-الدولة والثورة- حواشٍ وتعليقات -الفصل الخامس
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7907 - 2024 / 3 / 5 - 17:30
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الأسس الاقتصادية لاضمحلال الدولة.
يقول لينين: إن الشرح الأكثر تفصيلاً لهذه المسألة هو الشرح الذي أعطاه ماركس في مبحثه "نقد برنامج غوتا" (رسالة إلى براكه في 5 أيار/مايو 1875) لم تنشر إلا في سنة 1891 في (نيوتزايت)، وصدرت بالروسية في طبعة على حدة. إن القسم السجالي (الجدلي) في هذا المبحث الرائع، والذي يتلخّص في انتقاد اللاسالية (نسبة إلى لاسال) قد أبقي في الظل، إن أمكن القول، قسمه الإيجابي، ونعني به تحليل الصلة بين تطور الشيوعية واضمحلال الدولة" لدرجة يمكن معها الاستنتاج أنه لا وجود للشيوعية مع وجود الدولة.
فرديناند لاسال (1825-1864): أحد مؤسسي الاشتراكية الألمانية. واللاساليون هم أنصاره وأتباعه، أعضاء الاتحاد الألماني العام الذي تأسس سنة 1863 في مؤتمر جمعيات العمال في لايبزغ، لمجابهة ومعارضة التقدميين البورجوازيين الذين كانوا يحاولون إخضاع الطبقة العاملة لنفوذهم. وكان لاسال أول رئيس لهذا الاتحاد، حيث وضع برنامجه، وأسس تكتيكه. أعلن الاتحاد برنامجه السياسي الذي يُختزل في النضال من أجل حق الانتخاب العام، كما أعلن برنامجه الاقتصادي الذي يتلخص في إنشاء جمعيات العمال الإنتاجية، التي تساعدها الدولة مالياً. أيد لاسال مع أنصاره في الممارسة العملية سياسة بيسمارك الاستعمارية مذعنين لزعامة بروسيا. اعتبر ماركس وانجلس النظرية اللاسالية وتكتيكها ومبادئها التنظيمية باعتبارها تياراً انتهازياً من النمط البورجوازي الصغير، في حركة العمال الألمانية.
فرديناند أوغست بيبل (1840-1913): سياسي اشتراكي وكاتب وخطيب ألماني. اشتهر بكونه واحدًا من مؤسسي حزب العمال الاشتراكي-الديمقراطي في ألمانيا عام 1869، الذي اندمج عام 1875 مع رابطة العمال الألمانية العامة ليصبح معروفًا باسم حزب العمال الاشتراكي في ألمانيا. خلال فترة القمع بموجب أحكام القوانين المناهضة للاشتراكية، أصبح بيبل الشخصية القيادية للحركة الاشتراكية-الديمقراطية في ألمانيا. وشغل من عام 1892 حتى وفاته منصب رئيس الحزب الاشتراكي-الديمقراطي في ألمانيا (SPD).
إن المهمة الأساسية التي وضعها انجلس نصب عينيه في الرسالة التي وجهها إلى بيبل في 28 آذار /مارس 1875 هي أن يبرهن له بجلاء ووضوح وبالخط العريض بطلان الأوهام كلها التي يؤمن بها لاسال لحد كبير، الشائعة بصدد الدولة.
أما رسالة ماركس إلى براكه في 5 أيار/مايو 1875 فإنها لا تتناول هذه المسألة إلى في سياق الحديث، موجهاً ماركس انتباهه إلى موضوع آخر، هو: تطور المجتمع الشيوعي.
إن نظرية ماركس بأكملها تتلخص في كونه يطبق على النظرية الرأسمالية الحديثة نظرية التطور. وطبيعي إذن أن تطرح أمامه مسألة تطبيق هذه النظرية أيضاً على انهيار الرأسمالية المقبل وعلى التطور المقبل للشيوعية المقبلة. فالشيوعية الحديثة ونظريتها نشأت عن الرأسمالية، وتتطور تاريخياً عن الرأسمالية، وأنها نتيجة قوة اجتماعية وطبقة (البروليتاريا) ولدتها الرأسمالية. فماركس يطرح مسألة الشيوعية كما يطرح عالم الطبيعيات مسألة تطور شكل جديد للحياة، دون أضغاث أحلام أو تعلل بالأوهام.
