-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات عن الحُبّ
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7808 - 2023 / 11 / 27 - 16:50
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في مقالة معنونة "الحُبّ" ينتقد ماركس فيها وجهة نظر ادغار بوير وهو أخ لبرونو بوير.
يقول ماركس: السيد ادغار يصنع من الحُبّ "إلها" "إلهاً شرساً" إذ يُحل إنسان الحب، محل حب الانسان "
بكلام آخر: يحل الصفة محل الموصوف، أي يجعل الصفة التي هي الحُب، حب انسان لإنسان، وهي فاعلية ذاتية وصفة إنسانية (إنسان محب) وعلاقة مع انسان مقابل، يجعل هذه الصفة إنسان فرد يمشي في الأسواق على قدمين ويأكل الطعام كـ "أنف" غوغول" "وثدي “فيليب روث، و "مسخ" كافكا حيث الصفة تتحول إلى موصوف، تتجسد بشخص وهذا التجسيد للصفة أو تشخيصها؛ تحولها إلى شخص بذاته، هو من المجاز المرسل، أو ما يسمى بالعربية بـ"كناية الصفة".
بمعنى آخر يريد ماركس أن يقول: حتى يتخلص ادغار من جسد المحب يحول صفة الحب إلى جسد مستقل مجرد عن صاحبه وحامله، هو يريد التخلص من كل حامل لصفة ويحتفظ بالصفة مشخصة بجسد خالص من كل جسدية أي طاهرة كروح خالص.
يقول ماركس: بانتزاعه من الانسان الفرد "الحب" جاعلاً منه (الحب) كائناً منفرداً ومسبغاً عليه وجوداً مستقلاً (شخص)، بهذا التحول من الصفة إلى الموصوف (من الصفة إلى الشخص الفرد) يمكننا على الطريقة النقدية (طريقة بوير وأخيه ادغار) تحويل سائر التحديدات الجوهرية والظواهر الأساسية للإنسان إلى مسوخ وضياعات (قارن الانف والثدي والمسخ) تتناول الموجود (الانسان الفرد). إن قصص غوغول وفليب روث، إن هي إلا قصص ضياع الإنسان واغترابه عن صفاته ونتاجات فعاليته الذاتية، وكأنها أشخاص خارجه، مثلها مثل بقية قواه الأخرى الجسدية والروحية (حال الانسان في الاغتراب الاقتصادي والاغتراب الديني).
يستخدم ماركس هنا عبارات وجودية مثل كلمة (الموجود) ما يشير إلى استمرار أثر عبارة هيغل في فكر ماركس النقدي الجديد.
يضيف ماركس أن النقد النقدي يطبق هذا التحول أو الانمساخ على ذاته: هكذا نرى النقد النقدي مثلاً يجعل من النقد، وهو صفة ونشاط للإنسان، موضوعاً خاصاً (مجرداً من ثم مجسداً) هو النقد المطبق على ذاته (محولاً الصفة إلى اسم) هو "النقد النقدي"، إن التضحية بالفعالية الذاتية للأفراد وبصفاتهم الفردية وتحويل ذلك إلى أشخاص مستقلين عن الفرد وفعاليته المحايثة، هي نوع من "مولوخ" شرير أشبه بشيطان تقوم عبادته على التضحية بالذات، أي انتحار الانسان ومعه انتحار موهبة التفكير الإنسانية.
إن حديث ماركس هنا عن الانسان، بدل الحديث عن الافراد الواقعيين، دليل على استمرار تأثره بعبارة فيورباخ "الانثروبولوجية" والتي سوف ينتقدها لاحقاً في "الأيديولوجية الألمانية".
وباعتبار أن الفعالية الوحيدة للنقد النقدي هو فعالية ذاته كناقد مع ذاته كروح منقودة، فإن الموضوعات كأجساد ومنها "الجمهور" ككتلة بعيدة عن اهتماماته الروحية، والمؤنث كعلامة على الجسدية غائب هو أيضاً، "لأن المحبوب لا يهم المحب"، ولأنه لا تأنيث بدون جسد. (بدن): شخص الشيء دون شَوَاه، وشواه أطرافه. والبدُن: هي البعير أو الشاة التي يضحى بها في الحج، وهي البَدَنة التي تُهدى للبيت (الحرام)، سميت بذلك لأتهم كانوا يستسمنونها. ورجل بادن وبدين، أي عظيم الشخص والجسم، يقال منه بَدُنَ"(م.م 1:211).
