مدخل نقدي إلى كتاب انجلس -لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية-
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8003 - 2024 / 6 / 9 - 22:15
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
كان على "الفهم المادي للتاريخ" عند ماركس أن يعبر بحر الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، وكان على فيورياخ أن يشكّل الحلقة الأخيرة التي فشلت في إحداث انقلاب وتحويل في الاتجاه أو إعادة توجيه مقولات الديالكتيك التي أنضجت في مصهر الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، توجيهاً مادياً. وكانت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية صدى لأعمال الثورة الفرنسية ونقداً للقصور النظري للمادية الفرنسية وفلسفة الانوار في القرن الثامن عشر عموماً. هكذا شكلت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية برزخاً (فصل ووصل) بين ماديتين: مادية القرن الثامن عشر الطبيعية الميكانيكية، ومادية ماركس التاريخية الديالكتيكية في القرن التاسع عشر.
والفلسفة الكلاسيكية الألمانية تبدأ ب"عمانويل كانط" مروراً ب"يوهان غوتليب فيشته" و"فريدريك ويلهلم شيلنغ" وصولاً إلى "جورج فريدريك ويلهلم هيغل" من ثم أعمال "لودفيغ فيورباخ".
كانط (1724-1804):
1-الديالكتيك في المرحلة "قبل النقدية" من فلسفته
2-"الديالكتيك السلبي" كطريق إلى الديالكتيك الواقعي
3-فكرة التركيب الديالكتيكي في نظرية المعرفة
4-ديالكتيك الحياة الاجتماعية
فيشته (1762-1814):
1-ديالكتيك النسق ومبدؤه الأساسي. النشاط والتأمّل
2-التحديد المتبادل للمتقابلات كمنهج لتوسّطها
3-ديالكتيك فيشته "الكمّي"
4-ديالكتيك الملكات الإدراكية
5-تناقضات البرهان الفيشتويّ للديالكتيك
شيلنغ (1775-1854):
1-تكوّن ديالكتيك شيلنغ
2-الانشاء والتقوية
3-الملامح الجديدة لمنهج الديالكتيك
4-حول طريقة إدراك الأضداد في الهوية
5-المسائل الديالكتيكية في "فلسفة الهوية"
هيغل (1770-1831):
1-مصادر ديالكتيك هيغل و "فينومينولوجيا الروح"
2-منطق هيغل الديالكتيكي
3-ديالكتيك الطبيعة عند هيغل
4-الديالكتيك في فلسفة الروح عند هيغل.
هذه ترسيمة موجزة لتاريخ الديالكتيك كما عبّرت عنه الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. (راجع: تاريخ الديالكتيك؛ الفلسفة الكلاسيكية الالمانية)
أما فيورباخ (1804-1872) فنذكر له كتاب "جوهر المسيحية" (1841)، و "موضوعات حول إصلاح الفلسفة" (1842)، و"أسس فلسفة المستقبل" (1843)، "في نقد الفلسفة الهيغلية" (1839) وهو أهم أعماله. في عام 1866 ظهر كتابه الأخير: "الإله والحرية والخلود". قرأ سنة 1868 المجلد الأول من رأس المال لماركس وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. "وحيث هيغل لم يحظ بالتقدير الذي يستحقه، لأن شتاركه يتمسك ببعض المقاطع من مؤلفاته بصورة شكلية مفرطة، نجد عرضاً مفصلاً عن سير تطور "الميتافيزياء" الفيورباخية نفسها، حسبما انعكس هذا التطور بتتابع في مؤلفات هذا الفيلسوف المتعلقة بهذا الموضوع" هذا ما يقوله انجلس في تعليقه على كتاب شتاركه حول فيورباخ.
يقول انجلس: "روى كارل ماركس في مقدمة كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، المطبوع في برلين عام 1859، كيف أننا نحن الاثنين، قررنا في بروكسل عام 1845، أن "نصوغ نظراتنا معاً " - أي الفهم المادي للتاريخ، الذي صاغه ماركس على الأخص- خلافاً للنظرات الأيديولوجية للفلسفة الألمانية، وأن نحاسب، من حيث جوهر الامر، وجداننا الفلسفي السابق. وقد حققنا هذه النية بشكل انتقاد للفلسفة التي ظهرت بعد فلسفة هيغل"
بالطبع ما يقصده انجلس هنا ويشير إليه هو مخطوط "الأيديولوجية الألمانية " (1845-1846) التي جاء في عنوانها الفرعي: "نقد الفلسفة الألمانية الاحدث (بعد الهيغلية) في أشخاص ممثليها فيورباخ وب. باور وشترنر"
يضيف انجلس: ومنذ ذلك الحين، مر أكثر من أربعين سنة ووافت المنية ماركس. ولم تسنح الفرصة لأحدنا أن يعود إلى هذا الموضوع. لقد شرحنا موقفنا من هيغل في عدة مناسبات لكننا لم نشرحه بشكل كامل في أي مؤلف كان. أما فيما يتعلق بفيورباخ الذي يشكل مع ذلك، من بعض النواحي، حلقة اتصال بين هيغل ونظريتنا، فإننا لم نعد إليه مطلقاً.
ومن خلال ذلك لقي مفهوم ماركس المادي عن العالم أنصاراً فيما وراء حدود ألمانيا وأوروبا.
ونظراً لذلك، بدا لي أكثر فأكثر أن الوقت قد حان لكي أعرض موقفنا من الفلسفة الهيغلية عرضاً موجزاً منهجياً: كيف انطلقنا منها وكيف عدلنا عنها. كذلك حسبت أن علينا دين شرف لم نوفه، هو الاعتراف الكامل بالتأثير الذي أثره فينا فيورباخ في مرحلة (1839-1844)، أكثر من أي فيلسوف آخر بعد هيغل."