أول أمر قام به ماركس في نقده لبرنامج غوتا هو صرف التشويش الذي يدخله برنامج غوتا في مسألة العلاقة بين الدولة والمجتمع. يقول ماركس: "إن مختلف الدول في مختلف البلدان (المتمدنة -البورجوازية) تتصف جميعها بطابع مشترك، رغم تنوع أشكالها، وهو أنها تقوم في أرض المجتمع (المدني) البورجوازي الحديث مع فارق واحد هو أن درجة تطور هذا المجتمع من الناحية الرأسمالية تختلف في بلد عنها في بلد آخر. ولذا فإنها تشترك ببعض الصفات الجوهرية. بهذا المعنى بمكن الحديث عن "الدولة الحالية" (دولة نمط الإنتاج الرأسمالي البورجوازي) خلافاً للمستقبل حيث يزول المجتمع (المدني) البورجوازي الذي تنبثق منه"
وقد يسأل القارئ: أي تحول يطرأ على الدولة بعد الانتقال والتحول إلى النمط الشيوعي للإنتاج؟ وأية وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي؟ يجيب ماركس بالقول: العلم وحده يستطيع الجواب"
إذاً لا التنجيم، ولا قرن كلمة الشعب بكلمة الدولة (الدولة الشعبية) يمكن أن تدفع القضية إلى الامام قيد شعرة. و"الدولة الشعبية"، كما "الديمقراطية الشعبية"، شعار غوغائي بورجوازي صغير هدفه التغطية على حقيقة الدولة من كونها آلة لسيطرة طبقة حاكمة على باقي الطبقات الهامشية المظلومة في المجتمع.
إن النقطة الأولى التي يثبتها ماركس، و"التي أثبتتها بكل الدقة نظرية التطور كلها، والعلم (التاريخي) كله بوجه عام والتي نسيها الطوباويون وينساها الانتهازيون الحاليون الذين يخشون الثورة الاشتراكية، هي واقع أنه لا بد تاريخياً من طور خاص أو مرحلة خاصة للانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية." 115
يقول ماركس: "بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولاً ثورياً إلى المجتمع الشيوعي. وتناسبها مرحلة انتقال سياسية، لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا"
ونعلق على عبارة ماركس بالقول: أن هذا التحول ليس تحولاً تلقائياً للمجتمع الرأسمالي البورجوازي حسب درجة نضجه التاريخية، بل هو لاحق لتحول ثوري لهذا المجتمع الرأسمالي البورجوازية عبر ثورة بروليتارية اشتراكية. إذ لا يمكن الحديث عن التحول من دون انجاز ثورة اشتراكية تحطم سيطرة البورجوازية كطبقة حاكمة. لأنه لو ترك المجتمع البورجوازي من تلقاء نفسه، لن يقود سوى إلى التعفن ومزيد من الانحطاط والاحتضار الإنساني.
يستند هذا التحليل إلى موقع البروليتاريا في عملية الإنتاج الرأسمالي الحديث، وإلى تضاد مصالحها مع مصالح البورجوازية بشكل لا يمكن التوفيق بينهما.
إذن يتم التركيز من قبل ماركس هنا على أن الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي يستحيل بدون "مرحلة انتقال سياسية. ولا يمكن لدولة هذه المرحلة أن تكون سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا"
ويطرح السؤال مباشرة: "ما هو موقف هذه الديكتاتورية من الديمقراطية؟"
كانت صيغة "البيان الشيوعي" تقتصر على عرض المفهومين جنباً إلى جنب. وهذا أمر طبيعي، طالما أن الصيغة كانت في أن تتسلم البروليتاريا الاشتراكية الظافرة سلطة الدولة من البورجوازية، دون أي حديث عن "تحطيم" أو "استبدال" لهذه الآلة. بالتالي لم يعد الحديث عن موقف البروليتاريا الحاكمة من "الديمقراطية" وارداً، طالما أنها تتسلم آلة الديمقراطية هذه كما هي، ربما مع تحسينات وتحويرات. أما وأنه بات الحديث الآن عن "تحطيم" البروليتاريا الظافرة بالسلطة لآلة الدولة البورجوازية القديمة، تحطيمها "للديمقراطية البورجوازية" وإقامة ديكتاتوريتها الثورية مكانها، ينطرح السؤال فوراً عن موقف هذه الديكتاتورية من الديمقراطية.
في الجمهورية الديمقراطية، أي في مجتمع رأسمالي، نرى ديمقراطية متطورة لهذا الحد أو ذاك. لكن هذه الديمقراطية محشورة على الدوام في إطار ضيق من الاستثمار الرأسمالي، ولذلك تبقى على الدوام، لجهة نمط الإنتاج الرأسمالي، ديمقراطية للأقلية، ديمقراطية للطبقات المالكة، ديمقراطية للأغنياء وحدهم. إن الحرية في المجتمع الرأسمالي الحديث تذكرنا بالحرية في الجمهوريات اليونانية القديمة (جمهورية المدينة-الدولة)، حرية مالكي العبيد.
