نقد -أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة-
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8026 - 2024 / 7 / 2 - 14:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أما وقد طلبت إليّ أيها الصديق العزيز التعليق على أطروحات المفكر الماركسي العربي السوري الياس مرقص والتي عنوانها الكامل: "أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة" فها أنا أقدّم هنا ملاحظاتي وتعليقاتي النقدية على الأطروحات
يأخذ مرقص عنوان اطروحاته بوحي من كتاب فيورباخ الذي بدأ بكتابة "مواضيع معاصرة حول إصلاح الفلسفة " سنة 1842 وتأخر إصدارها في كتاب بسبب الرقابة حتى خريف 1843.
وكنت قد انتقدت من قبل كتاب مرقص "المذهب الوضعي والمذهب الجدلي" في كتابي المخصص لذلك والذي عنوانه "علم الديالكتيك والمذهب الوضعي" المنشور عن دار نور، دمشق 2009. أما كتاب مرقص فقد تم نشره بداية الثمانينيات من القرن الماضي.
وكنت قد لاحظت مدى تأثر مرقص بأنثروبولوجية فيورباخ الوضعية. ولنبدأ بالأطروحات "المُرقصيّة":
الاطروحة الأولى:
يقول مرقص: يجب الانتقال من الجوهر والماهية ومن المادة والكم إلى الشكل والعقل والروح.
تعليق 1
أقول: بكلام آخر، يجب الانتقال من المعطى الحسي الفيزيائي الملقى أمامنا إلى صورته في الرأس. وهذه الصورة تمر بدرجات ثلاث: الانطباع الحسي، عقل المحسوس كموضوع، من ثمّ تحويله إلى مقولة كلية وعقل مستفاد أو روح. لكن ماذا يوجد في هذا الكلام من جديد حتى نتكلم عن عطب أصاب الفلسفة الماركسية والفكر الماركسي العربي حتى نصلحه؟ في الواقع لا يوجد أي إصلاح إلا الإشارة إلى غياب كلمة "الروح" من القاموس الستاليني المسيطر على العقل الماركسي العربي، والذي يعتبر "الروح" مجرد انعكاس للمادة، انعكاس تافه يعطل عمل المادية الطبيعية، ويشوش المادية العلمية الطبيعية بغيمة من التصويف، ويعيدنا إلى "مثالية" هيغل والغيبيات الدينية. لكن "الروح" تعني فيما تعنيه أن العلم الذي جاء به العقل علم حق وقد بدأ يتحول إلى إرادة عاملة ويدفع بصاحبه إلى العمل بمقتضاه. أي بدأ بالتحول إلى قوة حفز أخلاقية لدى الفرد.
الاطروحة الثانية:
يقول مرقص: يجب إقامة الحد على ألفاظ محبَّبة في قاموسنا المتداول، ضخَّمتها مدارس مختلفة ومتخاصمة، لكنَّها التقتْ على تكوين ذهنية جوهرية واحدة.
يجب الانتقال من "الصورة" إلى الشكل والمفهوم.
بدون ذلك لا تاريخيَّة ولا تقدميَّة. التاريخُ تَشكُّلٌ، تَحوُّلٌ، "تغيُّرُ أشكالٍ، "بل" وتنويعة على الأشكال" (ماركس). إذا كان الماركسيون عندنا (وعند غيرنا) يركبون على "التشكيل" و"التشكيلة formation" (التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية) ويجهلون مقولة الشكل form، ويجهلون مسأليَّة الصورة-الشكل-المفهوم-المثال؟ فهذه مفارقة مهمّة من مفارقات الوعي العربي المعاصر.
تعليق 2
أقول: يبدو أن مرقص مستاء من ابتذال "نظرية الانعكاس" والتي مفادها أن الفكر انعكاس للمادة المعطاة سواء أكانت طبيعة أم مجتمع. هذا الانعكاس في المادية الطبيعية يأخذ شكل صورة ميتافيزيقية جامدة مُحنّطة، وليس صورة مؤقتة لها طابع العبور والانتقال إلى مستويات أعلى، إلى شكل أعلى من التجريد بفعل فعالية المفهوم الساعي إلى الانضاج والاستواء. أي أن الصورة الفكرية تمر بأشكال ذهنية مبتعدة أكثر فأكثر عن الشكل الحسي، حتى تصل إلى "المفهوم" المجرّد. وكما الفوتون وحدة الضوء، فـ "المفهوم" هو وحدة التفلسف الديالكتيكي الحق. أما الاكتفاء بالصورة الأولية الغشيمة بحجة مبتذلة أن المعرفة انعكاس وحسب، فهذا تقصير وصبيانية في التفلسف الماركسي العربي. بدون هذه الرحلة الذهنية للصورة المنعكسة "لا تاريخية ولا تقدمية" للفكر الماركسي العربي.