لقد أظهرت الطبعة الإنكليزية لكتاب انجلس في الفهرست الغرض من الكتاب على النحو التالي:
المحتويات:
-مقدمة لطبعة عام 1888
-لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية:
القسم 1: هيغل
القسم 2: المادية
القسم 3: فيورباخ
القسم 4: ماركس
-ملحق: كارل ماركس: موضوعات عن فيورباخ
القسم 1: هيغل
يقول انجلس: "قبل إرسال هذه السطور إلى المطبعة، فتشت عن المخطوطة القديمة لعامي 1845-1846 (الأيديولوجية الالمانية) وراجعتها مرة أخرى. في هذه المخطوطة فصل عن فيورباخ لم ينته. والقسم الجاهز يتضمن عرضاً عن الفهم المادي للتاريخ، وهذا العرض يظهر فقط لأية درجة كانت معارفنا في حقل التاريخ الاقتصادي ناقصة في تلك الحقبة. وبما أن نقد نظرية فيورباخ نفسها لم يرد في المخطوطة، فلم يكن بمستطاعي الاستعانة بها لهذه الغاية. إلا أنني وجدت في دفتر قديم لماركس الموضوعات الاحدى عشرة عن فيورباخ، المطبوعة هنا بصورة ملحق. فهي ملاحظات سريعة، ليست معدة مطلقاً للنشر، وتستلزم إكمال الصياغة. ولكن قيمتها تفوق التقدير بوصفها أول وثيقة تحتوي النواة العبقرية للمفهوم الجديد عن العالم"، أي نواة الفهم المادي للتاريخ.
في الفصل الأول الخاص بتلخيص الموقف الماركسي من هيغل وفي معرض نقده لكتاب شتاركه "لودفيغ فيورباخ"، يقول انجلس: "هذا الكتاب (كتاب شتاركه) يعود بنا إلى مرحلة منفصلة عنا، من حيث الزمن، مدى جيل، ولكنها غدت غريبة عن الجيل الحاضر في ألمانيا حتى كأنها بعيدة عنه مدى قرن كامل. ومع ذلك كانت تلك المرحلة مرحلة تحضير ألمانيا لثورة 1848، وكل ما حدث عندنا مذ ذاك، لم يكن إلا امتداداً لعام 1848، (لم يكن) إلا تحقيقاً للوصية التي تركتها الثورة."
ولكن، ما هي "الوصية التي تركتها الثورة"؛ ثورة 1848؟
نجد الجواب عن هذا السؤال في مقدمة انجلس لكتاب ماركس "الصراعات الطبقية في فرنسا 1848-1850 " والمؤرخة سنة 1895 حيث يكتب انجلس: "عندما انفجرت ثورة شباط (1848)، كنا نحن جميعاً متأثرين في تصوراتنا حول شروط الحركات الثورية وظروفها وسيرها بالخبرة التاريخية الماضية، ولا سيما بخبرة فرنسا (الثورة الفرنسية). فهي التي لعبت الدور الرئيسي في كل تاريخ أوروبا ابتداء من عام 1789. وهي التي أعطت آنذاك والآن من جديد إشارة الانقلاب العام. ولهذا كان من الطبيعي والمحتم تماماً أن تكون تصوراتنا حول طابع وسير الثورة "الاجتماعية" (الاشتراكية) ثورة البروليتاريا، التي أُعلنت في شباط 1848 في باريس، مصبوغة بشكل ساطع بذكريات عن النماذج السابقة في مرحلة 1789-1830. وعندما وجدت الانتفاضة الباريسية صدى في الانتفاضات المظفرة في فيينا وميلانو وبرلين؛ وعندما اجتذبت أوروبا كلها حتى الحدود الروسية إلى الحركة؛ وعندما وقعت بعد ذلك في حزيران/ يونيو في باريس أول معركة كبيرة من أجل السيادة بين البروليتاريا والبورجوازية؛ وعندما بلغت الأمور إلى حد أن انتصار الطبقة البورجوازية ذاته هزّ البورجوازية في جميع البلدان إلى درجة أنها ارتمت من جديد في أحضان الرجعية الملكية الاقطاعية التي كانت قد أُسقطت للتو. لم يكن من الممكن في ظروف ذلك الوقت أن يخالجنا أي شك في أن المعركة الفاصلة الكبرى قد بدأت وأنه يجب السير بها إلى النهاية في سياق مرحلة ثورية طويلة وحافلة بالتقلبات، وأنه لا يمكن مع ذلك لهذه المعركة أن تنتهي إلا بانتصار البروليتاريا النهائي" (الصراعات الطبقية في فرنسا)
إن الوصية تعني بالضبط أن مرحلة ثورية جديدة في التاريخ العالمي قد بدأت، هي ثورة البروليتاريا الاشتراكية، وأن الرهان على البورجوازية والقياس على ثوراتها لم يعد وارداً، وأن الوصية متضمنة في قول انجلس السالف الذكر: " إن المعركة الفاصلة الكبرى قد بدأت (بثورة البروليتاريا الباريسية 1848) وأنه يجب السير بها إلى النهاية في سياق مرحلة ثورية طويلة وحافلة بالتقلبات، وأنه لا يمكن مع ذلك لهذه المعركة أن تنتهي إلا بانتصار البروليتاريا النهائي". هذا هو فحوى الوصية التي تركتها ثورة 1848 الباريسية.
ومثلما كانت فلسفة التنوير الفرنسية مقدمة لثورة 1789 البورجوازية في فرنسا، كانت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ونقدها مقدمة للانقلاب السياسي سنة 1848 , بكلام انجلس: "ومثلما جرى في فرنسا في القرن الثامن عشر، كانت الثورة الفلسفية في ألمانيا، في القرن التاسع عشر، مقدمة للانقلاب السياسي"
ولكن وراء هؤلاء الأساتذة (أساتذة الفلسفة الألمانية وعلى رأسهم هيغل) وتعابيرهم المعمّاة المتحذلقة، وفي جملهم الثقيلة المضجرة، كيف كانت الثورة تستطيع أن تكمن؟ خاصة وأن الليبراليين المعتبرين في تلك المرحلة ممثلي الثورة، كانوا من ألد أعداء هذه الفلسفة التي أشاعت الغموض في عقول الناس (حسب تعبيرهم).
