛ التي لو تصدّعتْ تصدّعتِ الأوطان. عن جريدة "المصري اليوم" أتحدث، وأفخرُ بأنها حصني وبيتي وصوتي الحرّ. وانتويتُ أن أهدي جائزتي لجريدتي بمجرد اعتلائي منصّة التكريم، إلا أنني فوجئتُ بأن جريدتي الحبيبة نفسَها قد نالت "جائزة أفضل جريدة مطبوعة"، تسلّمها المهندسُ المثقف "صلاح دياب"، فكانت هذه الجائزة المستحقّة بمثابة تتويجٍ آخرَ لي.
أعودُ إلى صغيري "عمر" الذي أطلق: "جائزة نوبل" على "جائزة أفضل كاتبة"! ورغم أن ابني تحت "طيف التوحد"، إلا أنني تعودتُ ألا آخذ أفكاره وكلماته الشحيحة باستخفاف، بل أتأملُ كل كلمة ينطقها وكل سلوك يأتيه لإيماني المطلق بأن "المتوحدين" يرون العالمَ عبر منظور مُركّب شديد التعقيد، وليس على النحو المباشر الذي ننظر نحن به للأمور. أدمغةُ المتوحدين لا تشبه تركيب أدمغتنا، بل هم يفككون العالم ويعيدون ترتيبه على نحو تشكيلي فلسفي معقّد؛ لم يستطع العلمُ حتى الآن الوقوف على كُنهه. لماذا قال "عمر" إنها جائزة "نوبل"، وهي أرفعُ الجوائز العالمية على الإطلاق؟! لا شكَّ عندي في أن "عمر" استطاع سبر غوري والنظر إلى أعماقي فأدرك كم فرحتي بهذه الجائزة التي تأخرت كثيرًا، لكنها جاءت أخيرًا لتتوّج مسيرتي الصحافية والأدبية والوطنية والنضالية الطويلة التي تناهز ربع القرن. شكرًا للصديقة العزيزة "حنان مفيد فوزي" على هذا التكريم، وسامحها الله لأن وضعت فوق كاهلي اسمين ثقيلين في ميزان القيمة والأثر. وفي مقال قادم سوف أتحدث عن "آل مفيد فوزي" وبعض تاريخي مع ثلاثتهم.
***