ففي الفكر الباطني الصوفي الإسلامي، يغدو الروح الذي هو مذكر في العربية، مؤنثاً عندما يخرج محمولاً على الصوت البشري الذي هو جسده، حيث الصوت إن هو إلا تيار الهواء الخارج من الصدر البشري والمقطع وفق مواضعات نطق حروف اللغة التي تحمل المعنى. إن "فاطر" الخفي يغدو "فاطمة" مع الكلمة المنطوقة (لوغوس) التي هي المسيح عيسى في لاهوته المعنوي وتجسده الناسوتيّ. جاء في القرآن الكريم: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء: 171]
إن العدو الأكبر للنقد النقدي" هو "الموضوع" (الجسد) الذي هو صفة "للجمهور"، ونفي الأخير هو موضوع انفعالات النقد النقدي، أو الذاتية المطلقة، العمل النقي أو الفعالية النقية الخالصة من كل جسدية. هذه الفعالية الخالصة ترى في الحب وحشها الأسود وشيطانها، الشيطان مشخصاً بلحمه وشحمه، والحب حسب ماركس "هو الذي يعلم الانسان، أكثر من أي شيء آخر الايمان بالعالم الموضوعي-الجسدي خارجاً عنه (عن الانسان الفرد) والذي يصنع ليس من الانسان موضوعاً بل ومن الموضوع إنساناً" ، والذي يصنع ليس من الانسان جسداً، بل ومن الجسد إنساناً.
إن فكرة تحول الانسان إلى موضوع في الانسان الفعال نجدها عند هيغل في كتاب "فنومينولوجيا الروح" أو علم ظهورات الروح. وهو كتاب يعنى بظهورات الروح: شخوص الانسان، وظهور المفهوم أو المقولة بالشخص.
يكتب ماركس في مقدمة الطبعة الألمانية الأولى لرأس المال: "لكي نتجنب ما يمكن أن ينشأ من سوء فهم، أود أن أقول كلمة أيضاً، أن الامر لا يتعلق هنا بأشخاص إلا بمقدار ما يكونون تمثيلاً وتشخيصاً لمقولات، وبمقدار ما يكونون دعائم لمصالح وعلاقات بين طبقات معينة" (ماركس: مقدمة الطبعة الأولى الألمانية ص 9 ترجمة محمد عيتاني، دار المعارف بيروت 1982) منقول عن (نايف سلوم: في القول السياسي-1 1999 ص 131)
يقول ماركس: ويستطرد النقد النقدي، خارجاً عن طوره، بأن الحب لا يكتفي حتى بتحويل الانسان إلى مقولة، ولأنه "موضوع" بالنسبة لإنسان مقابل له، فهو يذهب إلى حد أنه يصنع من الانسان موضوعاً معيناً، واقعياً، (يحوله) إلى "هذا" (راجع هيغل: الفنومينولوجيا؛ عن الهذا والذاك). النقد النقدي يهاجم ("هذا" كونه الموضوع-الجسد)؛ الموضوع الفردي الحقير الخارجي، الذي لا يبقى محجوزاً في الداخل ضمن الدماغ، بل ظاهراً محسوساً.
إن المحبوبة كما يقول ماركس "موضوع محسوس" (جسد محسوس)، والنقد النقدي عندما يتنازل ويقبل الموضوع، يقبله على أنه موضوع غير حسي (موضوع في الرأس أو ماهية)، بينما الحب مادي لا نقدي ولا مسيحي.
