كتابايَ الجديدان … و حدوتةُ الحاج -مدبولي- (١)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8186 - 2024 / 12 / 9 - 00:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كتابايَ الجديدان … و حدوتةُ الحاج "مدبولي" (١)
Facebook: @NaootOfficial
قبل أيام صدر لي كتابان جديدان: “صهواتُ الخيول"، و"محاكمةُ القمح"، عن دار "مكتبة مدبولي" العريقة. وهذا المقالُ ليس عن الكتابين، بل عن الاسم الثقيل: "مدبولي"، "الرقم الصعبُ" في دنيا الكتب وعالم النشر، والذي يعرفه كلُّ قارئٍ وكاتبٍ وباحث أكاديمي، مصريًّا كان أو عربيًّا؛ بوصفه: “فكرةً"، أو "حدوتة مصرية خاصة"، أو "حالة" فكرية ثورية تنويرية، لا تشبه إلا نفسَها. "مدبولي" ليس مجرد اسم لمكتبة شهيرة تشرقُ مثل بلّورة ساطعة في قلب ميدان "طلعت حرب"، بل هي مؤسسةٌ ثقافية تنويرية ونضالية؛ لها تاريخٌ قديم انطلق من منتهى البساطة إلى منتهى العمق، حتى صارَ حكايةً شجيّة يحكيها الأبُ لابنه، والأستاذُ لتلاميذه، ويتناقلها الكبارُ إذا ما لمحوا في صغارهم بوادرَ الشغف بالقراءة أو الكتابة.
“محمد مدبولي"، الشهير في الوسط الثقافي بـ "الحاج مدبولي"، زار عالمنا عام ١٩٣٨، ورحل عام ٢٠٠٨. وبين الرقمين سبعون عامًا من الكفاح الشاق مع الكلمة والفكرة، حتى صار أشهرَ ناشر وموزع كتب، في مصر والعالم العربي. ونرصدُ أقوالا خالدة لحُكّام عرب ومسؤولين كبار، في مناسبات ثقافية مثل افتتاح معارض الكتاب ببلادهم، أقرّوا بأنهم نهلوا معارفهم من "مكتبة مدبولي"؛ مثلما تعلموا ودرسوا في "جامعة القاهرة". وأضافوا إنهم في سنوات دراستهم كانوا أحيانًا يستعيرون الكتبَ ولا يدفعون مقابلها، ريثما تصلهم الحوالاتُ المالية من من ذويهم. وكثيرًا ما يقول المثقفون العرب إن زيارتهم لمصر لا تكتمل إلا بزيارة المكتبة: “نأتي إلى القاهرة لنستمتع بالنيل، والأهرامات، وصوت "أم كلثوم" في دروب وطنها، ولابد أن يكون الختامَ زيارةُ "مكتبة مدبولي"، لنحمل كنوزَ الكتب في رحلة العودة". هكذا صارت "مكتبة مدبولي" من علامات مصر السياحية ومعالمها "التراثية المتجددة”. وأعلم أن الكلمتين السابقتين لا يجوز جمعُهما: “تراثية- متجددة"؛ فهما ضدان لا يتصالحان. فالتراثٌ تراثٌ لثباته، والتجديد ضدُّ الثبات. لكن الضدين يجتمعان حال الكلام عن "مكتبة مدبولي"، لأن شأنَها شأنَ الفكر الحر المتجدد خصيم الثبات. فالمكتبةُ عطفًا على المعرض الضخم الكائن في العمارة المجاورة للمكتبة، تتبدّلُ فيهما عناوينُ الكتب كلَّ يوم، فتحلُّ الإصداراتُ الجديدة محالَّ القديمة، في حضن أمهات الكتب؛ التي تُحرصُ المكتبةُ على توزيعها حتى وإن لم تكن هي ناشرَها. ذاك أن صاحبها الراحل، ومن بعده حاملَ مشعله الراهن الابن المهندس "محمود مدبولي"، همُّهما الأولُ "نشرُ" الثقافة، بالمعنى الاعتباري النبيل، وليس وحسب "نشرَ" الكتب بالمعنى الحرفيّ المادي للكلمة. فسوف تجد على الرفوف كتبًا ودواوينَ للحلاج والسهروردي وجلال الدين الرومي وابن عربي والمتنبي والجواهري والسياب ودرويش، إلى جوار إصدارات المكتبة لشباب الأدباء الذين تراهنُ الدارُ عليهم بعدما تقرأ مخطوطاتِهم لجانٌ استشارية متخصصة مكونة من كبار الأدباء والمفكرين الذين يتعاونون مع المكتبة احترامًا لاسمها الكبير وتاريخها الجليل.
بدأت رحلةُ كفاح "الحاج مدبولي"، بعد "الحرب العالمية الثانية"، منذ كان صبيًّا في السابعة من عمره يساعدُ والدَه في توزيع الصحف والمجلات العربية والأجنبية على أماكن المثقفين ومجالس الجاليات الأوروبية والدوائر الأرستقراطية المنتشرة في مصر آنذاك. ثم شرع مع الخمسينيات في توزيع الكتب والروايات تلبيةً لمطالب المثقفين، فعرف طريقه لدور النشر العريقة في بغداد وبيروت ودمشق، وراح يستورد جديدَهم في الأدب والفلسفة، وراح يطالعُ ويقرأ، بعدما علّم نفسَه بنفسِه، لكي يتعرف على نبض الحراك الثقافي وذائقة القارئ، حتى صار مع الوقت خبيرًا في فنّ تذوّق الكتب، وتكوّنت لديه مَلكةُ "تشريح الكتاب" ومعرفة خباياه، فغامر ودخل مضمارَ طباعة الكتب ونشرها، حتى صارت "مكتبة مدبولي": "بورصةَ الكِتاب، وبوصلة القارئ"، كما قال مثقفون وباحثون عرب في كتاب "الحاج مدبولي… قصة كفاح".
اختطفه شغفُ الحرف والكلمة، وهو "شَرَكٌ" لو تعلمون عظيم! إن اختطفت حبائلُه إنسانًا؛ ما عاد قادرًا على الهروب والفكاك. وهو ذاتُ "الشَّرَكُ النبيل" الذي اختطف نجلَه الأصغر "محمود مدبولي"، الذي حمل مشعلَ والده "الحاج مدبولي" بعد رحيله، رافضًا أن يزوي هذا النجمُ الساطع في قلب القاهرة، بل راح يفتتحُ فروعًا جديدة لمكتبات مدبولي في عواصمَ عربية أخرى، لكي تُشرقَ شمسُ مصرَ في مشارق الدنيا ومغاربها. ولابد أن أعلن فخري بزميل دراستي، المهندس "محمود مدبولي"، ليس فقط كونه ابنَ "هندسة عين شمس"، و"قسم العمارة" مثلي، بل لأنه حافظَ على إرث أبيه العظيم وغامرَ باستكمال مشواره الشاقّ في طباعة ونشر الكتب، في مجتمعاتٍ ليست القراءةُ، للأسف، من أولوياتها! فكأنما يبيعُ "سِلعةً بائرةً، في ظلِّ ارتفاع أسعار الورق وحرصه على الطباعة الأنيقة كما يليق باسم المكتبة العريق، تخسرُ أكثرَ مما تكسب!! لكن كسبَ "المال" يتضاءلُ أمام قيمة "المعرفة”. في مقالي القادم "يوم الاثنين" بإذن الله أستكملُ معكم أسرار حدوتة "الحاج مدبولي".
***