"فالعبيد الاجراء اليوم يظلون، بحكم ظروف الاستثمار الرأسمالي، رازحين تحت أثقال العوز والبؤس لحد "لا يبالون معه بالديمقراطية " و" لا يبالون بالسياسة"، لحد تبتعد معه أكثرية السكان، في حالة سير الاحداث في مجراها العادي السلمي، عن الاشتراك في الحياة السياسية والاجتماعية" 117
مرة أخرى: إن ديمقراطية المجتمع الرأسمالي البورجوازي هي ديمقراطية لأقلية ضئيلة، ديمقراطية للأغنياء. إذا ما أمعنا النظر في آلية الديمقراطية الرأسمالية البورجوازية، رأينا في كل شيء وفي كل خطوة في "التوافه"، فيما يدعى بتوافه تفاصيل الحق الانتخابي، وفي طريقة عمل المؤسسات التمثيلية، وفي العقبات الفعلية القائمة في وجه حق الاجتماع، وفي التنظيم البورجوازي الصرف للصحافة اليومية، نرى الديمقراطية مغلولة بقيد فوق قيد. وهذه القيود: الحذف، الاستثناء، العقبات في وجه الفقراء، تبدوا توافه، لا سيما في نظر من لم يعرف بنفسه العوز قط، ولم يعرف عن كثب حياة جماهير الطبقات المظلومة. هذه القيود بمجملها تدفع الفقراء بعيداً عن السياسة، عن الاشتراك النشيط في الحياة الديمقراطية.
قال ماركس في تحليله لخبرة "كمونة باريس"، مبيناً فحوى الديمقراطية الرأسمالية البورجوازية: "يُسمح للمظلومين مرة في كل عدة سنوات بأن يقرروا مَن مِن ممثلي الطبقة الظالمة سيمثلهم في البرلمان ويسحقهم". هذه الديمقراطية الخادعة الضيقة التي تبعد الفقراء خلسة عن الحياة السياسية النشطة، لن تقود إلى الشيوعية واضمحلال الدولة بشكل آلي مهما اجتهد الانتهازيون والبورجوازيون الصغار. لهذا لا بد من تحويل الديمقراطية البورجوازية، وتحطيم آلة الدولة الخاصة بها، واستبدالها عبر ثورة اشتراكية بتنظيم الطبقة المظلومة في طبقة سائدة لقمع الظالمين. فديكتاتورية البروليتاريا، إلى جانب التوسيع الهائل للديمقراطية، التي تصبح لأول مرة ديمقراطية للفقراء، ديمقراطية للشعب، لا ديمقراطية للأغنياء، تفرض في الوقت نفسه جملة من التقييدات على الحرية تجاه المستثمرين الظالمين الرأسماليين. وينبغي تحطيم مقاومتهم بالقوة. البروليتاريا بحاجة إلى الدولة، لا من أجل الديمقراطية للفقراء والمهمشين والمظلومين من كل لون، بل من أجل قمع خصومها وشل مقاومتهم. أما الحديث عن الحرية فلا يكون إلا مع اضمحلال الدولة.
ديمقراطية من أجل الأكثرية الكبرى من الشعب، وقمع بالقوة لظالمي الشعب، هذا هو التغير الذي يطرأ على الديمقراطية أثناء الانتقال من الرأسمالية البورجوازية إلى الشيوعية.
يركز منظرو الاشتراكية العلمية أثناء نقاشهم لمسألة التحول الذي يطرأ على "الديمقراطية" في فترة الانتقال على قمع خصوم البروليتاريا الاشتراكية، أي قمع وتحطيم مقاومة البورجوازية، أكثر من تركيزهم على تنظيم الحياة الديمقراطية كهدف بحد ذاته. وقد أظهرت التجربة التاريخية بعد انتصار الثورة الروسية الاشتراكية وكذلك الثورة الصينية والكوبية، أن الجانب الغالب كان محاولات دائمة للتغلب ليس على مقامة البورجوازية المحلية، بل الدفاع ومقاومة الهجوم الامبريالي المستمر، والذي لا يكل لتحطيم دولة الثورة الاشتراكية وتغيير نظامها بكافة الوسائل: من الحصار الاقتصادي، إلى الاغتيالات، إلى الغزو المباشر، إلى الحرب الباردة، إلى التشهير بقيادات هذه البلدان عبر الاعلام العالمي المملوك للدوائر الامبريالية.