"إن الحب يذهب إلى الحد الذي يصنع معه من الموجود البشري (الفرد البشري) "ذلك الموضوع الخارجي موضوع انفعال" موجود بشري مقابل (جسد مقابل). الموضوع الذي يجد فيه الشعور الاناني للإنسان المقابل إشباعه. وهو أناني لأن كل إنسان يفتش لدى مقابله عن جوهر ذاته ". ما نزال هنا في معادلة (أنا-أنت) ضمن عبادة الاوثان، لأن الفرد المقابل لي ليس جوهري، فأنا وأنت، كالبضاعة والبضاعة-المقابلة، هما نتاجان لشيء آخر غيرهما، هو قوة عمل العامل الأجير.
إن النقد النقدي متحرر من كل أنانية إلى درجة أنه يكتشف كل مدى الجوهر الإنساني متحققا بصورة كاملة في ذاته نفسها" أي أنه يكتشف أنه لا يحب سوى ذاته الخالصة.
إن موضوع الحب الممتلئ روحاً الغني بالمعاني، الشديد التعبير، لا يوحي إلى "سكينة المعرفة" (إدغار) إلا بهذا الرسم الاولي الذي يعبر عن مقولة: إن هذا الموضوع الخارجي للانفعالية شأنه شأن النجم المذنب مثلا، ليس بالنسبة لفيلسوف الطبيعة الذي يقتصر على التأمل النظري (النظراني) سوى السلبية. والانسان عندما يجعل من موجود إنساني مقابل، الهدف الخارجي لانفعاليته –وهذا ما اعترف به النقد النقدي-يسبغ عليه أهمية ولكنها أهمية موضوعية، بينما تكون الأهمية التي يسبغها النقد على الموضوعات، هي غير الأهمية التي يسبغها النقد على ذاته، والتي تتوطد في عدمية الموضوع الخارجي الحقير. يقول ماركس: إن الحب غير النقدي لا يفصل الإنسانية عن الانسان الفردي (الفرد الانساني)، الانسان الشخصي.
إن الحب نفسه وهو ذلك الهوى المجرد الذي يأتي من حيث لا ندري ويذهب إلى حيث لا ندري .. إن هوى الحب (هذا) لا يستطيع الطموح إلى نمو داخلي ذي أهمية كمقولة ديالكتيكية. وذلك لأنه ليس سلسلة مقولات هيغلية تستنتج كل مقولة من التي تسبقها. لأن نمو هذا الهوى واقعي، يجري في عالم الحس والجسد وبين أفراد واقعيين.
والاهمية الأساسية في البناء النظري التأملي الهيغلي تكمن في السؤالين: من أين يأتي هذا؟ وإلى اين يمضي؟ إن السؤال من أين، هو بالضبط ضرورة المفهوم (مصدره)، وبينته واستنتاجه (حسب هيغل) وأن السؤال إلى أين؟ هو التحديد الذي بموجبه تكون كل حلقة منفردة من الدورة النظرية (تسلسل المقولات) باعتبارها عنصر حي للطريقة (الديالكتيكية)، هي في الوقت نفسه بداية حلقة جديدة (حسب هيغل)
على هذا الأساس قد لا يكون الحب قميناً باهتمام "النقد" النظري إلا إذا كان بالإمكان بناء مصدره وهدفه قبلياً" ، أي تشترط الفتاة على الفتى الزواج مسبقاً قبل ان تقع في الحب.
إن ما يقاومه النقد هنا هو كل تجربة حقيقية لا يمكن مسبقاً أبداً معرفة من أين جاءت وإلى اين تمضي"
يشير ماركس هنا اعتماد ادغار على برودون في إنشائه النقدي هذا: "بوسعه إذن أن يقيم الدليل استناداً إلى برودون"
تبقى نقطة يتوجب الإشارة إليها قبل مغادرة موضوعنا.