الحق يقال يبدو مرقص هنا غامضاً لم يصل إلى فكرة "المفهوم" الذي يدعو إليها. ويكتفي بدل ذلك بقليل من المترادفات التي تزيد الامر غموضاً على شاكلة: "التاريخ تشكّل، تحول، تغير أشكال". فإذا كان "الشكل" لدى مرقص يقترب من "المفهوم"، معنى هذا أن المناضلين والطبقات المناضلة لا يمكن أن تكون فعّالة في التاريخ من دون "مفاهيم" حقيقية، أي من دون نظرية ثورية. لكن ما دور الشكل؟ يبدو أن الشكل هنا آت من الفن التشكيلي الذي هو إعادة صياغة الواقع المنعكس في الذهن بشكل ابداعي عبر إعادة ترتيب عناصره في الذهن من جديد. هذه الفكرة تحدث عنها "كاستورياديس" بعبارة: إعادة تشكيل المجتمع تخيلياً، أي تحويله وفق نظرية ثورية وخطة مفهومية تخيّلية. وقد تحدث سلمان رشدي عن شيء يسمى "أوطان خيالية". والمُتخيل والتخيُّلي حسب كاستورياديس مرتبط بالاجتماعي-التاريخي والمجتمع الاشتراكي الجديد. هذا الشكل التخيّلي يشبه "المُثل" الافلاطونية و"الفكرة المطلقة" الهيغلية Idea، و"النظرية الثورية" في الماركسية. مرقص ينتقد ركوب الماركسيين "عندنا العرب وعند غيرنا في أوروبا" (خاصة الماركسية البنيوية الفرنسية) على فكرة قصر كلمة "الشكل" على "التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية" أي على بنية معطاة لنا في الواقع دون الالتفات إلى "البعد الذاتي" و"الفعالية الذاتية" فعالية الذات المتخذة هدفاً كما أسلفنا أعلاه.
الاطروحة الثالثة:
يقول مرقص: "المادة" مقولة أساءت للفكر الماركسي وللفكر العربي عمومًا.
في الفكر الماركسي، ضُحِّي على مذبح "المادة" بمقولات مختلفة لا يمكن أن تنوب عنها المادة، قصدتُ مقولاتِ الواقع، والطبيعة، والطبيعة-التاريخ.
يجب ردُّ الاعتبار إلى وحدة عنصر المادة-الكتلة-الكم-الذرات، الخ. ويجب أن يقام إزاء هذا العنصر عنصرٌ مقابلٌ هو: العلاقة-العقل-الروح، بحيث يكون العنصر الأول تابعًا ومرؤوسًا.
أمّا "مفهوم المادة الفلسفيُّ" فلا يمكن أن يَعْني سوى أنَّ الواقع قائم بتمامه خارجَ رأسي، ولا يجوز أن يُضَمَّن أي شيء آخر؛ لا يجوز أن يغطِّي أية مُسَلَّمة أو مُصادرة ضمنية، لاسيما مسلَّمةً تلغي أو تخفض المنطق في حربٍ على "المثالية" باسم "ماديَّةٍ" ملتبسة وباطلة.