يقول انجلس: لكن مالم يره، لا الحكومات ولا الليبراليون، رآه شخص واحد على الأقل عام 1833، وهذا الشخص هو هنريش هاينه"
يكتب هاينه: " إن مؤلفات الفلاسفة الالمان مؤلفات شاملة شمولاً محكماً لا حدود له وعميقة جداً إلى حد الدهشة. لكنها مع ذلك غامضة أيضاً. فما نفع مخازن القمح الموصدة لشعب لا يملك المفاتيح إليها. فالشعب تواق إلى المعرفة. إن الشيء الذي يحول بين معظم العلماء الألمان وبين التعبير عن الدين والفلسفة تعبيراً شعبياً جماهيرياً لا يعزى إلى انعدام الموهبة، بل إن هذا ليعزى إلى التهيُّب من نتائج تفكيرهم التي لا يجرؤون على إعلام الشعب بها. أما أنا فليس لديّ هذا التهيب، إذا أنني لست عالماً. وأنا نفسي واحد من الشعب" ("تاريخ الدين والفلسفة في ألمانيا)
إن المثال الهام الذي يعطيه انجلس لمقولة هيغل والتي تتحول العبارة وفقاً للديالكتيك الهيغلي من عبارة تكرّس الواقع القائم الفاسد إلى عبارة ثورية هدّامة للواقع الفاسد القائم. وهذه العبارة: "كل ما هو واقع معقول، وكل ما هو معقول واقع" تتحول إلى العبارة الثورية: "كل ما هو واقع في مجال التاريخ الإنساني يغدو مع مرور الزمن منافياً للعقل، فهو إذن في طبيعته بالذات غير معقول، مطبوع مسبقاً بخاتم اللاعقلية، وكل ما هو معقول في رؤوس الناس، محكوم عليه بأن يغدو واقعاً مهما كان مناقضاً للواقع المتصور القائم. فالموضوعة التي تقول بأن كل ما هو واقع، هو معقول، تتحول وفقاً لجميع قواعد طريقة التفكير الهيغلية (الديالكتيك الهيغلي)، إلى موضوعة أخرى، هي أن كل ما هو قائم يستحق الزوال" حسب عبارة غوته في "فاوست"
إن عبارة انجلس: " كل ما هو واقع في مجال التاريخ الإنساني يغدو مع مرور الزمن منافياً للعقل، فهو إذن في طبيعته بالذات غير معقول، مطبوع مسبقاً بخاتم اللاعقلية " هذه يمكن صياغتها على النحو التالي: إن طبيعة ما هو واقع هو عين صورته، وهذه الصورة مشروطة تاريخياً، فتارة تكون عقلية، وما أن تتغير الشروط التاريخية حتى تغدو لا عقلية ويتوجب عليها مغادرة المسرح. كالماء بطبعه يغيّر صورته مع تغير الحرارة، فإذا ارتفعت الحرارة ارتفع الماء وصعد وإذا هبطت هبط ونزل إلى أسفل. وهذا حال طبيعة الواقع في تاريخيته بين المعقولية واللامعقولية.
قلنا في "آحاديث اليوم الآخر" وبسطنا
كيف يكون استعداد الماء
للحركة إلى فوق
إذا أفرطنا عليه بالتسخين
وكيف ينزل
إذا أفرطنا عليه بالبرودة
وكيف يكون ذلك الاستعداد
هو عين صورته
وأن الأفعال الصادرة
عن الصورة المرئية
ليست في الحقيقة لها
وإنما قابلية صورة الماء
هي لفاعل يفعل بها
وهو هنا فعل الشرط
" وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ" [الانفال: 17] (رسالة في العقل الفعّال)
يقول انجلس: "إن الأهمية الحقيقية والطابع الثوري للفلسفة الهيغلية (التي ينبغي علينا أن نقصر بحثنا عليها بوصفها المرحلة الختامية لكامل الحركة الفلسفية (الكلاسيكية الألمانية) منذ كانط)، فيقومان بالضبط، في أن فلسفة هيغل وضعت حداً نهائياً لكل تصور عن الطابع النهائي لنتائج فكر الانسان وفعله"
ويضيف انجلس: "إن الحقيقة التي كان ينبغي أن تعرفها الفلسفة لم تبد لهيغل على شكل مجموعة من العقائد الجامدة الجاهزة التي ليس على المرء بعد اكتشافها إلا أن يحفظها عن ظهر قلب". لقد ظهرت الحقيقة على أنها ليست سوى مجرى المعرفة نفسه "في التطور التاريخي للعلم الذي يصعد من درجات دنيا إلى درجات أعلى فأعلى في سلم المعرفة لكن دون أن يبلغ أبداً نقطة لا يستطيع أن يستمر سيره منها بعد إيجاد ما يسمى الحقيقة المطلقة". "إن منهج هيغل هو نتيجة جليلة لتطور الفلسفة السابق كله"
لكن، ما هي "الحقيقة المطلقة" التي أعلن عنها هيغل عبر فلسفته؟
الحق يقال إن الحقيقة المطلقة التي صاغها هيغل عبر فلسفته هي حقيقة الأزمنة السابقة لهيغل في العصرين القديم (اليوناني الروماني) والعصور المسيحية الوسيطة وصولاً إلى الأزمنة الحديثة. وواضح أن آسيا والإسلام أو الشرق والإسلام خارج دائرة هذه الحقيقة. ومع ذلك اكتشف ماركس ومعه انجلس أن هذه الحقيقة المطلقة؛ هذه "النهاية" للتاريخ ليست سوى بداية جديدة لما أطلق عليه هيغل نفسه "الأزمنة الحديثة". إن العتبة الجديدة التي بدأت في القرن السادس عشر لم يتم وعيها "كأزمنة حديثة" إلا في القرن الثامن عشر. إن مطلق هيغل هو نهاية وبداية في نفس الوقت.