يقول ماركس: "إن الحب بنظر "سكينة المعرفة: ادغار" هوى مجرد، وذلك بحسب المصطلحات النظرية (الهيغلية) التي تسمى المحسوس، مجرداً ". وهذا الاستخدام لتأمل الكائنات المحسوسة كتجريد، نجده لدى الصوفية المسلمين كالحلاج على سبيل المثال، حين يقول بخصوص إبليس: غير أن إبليس سقط عن العين وأحمد (ص،ل،ع،م) كُشف له عن عين العين.. إبليس تغير عليه العين (أعيان الحسيات) وهجر الألحاظ في السير وعبد المعبود على التجريد (بقي عند الحسيات والجسدية، وعبد البهائم) قال له: اسجد (لشخص الاسم آدم) قال: لا غير! (لا أعبد غير هذه المحسوسات ولا شأن لي بالأسماء والمفاهيم والعينيات) قال له: إن عليك لعنتي، قال: لا غير! (أي لن أسجد لغير "هذا" الذي ملقى أمامي؛ لن أسجد لغيرك أنت). قال (إبليس): أنا الذي عرفتك في الأزل، (أنا خير منه) [من آدم] لأن لي قدمة في الخدمة" (الحلاج: الاعمال الكاملة ص 189-190). لم يعرف إبليس سوى الحسيات كموضوعات لتأمل الأنا. لم يعرف (مثله مثل فيورباخ) غير الانا المتأملة للطبيعة، ولم يعرف الحق من حيث (هو هو) كما فعل هيغل وماركس. لقد عبد إبليس الطبيعة (فيزيك) على التجريد، أي على التأمل. ولم يعرفها معرفة عينية من حيث هي هو، ومن حيث هي فعالية الانسان المجسدة والمحايثة المموضعة؛ الموضوعية. قال إبليس: وكيف يصح الهجر والحب واحد، ويضيف في جوابه لموسى: منعني عن السجود لآدم الدعوى بمعبود واحد (الطبيعة الحسية أو أعيان المحسوسات هكذا على التأمل والتجريد) أي عبادة الطبيعة هكذا مجردة عن شخص الانسان وفعاليته وأسمائه ولغته.
ولنا هنا كلمة عن تصور القديس أوغسطين عن "الحب".
ينقل تودوروف اقتطافات من أوغسطين تذكر بعمل دستويفسكي الكبير "الأخوة كارامازوف"
وهذه صياغة القديس أوغسطين في كتابه "العقيدة المسيحية" (المذهب المسيحي) واضعاً تعارضاً أساسياً بين الاستعمال والتمتُّع.
يقول أوغسطين: "التمتع هو في الحقيقة تمسك بشيء ما عن حب له بحد ذاته (التمسك به كغاية، لا في كونه وسيلة) والاستعمال على العكس، هو إحالة الموضوع المستعمل إلى الموضوع المحبوب، هذا إذا كان ذلك الموضوع جديراً بالحب (I,IV,4)"
"المسألة هي معرفة ما إذا كان ينبغي على الانسان أن يكون محبوباً من قبل الانسان لنفسه أو لشيء آخر. فإذا كان محبوباً لنفسه فإننا نكون بصدد التمتُّع، وإذا كان محبوباً لشيء آخر، فإننا بصدد الاستعمال (كوسيلة). ويبدو لي شخصياً (والكلام لأوغسطين) أن على الانسان أن يكون محبوباً لشيء آخر، لأن السعادة موجودة في الكينونة الإلهية (في الآخر؛ هو) التي ينبغي ان تحب لنفسها. ورغم أننا لا نستحوذ على هذه السعادة في حقيقتها، إلا أن الامل بالحصول عليها يعزينا في هذه الدنيا. لكن ملعون كل من يضع أمله في الانسان. مع ذلك وإذا تفحصنا الامر بدقة، لا ينبغي لأحد أن يصل إلى حد التمتُّع بنفسه، لأن واجبه أن يحب نفسه، إنما ليس لنفسه، وإنما لذلك الإله (الشيء الآخر؛ هو الحق، والحق هو) الذي عليه التمتُّع به" (I,XXII,20-21) ص 19
قلنا في امبراطورية الحواس-ديوان الانسان:
من قدّم الخلق على الحق
فقد خدم نفسه
ومن قدّم الحق على الخلق
فقد خدم الخلق (المجتمع)
وهذه إشارة مهمة إلى مناصرة "الحق" في مواجهة الطغيان والمستبدين. إنه كلام ضد الطاغية والطغيان.