تعليق 3
أقول: الستالينيّة ابتذلت مقولة الانعكاس. الروحي ما هو سوى المادي منعكس في الدماغ البشري. هذه الماديّة البيولوجية على بداهتها وسهولة تلقيها من الماركسي العربي المُستجد في تعلمه، إلا أنها مبتذلة، وإذا تم التوقف عندها باتت دوغما ميتافيزيائية جامدة ومعطلة لتقدم العقل الديالكتيكي وللارتفاع بالمتعلِّم. الماركسية الستالينيّة عممت هذه المادية البيولوجية على أنها كل شيء ونهاية كل شيء فجمّدت العقل الماركسي العربي عند حدودها لقرن من الزمن. هذه الماديّة البيولوجية مادية تأملية ميتافيزيقية جامدة أدانها ماركس في الموضوعة الأولى عن فيورباخ والتي تقول: ""إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها –بما فيها مادية فيورباخ (ومادية الدوغما الستالينية) -هي أن الشيء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية." (موضوعات عن فيورباخ، الموضوعة 1)
إن قول مرقص: يجب ردُّ الاعتبار إلى وحدة عنصر المادة-الكتلة-الكم-الذرات، الخ. ويجب أن يقام إزاء هذا العنصر عنصرٌ مقابلٌ هو: العلاقة-العقل-الروح، بحيث يكون العنصر الأول تابعًا ومرؤوسًا. يعني تماماً إعادة ترتيب الأولوية والهيمنة في المادية التاريخية الماركسية ذات الطابع الديالكتيكي بحيث يكون التاريخ أولاً والطبيعة ثانيا لأن الطبيعة لم تعد وجوداً ميتافيزيقياً أزلياً بل باتت في جزء كبير منها من صنع الانسان، من صنع فعالية الانسان التاريخية. هذا الترتيب للهيمنة يعاكس الترتيب الستاليني الذي يقدّم الطبيعة، ويطبّق ديالكتيك الطبيعة على التاريخ عبر اسقاط مباشر، فتنتفي العلاقة الديالكتيكية بين التاريخ الإنساني والطبيعة وتغيب فكرة الخلق والابداع. ويغدو كل شيء مجرّد انكاس آلي. بهذا الشكل يدعو مرقص الفكر العربي (الماركسي) "الانتقالُ من التَجَرّبيّة- الدوغمائية إلى الجدل"
الاطروحة الرابعة:
يقول مرقص: يجب على الفكر العربي. الانتقالُ من التجرّبيَّة- الدوغمائية إلى الجدل
الطريق الأول (التجرّبيّة-الدوغمائية) يبدأ أو يعتقد أنه يبدأ من الواقع وينتهي إلى تبخيره "تبديده" في مُجَرَّدةٍ أثيرية يسميها "القانون" أو"الجوهر."
الطريقُ الثاني، "المعاكس"، يبدأ من الصفر، يبني اللوحة، ينتهي إلى الكل أو الجملة tout, totalite، إلى الواقعِ كعالَمٍ، أيْ لا كجوهرٍ أو كقانون.
بهذا المعنى، إن بلدًا من البلدان أو بيتًا من البيوت، الخ، هو عالم.
والوطن العربي والأمة العربية عالَم.
هناك من يرفض هذا القول، ويقاتل ضده.
من جهتي، إن بيتي الصغير هو عالَم وكونٌ (ليس"جوهرًا أو" قانونًا"). هذا ما أدعوه أيضًا: الديمقراطية. الديمقراطيةُ موقفٌ فلسفي هو الجدل.
تعليق 4
أقول: يتأكد هنا في هذه الفقرة أن مرقص لم يقدم لنا "موضوعات" أو مطارحات متبلورة لإصلاح الفلسفة، بل قدم أفكاراً وهواجس غير مصاغة بعد. كقوله على سبيل المثال: " يجب على الفكر العربي. الانتقالُ من التجرّبيَّة- الدوغمائية إلى الجدل".
ونحن نعرف الجدل ونعرّفه على أنه الترجمة العربية لكلمة "الديالكتيك". إذا يدعونا مرقص للانتقال من "التجرّبيّة" إلى الديالكتيك. لكن ماهي التجرّبية؟ هذه الكلمة مترجمة عن الفكر السياسي الفرنسي وتعني الاعتماد على "تجربة واحدة" للحكم على نظرية تاريخية أو طبيعية. ولذلك تطرح "التجريبيّة" مقابلها. على سبيل المثال: لا يمكن الحكم على النظرية الماركسية في الثورة الاشتراكية بالاعتماد على التجربة الروسية وحدها، ولا بد من قراءة التجارب الأخرى كالتجربة الصينية الاشتراكية وغيرها من التجارب الاشتراكية حتى يكون الحكم سليماً.
لكن ما علاقة هذا بإصلاح الفكر العربي الماركسي؟
تظهر العلاقة في تتمة الفقرة، حيث يحدد مرقص طريقين للمعرفة:
الطريق الأول، يبدأ بـ (التجرّبيّة-الدوغمائية) وينتهي في مُجَرَّدةٍ أثيرية (تجريد هوائي) يسميها "القانون" أو"الجوهر." أي يقوم الفكر بدراسة تجربة مفردة كالتجربة الاشتراكية الروسية، من ثم يجردها ويحول هذا التجريد إلى قانون تخضع له جميع الثورات القادمة!
أي يتحول التجريد إلى نوع من الدليل الدوغمائي أو الاعتقاد الجامد الاحمق.