بعد هذا المشهد الصراعي في أعلى منسوب له، لن ندهش من عبارة انجلس في رسالته إلى بيبل، التي يبدو أنها لا مبالية بتنظيم الحياة الديمقراطية في فترة الانتقال من الرأسمالية البورجوازية إلى الشيوعية والتي مفادها: "فما ظلت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة لا من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها، وعندما يصبح بالإمكان الحديث عن الحرية، عندئذٍ تزول الدولة" 119 فقط عندما ينعدم التباين بين أعضاء المجتمع من حيث علاقتهم بوسائل الإنتاج الاجتماعية، عندئذٍ تزول الدولة (تضمحل) ويصبح بالإمكان الحديث عن الحرية". وعندما تتحقق الديمقراطية الكاملة، الديمقراطية الخالية من كل قيد، تبدأ هي ذاتها بالاضمحلال كديمقراطية (كدولة)، وتتكرس بقوة التربية الجديدة والعادات الجديدة للسكان الذين يعتادون العيش بدون هذا الجهاز المعد خصيصاً للقسر والاكراه والمسمى بالدولة.
إن الطابع الانتقالي لدولة "فترة الانتقال"، أي رأسمالية الدولة الاشتراكية، يجب ألا يحجب الحاجة الضرورية لتنظيم الحياة الديمقراطية في فترة الانتقال، حتى يتم تجنب تشوه الديمقراطية الجديدة، وحتى تكون كلفة قمع الخصوم البورجوازيين في حدودها الدنيا، لأنه من البديهي انه كلما كان الشعب ينعم بديمقراطيته التي اكتسبها بفعل الثورة الاشتراكية، كلما كان قمع الخصوم أسهل وأقل كلفة بالمعنى الاجتماعي. إن الشعب المتمتع بديمقراطيته حقاً يستطيع قمع المستثمِرين حتى بجهاز دولة (آلة) بمنتهى البساطة، ويمكنه أن يفعل ذلك بدون آلة، بدون جهاز خاص، بمجرد تنظيم الجماهير المسلحة (على غرار سوفييتات العمال والجنود).
إن ماركس، ودون أن ينساق مع الخيال، وبناء على وجود مرحلة انتقال بين الرأسمالية البورجوازية والشيوعية، قد ميز بين طورين، ونعني الفرق بين الطور الأدنى والطور الأعلى من المجتمع الشيوعي.
الطور الأول للمجتمع الشيوعي
هو مجتمع شيوعي لا كما تطور على أسسه الخاصة، بل بالعكس كما يخرج لتوه من المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع ما يزال يحمل من جميع النواحي، الاقتصادية والأخلاقية والفكرية، يحمل سمات المجتمع القديم الذي خرج من أحشائه.
العامل في هذا الطور "الانتقالي" نحو المجتمع الشيوعي العالمي التام النمو، لا يأخذ كامل نتاج عمله، خاصة وأنه توجد خلال هذا الطور دولة اشتراكية تأخذ جزء من نتاج عمل العمال تصرف على مسائل عامة وعلى "جهاز الدولة الإداري والعسكري"، أي لا بد "أن تطرح من كامل ناتج قوة العمل الاجتماعية مخصصات احتياط، ومخصصات لتوسيع الإنتاج، ولاستبدال الماكينات المستهلكة، ومخصصات للإنفاق على جهاز الإدارة والمدارس والمستشفيات، وملاجئ العجزة ودور الأطفال، وتحسين الخدمات العامة من حدائق ووسائل نقل وغيرها."
