ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري-2
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 20:53
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
وكانت جريدة الاخبار اللبنانية | العدد 5317 | 9-10-2024 قد أجرت مقابلة مع علي القادري قام بها خليل كوثراني، وكريم الأمين
أقول: يقدم القادري ملاحظة حاسمة على مستوى المقاربة المادية التاريخية فيقول: " وعندما نتكلم عن رأس المال نحن لا نتكلم عن الثراء المادي أو تراكم السلع فقط (وملكية هذه الثروة)، فهذه أشياء لا تفسر نفسها وما يفسّر وجودها هو مجمل العلاقات الاجتماعية التي أوجدتها والغاية التي وجدت لها. عندما نجرد الأشياء المنتجة بشكل حسي (طبيعي) لا تاريخي خالٍ من الذات الفاعلة، إنما نتعامل مع الواقع بشكل وضعي، أي إن الأشياء تطبع في الذهن من جراء الاختبار الحسي أو من دون الأخذ في الحسبان الفاعل التاريخي بمجمل علاقاته، والذي صنع هذه الأشياء، وبهذا المنهج التشييئي تُبتَرُ الذاتُ عن الموضوع. " ويضيف: " عندما نتكلّم عن رأس المال نتكلّم عن علاقة اجتماعية، أي عن طبقة اجتماعية رأسمالية (مسيطرة)، تعيد إنتاج ذاتها بتقسيم المجتمع وتفتيت الطبقة العاملة، وأدلجتها إذ تتقمّص (الطبقة العاملة) فكر رأس المال، أي تصبح أشكالاً (صوراً) لرأس المال. فعندما يصبح العمل (قوة العمل) شكلاً من أشكال رأس المال يكون قد استبطن فكر رأس المال السائد وأصبح تجسيداً وامتداداً للطبقة الرأسمالية. "
إن تفتيت الطبقة العاملة من قبل رأس المال ووسمها بهويات متصارعة يعني أن الطبقة العاملة باتت في وجودها الطائفي صورة للعلاقة الامبريالية ولرأس المال.
وقد يظهر رأس المال المفتت للطبقة العاملة كأنه شبح. لكن عند تعينه التاريخي يظهر على شكل نظم إمبريالية في المراكز الرأسمالية، ونظم قطرية بورجوازية طرفية حاكمة لها مصلحة تاريخية في هذا التفتيت وهذه الهويات المتصارعة للطبقة العاملة. وهذا النظام القطري البورجوازي المتخلف، الذي هو صورة للعلاقة الامبريالية هو ما سماه مهدي عامل بالنظام الكولونيالي الطائفي (لبنان مثالا) يقول القادري: "من الناحية العملية، ففي تقلبات التاريخ الكفة الأرجح تكون للأقوى بما في ذلك القوة الأيديولوجية. وبالذات حصر آفاق التغيير الاجتماعي في نطاق لا يقارب قاعدة رأس المال الأولى، ألا وهي ملكية وسائل الإنتاج والمصارف واستخراج الثراء الوطني بشكله النقدي إلى المركز بالتلاقي بين الكومبرادور الداخلي والطبقة المالية الدولية المتمركزة في الغرب"
إن الأيديولوجية الثورية قوة اجتماعية تقدمية في الصراع ضد سيطرة رأس المال وقيمه وأيديولوجيته. والقادري محق في تسميتها "بالقوة الأيديولوجية "
يقول القادري ملمحاً إلى التحالفات الدولية في العصر الامبريالي: " أن حصة الطبقة العاملة من الناتج الاجتماعي منوطة فقط بفاعليتها السياسية في الصراع الطبقي الذي يتشكّل أصلاً في ظل المرحلة الإمبريالية عبر العلاقات الدولية. اصطفاف القوى المعادية للإمبريالية ضرورة في ظل ميزان القوى المختلّ. "
هذا يعني أن للصراع الطبقي جناحان واحد محلي وطني والأخر دولي. وهنا تأتي خطورة التحالفات الدولية المناوئة للإمبريالية. ولا يعني ذلك أن جميع هذه البلدان تلعب فيها البروليتاريا والطبقة العاملة (الحزب الاشتراكي الماركسي) دوراً قيادياً. ولنا مثال في تحالف الصين مع إيران وروسيا وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا إضافة إلى قوى المقاومة العربية الإسلامية في لبنان وفلسطين والعراق واليمن ضد الاحتلال الصهيوني، وهو تحالف غير معلن.
يقول القادري: "" العسكرة بالذات، هي الحالة الأفضل لرأس المال" ويقوم بوخارين بصياغة أكثر احكاماً وجدوى: "وهكذا يتضمن قانون رأس المال المالي، كلاً من الامبريالية والعسكرة. وبهذا المعنى، فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي (ورأسمالية الدولة الاحتكارية) في كونها ظاهرة تاريخية نموذجية" (بوخارين: الامبريالية والاقتصاد العالمي: 186)
والعسكرة والهدر متلازمان لأن وسائل الدمار لا تدمر أهدفاها في البلدان الأخرى، بل تدمر قسم من فائض الإنتاج الذي تجمعه المراكز من قوة عمل العمال المراكز ومن نهب بلدان الأطراف.