لكن مرقص بحجة الدعوة إلى فكر ماركسي مناضل وثوري يبخر مفهوم العلم الاجتماعي التاريخي الماركسي، ومثاله "رأس المال" بقوله: "علم وكون ليس جوهراً أو قانوناً". نجد هذه القفزة "الثورية" المبالغ بها في ركوب حصان الماركسية لدى مرقص في كتابه المنقود من قبلنا "المذهب الوضعي والمذهب الجدلي". إن شدة الاندفاع الثوري لدى مرقص جعله يقع عن ظهر الحصان الماركسي، لكن هذه المرة من الجهة الأخرى. إن العبارة التي تقول: "لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية" تعني تماماً أن "الثورة" من دون علم اجتماعي تاريخي حقيقي، "وجوهر وقانون" هي ضرب من العبث الثورجي.
لينين ورغم إشارته إلى الطابع الكوني للثورة الروسية ودروسها العالمية، إلا أنه كان يدعو دائماً إلى إعادة قراءة الواقع التاريخي الفعلي الملموس للثورات الاشتراكية في البلدان الأخرى مع الاستفادة من الدروس الروسية.
الطريق الثاني: هو الطريق المقترح البديل من قبل مرقص. وهو طريق معاكس للأول.
أو طريق أعيد فيه التوجيه بحيث لا يكتفي بالتجريد السابق بل يحاول أن يبني مفهوماُ عينياً عن الواقع التاريخي المعطى. لذلك فقول مرقص أن هذا الطريق يبدأ من الصفر قول "تجريبي" بالمعنى الفلسفي، أي كأنك يا أبا زيد ما غزيت! أي لدينا فكر اشتراكي ثوري لم يستفد من التجربة الحاصلة من قبل ويحاول أن يبدأ من الصفر. لكن كأن مرقص لا يقصد هذا بالضبط، بل يدرس التجربة ويحاول بعدها بناء اللوحة وتشكيلها من جديد، بحيث تكون نتائج التجربة من ضمن قاعدة البيانات المتوفرة، بحيث تلعب دور مرشداً كدرس كوني عالمي، حتى ينتهي الفكر الجدلي إلى الكل أو الجملة tout, totalite، إلى الواقعِ كعالَمٍ، أيْ لا كجوهرٍ أو كقانون."
وهنا "الواقع كعالم" تعني العالم ككون مُتخيَّل أو تخيُّلي، بحيث يكون بناء العلم التاريخي هدفه الممارسة التاريخية السياسية وبناء العالم المنشود. بحيث لا يكتفي الفكر بالتجريد الفارغ لواقعة حدثت وانتهت، ولكنه يؤسس لتجربة تاريخية جديدة.
بالطبع واضح أن مرقص لم يُصِغ مفاهيم واضحة بهذا الاتجاه مع محاولة الاجتهاد. إن الكل أو الجملة هو العالم الجديد المتخيل.
بهذا المعنى "الوطن العربي والأمة العربية عالَم. والوطن العربي والأمة العربية عالَم" أي الوطن العربي فكرة تأسيسية تخيلية كمشروع للوحدة العربية، وكذلك الوطن العربي كدولة عربية واحدة متخيلة. ضمن مشروع للوحدة والدولة الواحدة
هذا الانتقال من الطريقة الأولى الدوغمائية إلى الطريقة الثانية الجدلية وبناء العالم هو فعل ديمقراطي حسب مرقص. أي يقتضي سياسياً الانتقال من الليبرالية التي تقدس الواقع القائم إلى الديمقراطية (الاشتراكية) المناهضة له والساعية لتغييره.
الاطروحة الخامسة:
يقول مرقص: ثمة تعارضٌ يجب وَعْيُهُ بين الوَضْعويّة والعِلْمَويَّة من جهة والجدل من جهة أخرى.
الوضعوية positivisme هي المذهب الوضعي أو الإيجابي. أما الجدلُ فهو - بحكم التعريف- جدلُ النفي negation.
الوضعوية هي مذهبُ تقدُّمٍ على خطٍ مستقيم، مثلاً من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيقية إلى الحالة الوضعية (أوغست كونت). أمّا الجدل فهو يؤكِّد مع الخط المستقيم فكرةَ الدائرة، يؤكد "وحدتهما."
الوضعوية تكره المجرَّدات،" أي بالحقيقة المقولاتِ الكبرى. بالمقابل، إنَّ عِلْمَ آدم سميث أو كارل ماركس يتأسس على الشُّغْل المُجرَّد. أيْ المجرَّدِ عن موضوعاته المادية. ومنطقُ هيغل يبدأ بالكائن-العدم، الخ.
الوضعوية تكرهُ الفلسفة. الجدلُ يّعِي أنه فلسفةٌ، منطقٌ، نظريةُ معرفة. الفكر العربي يجمع وضعويةَ أوغست كونت مع وضعويةٍ تقليدية.