ليس للتاريخ نهاية كما ادعى فوكوياما منظر مرحلة الانحطاط في الرأسمالية المتأخرة الامبريالية. قال الخصيبي: "كذلك سبيل هذا العالم يجري. لا نفاذ لملك الله ولا إحاطة بوقته، فمن زعم أنّ لذلك حدّاً فهو مشرك" (الرسالة الرستباشية). قلنا في "الصورة الملازمة والصورة المفارقة": فكلّ عهد جديد يُمهِّد له بدراسة الصورة الملازمة من جديد والخروج بوعيه الممكن أو صورته المفارقة"
يقول انجلس: "فالتاريخ شأنه شأن المعرفة، لن يكتمل نهائياً في وضع مثالي كامل للإنسانية"
وعلينا ملاحظة التوازي بين عمل البورجوازية من جهة وعمل الديالكتيك الهيغلي من الجهة الأخرى. يقول انجلس: وكما أن البورجوازية تحطم عملياً، بواسطة الصناعة الكبيرة، والمزاحمة، والسوق العالمية، جميع المؤسسات القديمة المثبتة التي قدستها العصور السالفة، كذلك تحطّم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن الحقيقة المطلقة النهائية، وعن أوضاع الإنسانية المطلقة المناسبة لها."
ليست الفلسفة الديالكتيكية نفسها سوى انعكاس لعمل الانسان في التاريخ المعاصر، عمل الانسان البورجوازي الحديث مع كامل التطور السابق.
عندما يصرح فوكوياما أواخر القرن العشرين أننا نعيش نهاية التاريخ والانسان الأخير، فهذا معناه أن العصر البورجوازي "الليبرالي" هو العصر المطلق الكامل للإنسانية، ومعناه أيضاً أن الانسان البورجوازي هو الانسان الكامل والأخير على هذه الأرض. لكن تبين لاحقاً وبعد أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية سنة 2008 وصعود الصين أن هذا مجرد وهم، مجرد فكر محافظ يعبر عن رأسمالية آفلة منحطة. إن الجانب المحافظ للفلسفة الديالكتيكية أنها تبرر كل مرحلة معينة من مراحل تطور المعرفة والعلاقات الاجتماعية في زمانها وظروفها لا أكثر. فالصفة المحافظة لهذه الطريقة في الفهم هي نسبية، وطابعها الثوري هو مطلق. وقد تبدو هذه المرحلة النسبية للرجعيين والمحافظين ضيقي الأفق (مثال فوكوياما) أنها مطلقة ونهائية في تاريخ البشرية والانسان.
ثم يعرّج انجلس على علاقة فلسفة هيغل الديالكتيكية بتطور العلوم التجريبية الحديثة، وعن تنبؤ هذه العلوم بنهاية ممكنة للحياة على سطح الأرض، بالتالي تعلن هذه العلوم (ومعها الفلسفة الديالكتيكية) أن تاريخ الإنسانية لن يكون حركة صاعدة وحسب، بل أيضاً حركة نازلة"
إن عدم اهتمام فلسفة هيغل بمسألة الحركة النازلة والانحطاط ناجمة عن أمرين أساسيين: الأول كما قال انجلس: أننا لا نستطيع أن نطلب من فلسفة هيغل أن تهتم بقضية لم تضعها بعد العلوم الطبيعية المعاصرة لها في جدول الاعمال" والامر الثاني أن هيغل عاصر صعود البورجوازية التاريخي وثوراتها وتوفي في سنة 1831 بينما نلاحظ أن بداية انحطاط البورجوازية التاريخي وبداية ظهور الدور السياسي للبروليتاريا قد بدأ فعلياً عبر ثورة 1848 الباريسية.
إن هيغل نفسه الذي ينتهي إلى حقيقة مطلقة هي "الفكرة المطلقة"، هو بالذات الذي يشير ولا سيما في كتابه "المنطق" (علم المنطق أو المنطق الكبير) إلى أن هذه الحقيقة الخالدة (المطلقة) ليست سوى المجرى المنطقي (أي التاريخي) نفسه" وهو ما أطلقنا عليه القدماء "العقل الفعّال"، وهو جهد تراكمي مستمر للعقل البشري عبر التاريخ. قلنا في "رسالة في العقل الفعال": "هذا المحتوى العلمي التاريخي المتراكم في المنهج هو العقل الفعّال"
فالإنسانية التي توصلت بشخص هيغل إلى "الفكرة المطلقة"، كان ينبغي عليها أن تتقدم في الميدان العملي أيضاً إلى درجة تستطيع معها أن تحقق هذه "الفكرة المطلقة" ولم يكن ذلك ممكناً إلا عبر قراءة ماركس للمجتمع البورجوازي المعاصر قراءة عينية بالاعتماد على الديالكتيك الهيغلي المطلق أو "العقل الهيغلي الفعال"، في سبيل تأسيس الوعي النظري المتناسق لعمل البروليتاريا الاشتراكية السياسي اللاحق. "وهذا يعني أنه لم يكن يترتب على الفكرة المطلق الهيغلية أن تقدم لمعاصريها متطلبات سياسية كبيرة جداً ومباشرة". إن ما هو مجرد عند هيغل أضاء ما هو عيني عند ماركس. وهذا العيني والتاريخي لدى ماركس أعاد توجيه مقولات الديالكتيك الهيغلي وقلب ماركس على أساس ذلك هيغل وأوقفه على رجليه بعد أن كان واقفاً على رأسه. يقول ماك إنتاير: "نحن نبصر ما هو أكثر عينية في ضوء ما هو أكثر تجريدا". (رسالة في العقل الفعّال)
إن الفلسفة بالمعنى القديم تنتهي مع هيغل، والفضل في ذلك يعود إلى هيغل نفسه أكثر مما إلى أي شخص آخر، حيث تنتهي كل الفلسفة بالمعنى القديم لهذه الكلمة. حيث نغادر أرض "الحقيقة المطلقة" التي لا يمكن أن يدركها في هذا الطريق كل إنسان بمفرده، ونسعى بالمقابل وراء الحقائق النسبية، الحقائق التاريخية للعصر التي يمكننا أن ندركها بشكل تام، وذلك في طريق العلوم الإيجابية، معممين نتائجها بواسطة "العقل الفعّال" أو الفكر الديالكتيكي.
فمع هيغل تنتهي بوجه عام الفلسفة القديمة، لأن منهجه هو نتيجة جليلة لتطور الفلسفة السابق كله. ولأن منهجه يرينا، ولو عن غير إدراك منه، الطريق الذي يقود من متاهة المناهج هذه إلى معرفة العالم التاريخي معرفة حقيقة إيجابية.