بعدها يعبّر القادري عن رأيه في الحروب العدوانية التي تشنها إسرائيل على غزة ولبنان وسوريا واليمن بأنها تدخل ضمن استراتيجية الامبريالية في افتعال الحروب الدائمة لخدمة عسكرة الاقتصاد وإبقاء شركات السلاح على قيد الحياة.
يقول: " انتصارات المقاومة وبإظهارها مثالاً على قدرات حرب الشعب هي تسقط الغموض الذي يلف الإمبريالية وأداتها الرئيسية في العالم: الصهيونية "
ويضيف: وتأتي هذه الانتصارات مع صعود الصين والانتصارات الروسية وغيرها من دول المقاومة التي تخلخل ميزان القوى الدولي، أي تخلخل الكل الناظم عبر الوهن الذي يصيب منظومة الأعراف والمؤسسات الدولية. وهذا الخلل سينساب تباعاً على الحالات الخاصة الوطنية التي ستتحرك لتغيير قواعد اللعبة، ويشعل بدوره الطاقات من جراء تطور الأيديولوجيا من استكانية إلى ثورية"
ومرة أخرى يفتعل القادري الغموض بخصوص الانتقال من "المقاومة الوطنية" إلى "مقاومة رأس المال" وصعود الأيديولوجية الاشتراكية. يقول: " تطور الأيديولوجيا من استكانية إلى ثورية"، أي من عقلية المهزوم إلى عقلية التمرد والثورة، من دون أن يحقق في طبيعة هذه "الثورة"
ومع ذلك فهو بتصنيف الصين وروسيا كدول مقاومة للإمبريالية يشير بحق إلى الجانب الدولي للصراع الطبقي، وهو جانب على المقاومة الوطنية العربية الإسلامية في فلسطين ولبنان أن توليه الاهتمام الذي يستحقه.
يحسن القادري تقييم دور أوربا الديمقراطية الاجتماعية في أنها منخرطة في الحلف الإمبريالي المعادي للشعوب، وأن الحصة الزائدة التي تتلقاها الطبقات العاملة في أوروبا هي نوع من رشوة تاريخية لشق نضال البروليتاريا العالمية، بالتالي باتت هذه الطبقات جيشاً احتياطياً في خدمة العدوانية الامبريالية.
يقول: " بما أن الريع الإمبريالي هو السند لعملية إعادة الإنتاج في المركز، تصبح المطالبة بزيادة الأجور في المركز عملية تقاسم للريع الإمبريالي، إذ تشكّل الطبقة العاملة في المركز جيش الإمبريالية. "
إن الالتباس في العبارة السالفة الذكر هي قوله "الريع الامبريالي" التي توحي بفهم سياسوي لفائض القيمة الامبريالي، أي فائض قيمة قائم على نهب البلدان المتخلفة دون النظر إلى ما تنتجه قوة العمل في المراكز من فائض قيمة وانتاج. وهذا يقود إلى نتيجة سياسيوية هي المواجهة القومية بين الأمم، وهذا ما تسعى إليه الامبريالية في أيديولوجيتها المضادة للثورة الاجتماعية في المراكز والأطراف.
وعلى هذا الأساس يكون الالتباس في قوله: "" الاقتصاد محدد في اللحظة الأخيرة، ما يعني أن رأس المال يثبت نفسه أولاً كعلاقة قوى تنظم عملية الإنتاج الاجتماعي بقدراته الفعلية أو العسكرية، ثم الأيديولوجية، وبعد ذلك يجني الريوع على المدى الطويل. "
أي أنه يقلب الهيمنة بين المجتمع المدني وحياة الشركة الاقتصادية من جهة وحياة الدولة السياسية القائمة على هذا المجتمع، قلباً يشبه ما فعله هيغل في أصول فلسفة الحق حيث جعل الدولة السياسية الحديثة أساس المجتمع المدني البورجوازي. وهو ما انتقده ماركس بشدة في "مقدمة في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل"
ونحن نرى في النموذج السياسي الأميركي أن المجتمع البورجوازي بشركاته الاحتكارية العملاقة هو المهيمن على أجهزة الدولة وقراراتها الاستراتيجية العميقة.
وهكذا نقارب مفهوم "العالمثالثية " لدى القادري بأنه نتيجة "طبيعية" لفهمه السياسوي والمجابهة القوموية بين الأمم، دون النظر إلى أن النضال النقابي للطبقة العاملة في المراكز يحدّ من تغول سياسات رأس المال الاحتكاري الداخلية والخارجية. ومثلنا في ذلك أنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي 1991 ومجيء السياسات الليبرالية الجديدة لرأس المال الاحتكاري ضد سياسات دولة الرفاه، صعّدت الامبريالية على مستوى السياسة الخارجية لرأس المال من هجومها العدواني على بقية أقطار الأرض وكان من تداعيات ذلك احتلال أفغانستان والعراق وقصف بلدان بالجملة وحشر روسيا الاتحادية وتهديد الصين. كما أدت السياسات الليبرالية الجديدة والعولمة العدوانية والديمقراطية الليبرالية العسكرية النزعة إلى تفكيك العديد من الدول في البلدان المتخلفة وإلى تفكيك دورها الرعائي والاقتصادي.
