لم أتسبّبْ في دموعِ إنسان!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 12:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

من أجمل بنود "قانون الضمير" المصري القديم، الذي عُرف بـ "قانون ماعت" البالغ عدده ٨٤ بندًا، جملةٌ "مخيفة" تقول: “أنا لم أتسبّب في دموع إنسان"، يقولُها المتوفَى أمام قُضاة الحساب، لكي يدفعَ أمام عدالتهم باستحقاقه الخلود، أي البعث والعودة إلحياة بعد الموت، وفقَ المعتقد المصري القديم. هذا الانبعاثُ من الموات يكافئ في معتقدنا الإسلامي: "الفوز بالجنة" والنجاةَ من جهنم. وصفتُ الجملةَ بالـ "مخيفة" إذ نتصوّرُ أن مصيرَ الإنسان الأبدي رهنُ "دمعةٍ" عابرة ذرفها إنسانٌ في لحظة قهر أو ظلم أو كسر خاطر! أبديةُ الإنسان مرهونةٌ بالرحمة وطيب الطويّة، وليس وحسب بالصلاح والتقوى والسلوك القويم. سَلْ نفسَك: “هل تسببت في دموع إنسان؟"
غدًا، يحلُّ علينا "اليوم العالمي للتضامن الإنساني" الذي أقرّته الأمم المتحدة يوم٢٠ ديسمبر من كل عام، لتذكير البشر بوحدة الأصل الإنساني رغم التنوّع في الأعراق، ورفع مستوى الوعي العام بحتمية التآزر والتكافل، وتشجيع مبادرات القضاء على الفقر والجوع والمرض. إنها الرحمةُ التي لو اختفت من قلوب الناس، لصار العالمُ صحراءَ قاحلةً موحشةً لا نبتَ فيها ولا ماء ولا وجوه طيبة.
قبل يومين كنتُ في زيارة الباسلة الساحرة "بور سعيد"، وتشرفتُ بلقاء سيادة اللواء أ.ح. "محب حبشي" محافظ "بور سعيد" المثقف، لأهديه بعضًا من كتبي. وتطرّق بنا الحديثُ إلى رحمات الله ببني الإنسان، بوصفها "طوق النجاة" الذي نتوقُ إليه كلما ضاقت بنا السُّبلُ وغُلَِّقتِ في وجوهنا الأبوابُ. ومن أجمل ما قاله لي "اللواء/ محب" تأمّلُه في عبقرية "البسملة"! لماذا أُضيف نعتُ "الرحيم" إلى نعتِ "الرحمن" في وصف لفظ الجلالة؛ رغم اتفاقهما في الاشتقاق اللغوي من الجذر "ر-ح-م"؟! لماذا لا نكتفي بأن نستهلَّ الآيات القرآنية بالتسمية بالربِّ "الرحمن" (أو) "الرحيم"، بل نجمعهما معًا كوحدة لا تنفصم؟ تعالوا للتأمل اللغوي: "الرحمن" على الوزن الصرفي "فَعلان"، وتدلُّ هذه الصيغةُ على: "الشمول والشساعة"، لكي تؤكد: "سِعةَ الرحمة وعمومَ مِظلّتها" بحيث تشملُ "جميعَ" الخلق دون استثناء. “ورحمتي وسِعَت كلَّ شيء" الأعراف ١٥٦. أما "الرحيم": على الوزن "فَعيل"، فهي صيغةٌ تدلُّ على: "الثبوت والاستمرار والديمومة”. ولهذا؛ فحين نستهلُّ أمرًا بقولنا: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فكأنما نكرّسُ اطمئنانَنا، ونؤكدُ لأنفسنا أن باب الرحمة الإلاهية: "شاملٌ"، و"دائمٌ"، ففيم الجزعُ وممَّ الخوفُ وعمّ التساؤل والقلق؟!
هكذا الرحمةُ الإلهية المعجزة التي لا يحدُّها مكانٌ ولا زمانٌ، تُظلّل جميعَ الخلق دون تمييز. وهكذا وصفَ اللهُ نفسَه بأن سِعة رحمته لا حدودَ لها، ودوامَها لا مُتناهٍ. فكيف، والحالُ هكذا، نقسو على مَن رحِمَ اللهُ؟ وكيف نطلبُها من الله بقلب واثق، ونحن لا نتراحمُ فيما بيننا؟!! يقول المأثورُ: “فاقدُ الشيء لا يُعطيه"، ولكن الأدقَّ أن نقول: “فاقدُ الشيء لا يُعطاه، أو لا يستحقه". لهذا يقولُ الحديثُ الشريفُ: "الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء.” ويقول الكتابُ المقدس: “طوبى للرحماءِ لأنهم يُرحمون.”
والحقُّ أن فكرة "التضامن الإنساني" ليست وليدة العصر الحديث، ولا هي ابنة عام ٢٠٠٥ حين نبهت إليه الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة خلال المؤتمر العالمي للتنمية الاجتماعية، فأفردت يوم ٢٠ ديسمبر يومًا عالميًّا للتذكير به. إنما هي أصلٌ راسخٌ في وجدان الإنسان منذ بدء الخليقة. فالإنسان، بفطرته، كائنٌ اجتماعي يتوق إلى التآزر مع الآخر لكي يحتمي كلاهما بأخيه من عسف الحياة وقسوة الطبيعة، وكذلك من أجل زراعة الأرض وتشييد العمران. وفي الملاحم القديمة، والأساطير التي تناقلتها الأجيال، كان العيشُ الرحيم بين بني الإنسان هو فلسفة الوجود ومحور الحياة وطوق النجاة من المخاطر والأهوال. وفي جميع الديانات نرى التضامن الإنساني ركنًا أصيلًا في الرسائل العقدية؛ حيث يُوصَى الإنسانُ بأن يكون عونًا لأخيه، بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين. ولكن في ظلّ حال الشتات الذي تحياه البشريةُ وشرارات الحروب التي تبرقُ في العيون، بين الحين والحين، وفي ظل عالم مزّقته الانقساماتُ والمطامعُ والظلمُ، وطحنته الأزماتُ الاقتصادية والمجاعاتُ والجوائحُ والكوارث، بات الإنسانُ يتوقُ إلى قبس من نور التراحم والتكافل والتضام لينجو من الأثرة والانكفاء على الذات؛ لئلا تزدادَ الفجوةُ بين بني الإنسان اتساعًا وتصحُّرًا. ما أحوجنا اليوم لنُذكِّر بعضنا بحتمية التراحم، ونُطوّبَ القلوبَ النبيلة التي ترحمُ، فتكون مستحقة لرحمات الله تعالى. ومن الخطورة بمكان أن نتذكّر التضامن الإنساني في يوم واحد من أيام السنة، في حين يجب أن يكون أسلوب حياة ومراسًا يوميُّا لا استثناء فيه.
وصدق الشاعرُ "الحافظُ زين الدين العراقي" حين قال:“إن كنتَ لا ترحمُ المسكينَ إن عَدِمَ/ ولا الفقيرَ إذا يشكو لكَ العَدَمَ/ فكيف ترجو من الرحمنِ رحمتَه/ وإنما يرحمُ الرحمنُ مَن رَحِمَ.” كلَّ عامٍ ونحن رحماء.

***