كل المآخذ التي يمكن تعدادها بخصوص فلسفة هيغل، وكل ما يقال عن ضيق الأفق البورجوازي الصغير لدى هيغل، كل هذا لم يمنع، مع ذلك، منهج هيغل من أن يشمل ميداناً أوسع بكثير من أي ميدان سبقه، ومن أن يعطي في هذا الميدان ثروة من الأفكار ما زالت تدهشنا اليوم أيضاً. إن فيورباخ بنقده لفلسفة هيغل قد حطم المنهج (الطريقة الديالكتيكية) وألقى به جانباً بكل بساطة. ولكن إعلان الفلسفة بأنها خاطئة، لا يعني بعد التغلب عليها. وكان من المستحيل بمجرد التجاهل، إقصاء عمل جبّار بهذا القدر كالفلسفة الهيغلية التي أثرت تأثيراً كبيراً في تطور الامة الروحي."
يقول انجلس: في ألمانيا على ما يبدو، أخذ الجميع يملون (يدرسون) الحساء الاختياري الهزيل الذي يقدم إليهم في الجامعات باسم الفلسفة. ونظراً لذلك بدا لي أكثر فأكثر أن الوقت قد حان لكي أعرض موقفنا (الماركسي) من الفلسفة الهيغلية عرضاً موجزاً منهجياً."
وباعتبار أنه لم يبق في ألمانيا بعد فشل ثورة 1848 من الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ومن الهيغلية غير هذا الحساء الاختياري، كان لا بد من إعادة تقريظ هيغل، لا بل ومديحه. وكان لا بد من الكشف عن كيفية رفع فلسفة هيغل عن طريق ماركس إلى مستوى العمل الاشتراكي. "كان ينبغي رفعها (الفلسفة الهيغلية) في معناها ذاتها، أي كان على النقد (الماركسي) أن يزيل شكلها وأن ينقذ ما فيها من المحتوى الجديد الذي حصلت عليه". وعلينا أن نلاحظ تمييز انجلس بين "المنهج " المثالي عند هيغل وبين "الطريقة" الديالكتيكية، بين الشكل المثالي والمحتوى الديالكتيكي.
وسوف نرى أن ماركس نفسه، وأمام طغيان هذا "الحساء الاختياري" في ألمانيا واستخفافهم بهيغل وفلسفته قد انبرى بالدفاع عن هيغل في مقدمات رأس المال بالقول: "لقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل زهاء ثلاثين عاماً يوم كان يمثل الموضة السائدة. ولكن بينما كنت أعمل في المجلد الأول من رأس المال، راق أنصاف المثقفين، المتغطرسين التافهين المشاكسين، الذين لهم الكلمة العليا اليوم بين متعلمي ألمانيا، أن يعاملوا هيغل معاملة موسى مندلسون الشجاع لسبينوزا في عهد ليسنغ، أي يعاملوه مثل "كلب ميْت". لذلك أعلنت نفسي جهاراً تلميذاً لذلك المفكر الجبار، بل عمدت في هذا الموضع أو ذاك من الفصل الخاص بنظرية القيمة، إلى مغازلة أسلوبه الخاص بالتعبير." (رأس المال؛ تعقيب على الطبعة الألمانية الثانية). يتابع انجلس هجومه على هذا "الحساء الاختياري" بالقول: "إن المبتذلين الذين أخذوا على عاتقهم في العقد السادس (1850-1860) دور مروجي المادية في ألمانيا، لم يتجاوزوا في شيء حدود تعاليم معلميهم. والنجاحات الجديدة التي حققتها العلوم الطبيعية لم تفدهم بشيء اللهم إلا في تقديم براهين جديدة ضد وجود خالق الكون. ولم تكن في أفكارهم حتى نية الاستمرار في تطوير النظرية". وهؤلاء المبتذلين هم الذين وصفهم انجلس "بالذرّية المنحطّة للفلسفة الكلاسيكية الألمانية"
القسم 2: المادية
يقول انجلس: إن المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة، ولا سيما الفلسفة الأكثر حداثة، إنما هي العلاقة بين الفكر والكائن. The great basic question of all philosophy, especially of more recent philosophy, is that concerning the relation of thinking and being.
وأقول: إن المسألة الأساسية الكبرى في كل الفلسفة قديماً وحديثاً هي مسألة قدم العالم وحدوثه، مسألة أزلية العالم أو خلقه.
الفلسفة الطبيعية أو المادية الطبيعية والعقلانية الطبيعية هي التي تقول بقدم العالم، وأن الطبيعة والعالم لم يخلقهما أي إله، لم تخلقهما "الفكرة المطلقة".
والمادية التاريخية التي اعتمدت الديالكتيك كطريقة لها هي التي تقول بخلق العالم، ليس عن طريق الفكرة الخالقة أو الكلمة، بل بفعل نشاط الذات العارفة وفعاليتها الخالقة لطبيعة جديدة كما يخلق العامل بفعاليته سلع جديدة وكما يخلق بثورته الاجتماعية، ثورة البروليتاريا عالماً جديداً. فقوة العمل هي الذات الخالقة للقيم النافعة. إن ذات الاله الخالق في الإسلام المحمدي منزّه عن كل ما لا يلزمه، منزه عن الجسدية والصفات والصور.
وباعتبار أن المادية التاريخية هي الحلقة الاحدث والاوسع، فمن الطبيعي أن تكون هي المهيمنة في التصور المادي للتاريخ، وتكون المادية العلمية الطبيعية على "صحتها" وأهميتها في حقلها، متنحّية وخاضعة لها
بينما الكلمة الخالقة في المسيحية هي فعل نفي وسلب شامل، وهي النظرية الثورية في الماركسية. بالتالي تبقى مقولة "في البدء كانت الكلمة" مثالية. وتبقى المسيحية مملكة السماء وعزاء الفقراء والمظلومين وطوبى لهم. تبرز الذات الإلهية الخالقة في الإسلام ككتلة تاريخية فاعلة و "أمير حديث" أو حزب لينيني بلشفي وطبقة بروليتارية ذات وعي طبقي تاريخي، أو أخوية سرية باطنية وقبيلة قائدة كقبيلة قريش.