إنه يتصوَّر أنه مع العلم والعلمية. بالحقيقة إنه مع "العلموية" مجردةً أو مُضافًا إليها المجاز و"الخيال،" و"الشعر،" الخ.
الميكانيكيةُ أحدُ أهمِّ أشكال الوضعوية والعلموية والتجربية- الدوغمائية.
هذا المجموع الذهني مُسخَّرٌ بشكلٍ طبيعي في خدمة الذاتوية subjectivisme، إذنْ الإرادوية، المثالية.
هذه الذاتوية تتعامل مع الواقع بوصفه مادةً للتحريك أو المُلاعَبَة (المضاربة والمتاجرة) manipulation.
العملُ الثوري يصبح كأنه مماثل لعمل الإسكافيّ في حانوته أو لعمل عالم الكيمياء في مخبره. ينسون أنّ الموضوعَ ذاتٌ.
تعليق 5:
أقول: في هذه الأفكار المزدحمة يحاول مرقص التعبير عن فقر الفكر الوضعي وفلسفة العلم ويشيد بالجدل الذي لديه لحظتان للفهم والمبادرة التاريخية، بينما الوضعية لديها لحظة واحدة هي محاولة العلم بالشيء عبر تجريده وجوهرة وأقنمة هذا التجريد. هيغل يتحدث عن الكون-العدم أي عن حقيقة الواقع القائم ككل، من ثم يقرر أن هذا الكل باطل فيقوم بإعدامه ونفيه. وباعتبار "المثالية الصوفية" الهيغلية لا تعرف الجانب العملي أو الممارسة الاجتماعية السياسية فهي تصوِّف هذه الممارسة وتمزجها في النظرية بشكل ملتبس وغامض. أي أنها تقرّ بأن هناك ممارسة عملية لكنها لا تستطيع القيام بممارسة تاريخية فعلية. عندما مات هيغل (1831) كانت البروليتاريا الباريسية بالكاد ظاهرة تاريخياً. ولم تظهر كقوة سياسية على المسرح الأوروبي حتى ثورة 1848-1850 في فرنسا.
الوضعية والعلموية تحول السياسية التاريخية إلى مضاربة ومتاجرة في سوق السياسة البورجوازية العربية. العمل السياسي يتحول إلى فتح دكانة للمتاجرة، أو فتح دكانه للعطارة وممارسة تحضير الأرواح الشيطانية. والأفكار السياسية الليبرالية و"المجردة" يتحول إلى أمنيات ذاتوية وإلى إرادوية أشبه "بهوشة عرب" تنتهي كفقاعة، على سبيل المثال أولئك الذين يدعون لدولة ديمقراطية تعددية عندنا في الأقطار العربية دون الانتباه إلى انفصال الديمقراطية عن الليبرالية اعتباراً (1850) والتحاق الديمقراطية بالاشتراكية وأخذها اسمها الجديد: "ديمقراطية اشتراطية"
ثم يختم مرقص إصلاحه الفلسفي الأولي القاصر بنتفة من موضوعة ماركس عن فيورباخ ، الموضوعة 1 .
يقول مرقص: " ينسون أنّ الموضوعَ ذاتٌ" يقصد المفكرين العرب الماركسيين.
بينما يقول ماركس في موضوعته الاولى هن فيورباخ: "إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها –بما فيها مادية فيورباخ-هي أن الشيء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية (الذات التاريخية العاملة الفاعلة)" جاء في القرآن: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج: 16]
لكن لا نجد كلمة واحدة في إصلاح مرقص الفلسفي عن "المادية التاريخية" وضرورة بعثها إلى الحياة بعد أن ماتت وأبيدت على يد المادية الطبيعية البيولوجية الستالينية الفظة المبتذلة. مع أنه يدور حولها طوال الوقت. هذه المادية التاريخية التي وضع ماركس أساسها في موضوعته الأولى عن فيورباخ السالفة الذكر. كما أن مرقص يبخر مفهوم العلم الماركسي بحجة نزعة ثورية مزعومة، كأن الثورة تقوم بلا علم اجتماعي تاريخي حق. وهذا يحيلنا إلى نقد لينين لبرنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في "غوتا" واستحضار نقد ماركس له.
النتيجة أن مرقص وضع أفكاراً ولم يضع موضوعات متبلورة لإصلاح الفكر الفلسفي العربي الماركسي، كما أنه لم يستطع التمييز بين مفهوم "العقل/الروح" وبين مفهوم الذات البذرية التاريخية العاملة، الذات الخالقة للعالم الجديد المُتخيَّل. وعدم التمييز هذا يحمل خطر الانزلاق من المادية التاريخية إلى "المثالية" الهيغلية من جديد.