ليس من الصحيح حشر الطبقة العاملة في المراكز كعدو بمستوى عداوة رأس المال.
يقول القادري بخصوص مفهوم العالمثالثية: " العالمثالثية، كمفهوم، هي بالذات أولوية السياسة هذه، ثم فهم المنظومة الغربية بما فيها من طبقة عاملة، كتشكيلة إمبريالية تفقد فيها الطبقات العاملة الغربية أفق الثورة لأنها تحدد مسبقاً بالريع الإمبريالي وتعيد إنتاج نفسها بتحديد هذا الريع بعملية استغلال هدري في المحيط."
إن القادري بفهمه السياسوي-التجاري للإمبريالية " يُسعّر من العداء القومي والعنصرية القومية بين الشعوب، ويكفّر الطبقة العاملة في المراكز بسبب نضالها المطلبي النقابي. وهذا السعار القوموي ينسحب على الدول الطرفية في هوامش النظام حيث تحرم الطبقة العاملة الوطنية من حقها في النضال المطلبي وتنظيم نفسها نقابياً بحجة المواجهة الشاملة في المعركة المزعومة ضد الامبريالية، بحيث نقفز دفعة واحدة عن البورجوازية المحلية ودورها المتواطئ في الصراع الطبقي الدولي.
إن هجوم القادري على انتهازية الماركسية الاوربية أمر مفهوم ومحق. وهذه الانتهازية كانت قد هوجمت مراراً من قبل زعماء الاشتراكية الماركسية ماركس وانجلز ولينين.
إن الفهم السياسوي العسكري للإمبريالية يجعل من الغرب معسكراً أصماً لا يمكن لقوى المقاومة في الأطراف النفاذ إليه. وهذا أمر سيء وعنصري، ويحمل ملمح غوغائي تحشيدي.
إنه يختزل حياة الطبقة العاملة في المراكز وقوة عملها المنتجة لفائض القيمة إلى طبقة طفيلية تعتاش على نهب الجنوب وهدر طاقاته. يقول بهذا الخصوص: " الفوارق بين الطبقات العاملة في الجنوب والشمال ليست فوارق أجور أو مستوى حياة، إنها فوارق حدّية، حيث تنتمي طبقات الشمال إلى رأس المال كجزء منه، أي إنها ليست خصماً لرأس المال ذا أفق ثوري، لأنها تعيش على هدر الجنوب "
هذا الفهم يؤسس لنظرية في التعصب القومي، كانت الفاشية الألمانية أحد أخطر تمظهراتها في المراكز الامبريالية، والشوفينية القومية في عهد صدام حسين تمظرها النموذجي الطرفي.
وهذا الكلام لا يقلل من صواب فكرة القادري أن الاستيطان الصهيوني لفلسطين هو رأس الجليد للظاهرة الاستعمارية الامبريالية الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وأقرب قليلاً.
لكنه يقع بعدها في قياس خاطئ ومضلل عندما يطابق بين المجتمعات الاوربية الراسخة العريقة وبين المجتمع الصهيوني في دولته اليهودية المخترعة. مجتمعات أوربا ليست مجتمعات استعمارية استيطانية في أرضها على الضد من المجتمع الصهيوني ودولته اليهودية في فلسطين.
يقول في قياسة الخاطئ: " وعليه، فإن العمل الثوري في الشمال يُؤتي ثماره عندما تضع قوى ثورية في الشمال نصب أعينها مقارعة الإمبريالية ذات النسيج الطبقي الواحد. وهذه طبعاً نادرة وقليلة التأثير كما في الكيان الصهيوني. "
من الطرافة الذكية أن ينتقد محاورا القادري (خليل كوثراني، كريم الأمين) وجهة نظره السالفة الذكر، والتلميح إلى فهمه الأحادي للمسألة عبر السؤال التالي: " أجّجت ملحمة "طوفان الأقصى" وارتداداتها الصراع الثقافي، مثلما أعادت الاعتبار للقراءة البنيوية لقضايا التحرّر والتنمية في خضم الإبادة.الجماعية إلا أن هذه القراءة، ونظرية التبعية في القلب منها، ستعود لاحقاً لتواجه النقد الذي دائماً ما ووجهت به والذي يرميها بإغفالها مسؤولية البنى المحلية وتبرير الاستبداد والتخلّف."
والملفت الرد الغامض للقادري على هذا السؤال الحاسم في هذه المقابلة
وبعد هذا السؤال الحاسم من المحاورين بخصوص ديالكتيك التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، والانتقادات الحاسمة لنظرية التبعية والفهم السياسي والتجاري للإمبريالية، التي يبدو القادري واحد من أتباعها، لم يعد لكلام القادري أية أهمية نظرية ويتحول إلى نوع من الدفاع التبريري.