يكتب ماركس: "إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها –بما فيها مادية فيورباخ-هي أن الشيء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية." (موضوعات عن فيورباخ، الموضوعة 1)
يترتب على عبارة انجلس السالفة الذكر في أول (القسم 2) ميل إلى المادية الطبيعية والعقلانية الطبيعية، وهو ميل وضعي يضعف من عمل الديالكتيك. وقد تأثر لينين بقوة بهذه النزعة المادية العلمية الطبيعية في كتابه "المادية ومذهب النقد التجريبي" 1908 حيث نجد كتاب انجلس "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " مرجعاً حاضراً بقوة، خاصة بما يتعلق بـ "نظرية المعرفة" وبعبارة انجلز الأساسية: "إن أعلى مسألة في الفلسفة بكاملها، مسألة علاقة الفكر بالكائن، علاقة الروح بالطبيعة"
من هنا لا نندهش من عبارة انجلس التي تنكر "خلود النفس" عبر توارث "العقل الفعّال" الذي هو قوة انتاج فكرية علمية متراكمة ومفارقة للأفراد. (راجع رسالتنا في "العقل الفعّال"). العبارة التي تقول بالحرف: "ليست الحاجة الدينية إلى التعزية هي التي أدت في كل مكان إلى الوهم المضجر بخلود النفس، بل أدى إليه واقع بسيط هو أن الناس إذا اعترفوا بوجود النفس (الروح)، لم يعرفوا كيف يفسرون لأنفسهم، بحكم ضيق الفكر العام، إلى أين تذهب هذه النفس بعد موت الجسد."
ولا نندهش بناء على ذلك من عبارة انجلس التي تقول: "منذ أقدم العصور حين كان الناس في جهل مطبق عن تكوينهم الجسدي، وما استطاعوا تفسير الاحلام فتوصلوا إلى هذا الاعتقاد القائل بأن فكرهم ومشاعرهم ليس مصدرها جسدهم نفسه، بل إنه النفس التي تقطن هذا الجسد وتفارقه عند الموت. منذ ذلك الوقت وجب عليهم أن يمعنوا الفكر في العلاقة بين هذه النفس والعالم الخارجي." وبعدها مباشرة يتحدث انجلس عن الدين الطبيعي، وتشخيص قوة الطبيعة في صورة قوى خارج العالم. وبعد التقطير الطبيعي والتجريد الذهني وصلنا إلى ديانات التوحيد أو ديانات الأنبياء في غياب للتاريخ عن وجهة نظر انجلس وحضور طاغ للطبيعة، الذي ليس الفكر الديني سوى انعكاس وتجريد لها. وهذا الفكر العقلاني الطبيعي هو في أساس طغيان الالحاد الألماني في الفلسفة الكلاسيكية الألمانية والادب الألماني. وهو أساس مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا وقبله جوردانو برونو وقبله هيراقليطس العظيم.
يقول هيراقليطس في المقطوعة (30) بلهجته الرسمية جداً: "هذا العالم، هو نفسه بالنسبة للجميع، لم يخلقه أي إله أو بشر، ولكنه كان دائماً وهو موجود الآن وسيبقى، ناراً حيّة دائماً تشتعل باعتدال وتنطفئ باعتدال" (جذور المادية الديالكتيكية: هيراقليطس)
يقول انجلس: "هذه المسألة التي لعبت دوراً كبيراً في الفلسفة الكلامية المدرسية (scholasticism) في العصور الوسطى، قد اتخذت في مواجهة الكنيسة شكلاً أكثر حدة: أخُلق العالم من قبل الاله أم أنه موجود منذ الازل؟ "
ومن الواضح والبديهي استمرار تأثير فكر فيورباخ المادي الطبيعي على تفكير انجلس ونحن في الاعوام (1886-1888). يقول انجلس بهذا الخصوص: "كان فيورباه على حق تماماً حين قال أن المادية العلمية الطبيعية وحدها دون غيرها " تؤلف أساس بناء المعرفة الإنسانية ولكن ليس البناء نفسه" لأننا لا نحيا في الطبيعة وحدها، ولكن في المجتمع الإنساني أيضاً، وهذا الاخير له كما للطبيعة، تاريخه في التطور وعلمه. فالمهمة، إذن توفيق علم المجتمع، أي مجموع العلوم المسماة بالعلوم التاريخية والفلسفية، مع الأساس المادي، وإعادة بنائه على هذا الاساس" وهذا معناه بالضبط إعطاء الهيمنة لعلوم الطبيعة على علم التاريخ، مع أننا لاحظنا انجلس يقول في هذا الكتاب: "ليس الذنب ذنب فيورباخ إذا كان المفهوم التاريخي عن الطبيعة الذي غدا الان ممكناً والذي قضى على كل ما اتسمت به المادية الفرنسية من ضيق، قد بقي في غير متناوله". يقول ماركس: "إن فيورباخ في حدود كونه مادياً، لا يجعل التاريخ يتدخل قط، وفي حدود إدخاله التاريخ في حسابه ، فهو ليس بمادي. إن التاريخ والمادية منفصلان كلياً عنده" (الأيديولوجية الألمانية 37) ويضيف: "إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ. ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من من طرفين، وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر. وعلى كل حال فالطرفان غير منفصلين: فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما بعضاً ما وجد البشر. وأن تاريخ الطبيعة المسمى العلوم الطبيعية، لا يعنينا هنا، لكنه لابد لنا أن ندرس تاريخ البشر، ما دامت الأيديولوجية بكاملها على وجه التقريب ترتد إما إلى تفسير خاطئ للتاريخ، وإما تؤدي إلى تعليقه كلياً" (الأيديولوجية الألمانية 22)
ما من شك أن مراحل الوعي الإنساني مرحلتان: مرحلة طبيعية حيث تنعكس الطبيعة والعالم القائم في العقل الإنساني عبر الاستدلال والقياس والبرهان، ومرحلة أعلى ديالكتيكية تاريخية حيث يخلق الانسان بفعاليته الهادفة في العمل طبيعة جديدة (سلع جديدة)، وبفعاليته الثورية عالماً جديداً.
