خيال … -صلاح دياب-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 10:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial
“الخيالُ أهمُّ من المعرفة. فهو استشراف المستقبل لخلق الحياة"، هكذا قال "أينشتين"، الذي بلغ من "المعرفة" مبلغًا جعله يهدم مُسلّمات فيزيائية اتفقت عليها البشريةُ؛ فما عادت "الكتلةُ والمكانُ والزمانُ" ثوابتَ يمكن قياسُها، بل "نسبياتٌ" تختلف من ظرفٍ إلى آخر. فلو وُلد طفلان توأم في نفس اللحظة، وسافر أحدهما إلى المريخ وبقي الآخر على الأرض، ثم التقيا بعد ثمانين عامًا، سيكون أحدهما صبيًّا صغيرًا والآخر كهلا هَرِمًا. فالزمان والمكان نسيجٌ هيولي راقصٌ متشابك، لا قِيمًا قياسية ثابتة منفصلة. تصوّرا عقلا على هذا المستوى المذهل من "العلم"، يرى أن "الخيال" أهم من "المعرفة"؟! لا عجبَ! فالمِخيالُ الجامحُ يحلّقُ خارج صندوق المعرفة المحدود، فيرى ما لا تراه الأبصار. ولهذا يقول "برنارد شو": (أنتم تروت الموجود وتقولون: “كيف هذا؟" أما أنا فأرى ما ليس موجودًا، وأقول: “ولم لا؟!) جميعُ ما نرى من ابتكارات مدهشة كالطائرة والصاروخ والهاتف والكاميرا والمطبعة، ومن إعجازات فكرية كالنسبية، وميكانيكا الكمّ، ومعادلة ريمان، ومن مُدهشات أدبية وفنية، صانعُها: "الخيال".
لهذا أدهشني الحوارُ المميز الذي أجره الزميل "مصباح قطب" مع المهندس "صلاح دياب" على صفحات "المصري اليوم" بتاريخ ٨ أكتوبر ضمن سلسلة "حوارات الأسئلة السبعة" التي تُجريها الجريدةُ تِباعًا مع خبراء الاقتصاد والصناعة المرموقين، في جلسات عصف ذهني للوقوف على رؤى خلاقة تواجه الأزمة الاقتصادية الراهنة. استهلّ حديثه بتسليط الضوء على جوهر المشكلة. إنه "نقصُ الخيال، وعدم القدرة على تحقيقه إن وُجد". فالمشاكلُ الكبرى مستحيلٌ حلُّها بالطرق التقليدية، بل يلزمُها سِعةٌ من الخيال المرن، يبتكر أبجدياتٍ جديدةً وخططًا للحلّ من "خارج الصندوق"، ثم يلزم بعدئذ امتلاك إرادة تحويل الخيال إلى واقع. قدّم "صلاح دياب" سبع أفكارٍ ثمينة، هي حصاد خبرته الطويلة في عالم الصناعة وريادة الأعمال، يمكن استثمارها في بلدنا، فقط لو بدّلنا وضع المنظار فوق عيوننا، لنرى بعين الخيال طرائقَ مبتكرة بوسعها تحويل المشكلة إلى رغد، في أصعدة كثيرة مثل: “السياحة والفندقة”، و"الطاقة"، و"الزراعة" و"طرق الريّ"، و"القطاع الخاص"، واستثمار "العقول المهاجرة". في مجال النهوض بالسياحة والوصول إلى معدلات تليق باسم مصر، نصطدم بحاجتنا إلى عشرات الآلاف من الغرف الفندقية لاستيعاب الدفق السياحي المنشود الذي تحاول الدولة تحقيقه. هنا يخبرنا "الخيالُ" أن بوسعنا استغلال الوحدات الشاغرة في الساحل الشمالي التي تتعطّل طوال أيام الدراسة، وهذا من شأنه كذلك تشغيل المحال التي تُغلق طوال فترة الشتاء. وفي مجال التصدير الزراعي يقول "الخيالُ" إن أولوية تأجير الأراضي الزراعية الجديدة يجب أن تكون من نصيب "المُصدّرين" الزراعيين الذين بوسعهم زراعة محاصيل غير تقليدية تناسب ظرفنا المناخي لاجتياح الأسواق العالمية. هنا يمكن أن تجتاز الصادرات الزراعية حاجز الأربعة مليار دولار إلى المليارات العشرة. كما أشار "دياب" إلى أن مشكلة الماء الراهنة لدينا تستوجب أن نعيد النظر في فكرة "الري بالغمر" المتوارثة منذ آلاف السنين ولم تعد صالحة اليوم في ظل شح المياة، ويجب تحوليها إلى "الريّ المرشّد" حتى تزيد الرقعة الزراعية من ١٠ مليون فدان إلى أضعاف هذه المساحة. ويمكن لمشروع "حياة كريمة" أن يجرّب ذلك في محافظة تكون نموذجًا قابلا للتكرار. وأشار رجل الأعمال "صلاح دياب" إلى فرصة تحويل منطقة الهرم ونزلة السمان إلى منطقة جذب سياحي بمعايير عالمية وليكن اسمها "إيجي لاند"، نستعين فيها بخبرات شركة "ديزني لاند" مثلا لتنظيم رحلات وجولات حضارية محترمة في المتحف الكبير والمنطقة الأثرية المحيطة، لئلا نترك السياح طرائدَ بين أنياب مافيا الجهلاء، الذين يعاملون السياح بوصفهم أكياس نقود متحركة يجب افتراسها، دون تقديم خدمة سياحية ومعرفية حقيقية تليق بتاريخنا العريق.
ومن بين ما أثار المهندس "صلاح دياب" في حواره الطويل الشيّق، فكرة استثمار "العقول المهاجرة"، مشيرًا إلى نماذج مصرية مهمة مثل: د. "يوسف بطرس غالي" الذي صنع طفرات اقتصادية هائلة في عديد من دول العالم، وصار مستشارًا اقتصاديًّا عالميًّا لدول الشرق والغرب، واختير اليوم ضمن التشكيل الجديد للمجلس التخصصى للتنمية الاقتصادية، و"محمد لطفى منصور"، وزير النقل الأسبق الذي منحته بريطانيا لقب "سير”، والمهندس "رشيد محمد رشيد" وزير الصناعة الأسبق، و"محمود محيي الدين" أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وغيرهم من الطيور المصرية المهاجرة التي يجني العالمُ ثمارَ عقولها النيّرة، ومصرُ أولى بتلك الثمار. وتذكّر بحسرة رجال صناعة مميزين غادروا مصر مثل "ياسين" في الزجاج، و"قسمة والشبراويشي" في العطور، و"عبد اللطيف أبو رجيلة" في الحافلات والنقل، و"عبد الفتاح اللوزي" لغزل الحرير، وغيرهم ممن وئدت صناعاتُهم التي لو كُتب لها الاستمرار لكانت اليوم براندات عالمية.
من الصعب تلخيص حوارٍ جادٌّ ومُلهِم، يجب أن يُقرأ بعناية وتٌفنّدَ أفكارُه النيّرة على طاولة البحث والدراسة؛ عسى "الخيالُ" يتحول إلى "رغد مُعاش".
***