يكتب ماركس في تتمة الموضوعة الأولى حول فيورباخ: "وفيورباخ يريد الموضوعات الحسية التي تتميز في الحقيقة عن الموضوعات الفكرية، ولكنه لا ينظر إلى النشاط الإنساني نفسه بوصفه نشاطاً واقعياً. ولهذا لم يعتبر في كتابه "جوهر المسيحية" شيئاً إنسانياً حقاً إلا النشاط النظري، في حين أنه لم ينظر إلى النشاط العملي ولم يحدده إلا من حيث شكله التجاري الوسخ. ولهذا لا يدرك أهمية النشاط "الثوري"، "النقدي-العملي"" (الموضوعة الأولى عن فيورباخ).
يقول انجلس: "الذين اعترفوا في آخر الامر، بهذه الصورة أو تلك، بخلق العالم ألفوا معسكر المثالية (هيغل، المسيحية). أما أولئك الذين اعتبروا الطبيعة هي الأصل فقد انتموا إلى مختلف مدارس المادية"
ثم يتابع انجلس بعد ذلك الحديث عن نظرية المعرفة، وإمكانية الفكر البشري معرفة حقيقة الكائن، وبالتالي الحديث عن مطابقة الفكر والكائن، والأفضل الحديث عن "هوية الفكر والحقيقة الواقعية للكائن " identity of thinking and being، أي هو هو. ويأخذ هيغل مثلاً على إمكانية معرفة العالم معرفة حقيقية، ويضيف: "لكن هناك عدد من الفلاسفة الآخرين يشكّون في إمكانية معرفة العالم، أو على الأقل، معرفته الكاملة. وبين الفلاسفة الحديثين، تنبغي الإشارة إلى هيوم وكانط اللذين قاما بدور على جانب كبير من الأهمية في تطور الفلسفة"
وهنا نريد لفت الانتباه إلى تثمين انجلس لدور هيوم وكانت في تاريخ تطور الفلسفة، بالرغم من شكيتهما (لا غنوصيتهما) agnostics. إن شكهما وسلبيتهما بخصوص إمكانية معرفتنا للعالم كانت في شروط تاريخية معية حافزاً كبيراً لتطور مسيرة الفلسفة الحديثة.
يتحدث انجلس بعد ذلك عن القوة الدافعة لتطور الفلسفة في الحقبة الطويلة التي امتدت من ديكارت (1596-1650) إلى هيغل (1770-1831) ومن هوبز (1588-1679) إلى فيورباخ (1804-1872)، بالقول: لم تدفع الفلاسفة إلى الامام قوة الفكر المحض وحدها، كما كانوا يتصورون، بل على العكس، إن ما دفعهم في الحقيقة إلى الامام، إنما كان على الأخص تطور العلوم الطبيعية والصناعة تطوراً قوياً عاصفاً متسارعاً " لكن انجلس يهمل أمراً حاسماً ، وهو تفاقم الصراعات الطبقية وما نتج عنها من ثورات اجتماعية، خاصة الثورات البورجوازية في إنكلترا والحرب الاهلية (1642-1651) وفي فرنسا (1789 ، 1830). إن سيطرة البورجوازية على السلطة السياسية في إنكلترا وفي فرنسا بعد الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789 أعطى التطور الصناعي زخماً كبيراً عرف باسم مرحلة الثورة الصناعية التي (1760-1860) وهي المرحلة الديمقراطية الليبرالية في تاريخ البورجوازية الأوروبية.
يقول انجلس: هذا التطور كان بادياً للعيان عند الماديين منذ البداية، لكن المذاهب المثالية كانت هي أيضاً تمتلئ أكثر فأكثر بمحتوى مادي، ساعية بواسطة مفهوم عن وحدة الوجودpantheistically ، إلى إيجاد حل للتضاد بين الروح والمادة"
وكنا قد ذكرنا أعلاه مفهوم وحدة الوجود والذي تبناه كل من سبينوزا وجوردانو برونو ومن قبلهم هيراقليطس.
مذهب وحدة الوجود (The doctrine of pantheism): الاتحادية أو الواحدية أو وحدة الوجود مذهب فلسفي يقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرون الله صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته. أي أن الله متحد بالعالم غير مفارق له وغير متعال عليه، وهو لا يتدخل في العالم لكنه يكوّن قانون العالم الداخلي وسر ترابطه.
حسب انجلس، لقد عرض شتاركه عرضاً مفصلاً عن سير تطور "الميتافيزياء" الفيورباخية نفسها. وقد كتب هذا العرض بعناية وهو يتصف بوضوح التركيب.
ويعلق انجلس: "إن سير تطور فيورباخ نحو المادية هو سير تطور هيغل-وإن لم يكن فيورباخ أبداً هيغلياً منسجماً تماماً-وفي درجة معينة من هذا التطور، قطع فيورباخ كل صلة له مع المنهج المثالي لسلفه. وأخيراً استحوذ عليه، بقوة لا تقهر، إدراك أن وجود "الفكرة المطلقة" الذي سبق وجود الارض عند هيغل، "الوجود المسبق للمقولات المنطقية" قبل ظهور العالم، ليس سوى بقية خيالية من الاعتقاد بخالق من عالم الغيب؛ وأن عالم الاشياء المدرك بالحس والذي ننتمي إليه نحن أنفسنا هو العالم الوحيد الواقعي"
في نزعته المادية الطبيعية يغفل انجلس عبارته الواردة أعلاه في سياق نقده لهيغل والتي تقول: "كل ما هو واقع في مجال التاريخ الإنساني يغدو مع مرور الزمن منافياً للعقل، فهو إذن في طبيعته بالذات غير معقول، مطبوع مسبقاً بخاتم اللاعقلية، وكل ما هو معقول في رؤوس الناس، محكوم عليه بأن يغدو واقعاً مهما كان مناقضاً للواقع المتصور القائم"
إن العبارة التي تحتها خط تربك حسابات انجلس المادية الطبيعية: "كل ما هو معقول في رؤوس الناس محكوم عليه أن يغدو واقعاً " وتقرر صواب الفكرة الهيغلية التي تقول ب " الوجود المسبق للمقولات المنطقية" قبل ظهور العالم“، وأنها ليست بقية خيالية، بل هي فكر تخيّلي خالق لعالم جديد يناقض العالم القائم الفاسد. وهذه الفكرة تؤكد فكرة أن العالم مخلوق وليس أزلياً، لأن أزليته تعني تبرير فساده، أي أن كون هذا العالم القائم يخضع للكون والفساد فمعنى ذلك أنه مخلوق ويمكن تبديله متى أصبح ذلك ضرورياً. إن هيمنة المادية الطبيعية تلغي فكر التاريخ والمادية التاريخية، وتكتفي بالتغني الرومانسي بالطبيعة وبالعالم القائم. إن الوجود المسبق للمقولات المنطقية" قبل ظهور العالم، والفكر التخيّلي الخالق للعالم الجديد هو في أصل فكرة الوحي والنبوة والدين التاريخي. وهو بداية فكر الشرق، وفكرة أن تأسيس المجتمع تخيلياً هي في أساس فكرة التاريخانية الماركسية. وفي أساس فكرة لينين: "لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية".
يكتب كورنيليوس كاستورياديس في القسم الثاني من كتابه "تأسيس المجتمع تخيلياً"، تحت عنوان "المتخيل الاجتماعي والتأسيس، الفصل الرابع: الاجتماعي-التاريخي": "إن ما نرمي إليه هنا هو مسألة المجتمع ومسألة التاريخ. وهما مسألتان لا يمكن التعامل معهما إلا كمسألة واحدة ليس إلا: إنها مسألة الاجتماعي-التاريخي. إن ما قدمه الفكر الموروث من مساعدة لهذه الاثارة يظل مجزأ أيما تجزؤ، بل لعله يكون على الاخص سلبياً، إذ هو كشف حدود نمط من التفكير، وأبرز ما فيه من امتناعات. من الممكن لهذا التوكيد أن يبدو غريباً إذا ما نُظر من ناحية الكمية والكيفية لما كان قد قدمه التفكير في هذا الميدان منذ أفلاطون على الاقل، وبنحو خاص خلال القرون الاخيرة. غير أن ما هو جوهري في هذا التفكير الموروث –ما عدا عوارض رشيمية، وتوهجات عابرة، ولحظات من حضور تناقضات مستعصية-قد استنفذ ليس في افتتاح المسألة وتوسيعها وإنما في حجبها حالما تم الكشف عنها، وفي اختزالها حالما انبثقت. وقد تم اللجوء إلى الآلية ذاتها، والتسويغات ذاتها، التي وظفت في حجب هذه المسألة واختزالها، في حجب واختزال التخيُّل والمتخيَّل، وللأسباب العميقة ذاتها" ص 241
يكتب ماركس في "الأيديولوجية الألمانية": "لا يصبح تقسيم العمل فعلياً إلا من اللحظة التي يحدث فيها تقسيم للعمل المادي والفكري. وابتداء من تلك اللحظة يستطيع الوعي أن يتباهى فعلاً بانه شيء يختلف عن وعي الممارسة القائمة، وأنه يمثل فعلاً شيئاً ما من دون أن يمثل شيئاً فعلياً؛ إن الوعي هو من الآن فصاعداً في مركز يستطيع فيه أن يتحرر من العالم، وأن ينصرف إلى تكوين النظرية "الصرفة" اللاهوت والفلسفة والأخلاق (تكوين صورته المفارقة للعالم القائم) لكن حتى إذا دخلت هذه النظرية من لاهوت وفلسفة واخلاق في تناقض مع العلاقات القائمة ، فإن هذا لا يمكن أن يحدث إلا لأن العلاقات الاجتماعية القائمة قد دخلت في تناقض مع القوى المنتجة القائمة، وإن هذا ليمكن أن يحدث فضلاً عن ذلك ، في مجال وطني معين من العلاقات لأن التناقض في هذه الحال يحدث ليس ضمن هذا المجال الوطني ، بل بين هذا الوعي الوطني وممارسة الأمم الأخرى" (نقلاً عن رسالة في الغنوصية)
وفي تعليق ملفت لانجلس يقول فيه: "ليس الذنب ذنب فيورباخ إذا كان المفهوم التاريخي عن الطبيعة الذي غدا الان ممكناً والذي قضى على كل ما اتسمت به المادية الفرنسية من ضيق، قد بقي في غير متناوله". إن معنى هذا المفهوم يصلنا بفكرة أرسطوطاليس عن الطبيعة (physic) بوصفها ظهوراً (Docetism)، و"ظهور" يعني تطور معرفة الانسان بالطبيعة وظهورها بوصفها شأناً تاريخياً. و Docetism, (from Greek dokein, “to seem”
مراجع
1-انجلس: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية
2-ماركس-انجلس: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب دار دمشق 1976
3 -ماركس: رأس المال، المجلد الأول، ترجمة د. فالح عبد الجبار، دار الفارابي 2013
4-ماركس: الصراعات الطبقية في فرنسا 1848-1850
5-ماركس: موضوعات عن فيورباخ-الموضوعة الأولى.
6-مجموعة من المؤلفين: تاريخ الديالكتيك؛ الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ترجمة الدكتور نزار عيون السود، دار دمشق 1986
7-ثيوكاريس كيسيديس: جذور المادية الديالكتيكية: هيراقليطس، ترجمة حاتم سلمان، دار الفارابي 1987
8-نايف سلوم: رسالة في الغنوصية 2022 (الصورة الملازمة والصورة المفارقة)
9-نايف سلوم: ثلاث رسائل: في العقل الفعّال، الكيمياء الصوفية وصناعة الدعاة، المعجزة بين الدين والفلسفة. (رسالة في العقل الفعّال)
10-نايف سلوم: أحاديث اليوم الآخر (ديوان)
11- Frederick Engels : Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy
First Published: 1886, in Die Neue Zeit
12-كورنيليوس كاستورياديس: تأسيس المجتمع تخيّلياً، ترجمة وتقديم ماهر الشريف، دار المدى، 2003 الطبعة الفرنسية 1975
13-هاينريش هاينة: في تاريخ الدين والفلسفة، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار 1988
14-الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلائي: الرسالة الرَّستْباشيّة