"هذا المجتمع الشيوعي المنبثق لتوه من أحشاء الرأسمالية والذي يحمل من جميع النواحي طابع المجتمع القديم يسميه ماركس ب "الطور الأول " أو الأسفل من المجتمع الشيوعي"123
في هذا المجتمع لا تبقى وسائل الإنتاج ملكية خاصة، بل تغدو ملك المجتمع كله. وقد ظهرت هذه الملكية في الأقطار التي انتصرت فيها ثورة اشتراكية على شكل ملكية دولة اشتراكية. وبعد طرح كمية العمل التي توجه للمخصصات العامة، يأخذ العامل ما تبقى من حصته على شكل سلع أو نقود. وباعتبار أن مقاومة البورجوازية الامبريالية تشتد في هذه الفترات الانتقالية وتأخذ طابعاً هجومياً وعدوانياً، فإن كمية كبيرة من ناتج قوة العمل الاجتماعية أو من فائض الإنتاج تخصص للدفاع عن بلد الاشتراكية المعزول أحياناً. هذا ما حصل بعد الثورة الاشتراكية في روسيا 1917. وهنا بمقدار ما يعطي العامل مجهوداً أكبر يأخذ حصة أكبر. ما نزال هنا أمام توزيع متناسب مع جهد العامل واجتهاده الإضافي. "ما يزال الحق هنا حقاً بورجوازياً، يفترض ككل حق، "عدم المساواة". إن كل حق هو تطبيق مقياس واحد على أناس مختلفين ليسوا في الواقع متشابهين ولا متساوين، ولذا فإن الحق المتساوي هو إخلال بالمساواة وهو غبن. "
ويستنتج ماركس: "لقاء العمل المتساوي، لقاء الاسهام المتساوي في الصندوق الاجتماعي للاستهلاك يتلقى أحدهم بالفعل أكثر من الآخر ويغدو أحدهم أغنى من الآخر. ولاجتثاث جميع هذه المصاعب لا ينبغي ان يكون الحق متساوياً، بل ينبغي ان يكون غير متساو" 125 الطور الأول يقضي على إمكانية استثمار إنسان لأخر عبر إلغاء التملك الخاص لوسائل الإنتاج الاجتماعية. لكن الفروق في الثروة والرفاه تبقى قائمة ومجحفة. لقد أظهر تطور المجتمع الشيوعي في طوره الأول امر القضاء على ذلك الغبن "الاول" الذي يتلخص في تملك أفراد خاصين لوسائل الإنتاج، بينما لا يستطيع القضاء على "الغبن" الثاني الذي يتلخص بتوزيع مواد الاستهلاك (حسب كمية العمل لا حسب الحاجة). في الطور الأول يتم القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي البورجوازي، مع الإبقاء على شكل التوزيع البورجوازي غير المتساوي لمواد الاستهلاك والخدمات والرفاه. وعلى هذا الأساس يقول ماركس: "فالحق لا يمكن أبداً أن يكون في مستوى أعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة التمدن الاجتماعي التي تناسب هذا النظام" 126 بهذا المقدار تُسقط الاشتراكية في طورها الأدنى حق التملك البورجوازي الخاص لوسائل الإنتاج الاجتماعية، ولكنها تبقى على "الحق البورجوازي" في توزيع مواد الاستهلاك والرفاه. هذا النقص في التطور الشيوعي لا بد منه في الطور الأول. فبعد اسقاط الرأسمالية على الفور لا يتعلم الناس مباشرة العمل للمجتمع بدون أحكام قانونية، ناهيك بأن الغاء الرأسمالية فوراً لا يعطي ممهدات اقتصادية لمثل هذا التغير. 127 طالما أنه لا وجود لحق غير "الحق البورجوازي" لذا تبقى الحاجة إلى دولة اشتراكية تصون الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وبذلك تصون العمل وتصون تساوي توزيع المنتجات حسب اختلاف الأشخاص.
الدولة لا تنحل وتضمحل في هذا الطور بعد بصورة تامة، لأنها تبقى على صيانة وحراسة "الحق البورجوازي" في التوزيع الذي يكرس اللامساواة الفعلية. ولاضمحلال الدولة الكامل يتطلب الامر الشيوعية الكاملة أو الطور الأعلى للشيوعية.
يكتب ماركس: "في الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد أن يزول خضوع الافراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي، وحين يصبح العمل لا وسيلة العيش فحسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضاً، وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الافراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة الجماعية بفيض وغزارة، حينذاك فقط، يصبح بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحق البورجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بإمكان المجتمع أن يسجل على رايته: "من كل حسب كفاءته، ولكل حسب حاجته"" 128
تستحيل إزالة اللامساواة الاجتماعية استحالة تامة بمجرد تحويل وسائل الإنتاج ملكية اجتماعية، بمجرد مصادرة أملاك الرأسماليين. لكن هذه المصادرة ستفسح المجال لتطور القوى المنتجة تطوراً هائلاً. وإذ نرى إلى أي حد لا يُصدّق، تعيق الرأسمالية البورجوازية هذا التطور، وإلى أي حد كبير يمكن دفع التطور إلى الامام على الأساس الذي بلغه التكنيك الحديث اليوم، يحق لنا موقنين كل اليقين أن مصادرة أملاك الرأسماليين تسفر لا محالة عن تطور قوى المجتمع البشري المنتجة تطوراً هائلاً. " لكن ما لا نعرفه هو سرعة هذا التطور، وسرعة الانتقال من الطور الأول الأدنى إلى الطور الأعلى. في الطور الأعلى نفترض إنتاجية عمل غير الإنتاجية الحالية، وإنسان غير الانسان البورجوازي الحالي "الذي يبدد لوجه الشيطان الثروات العامة ويطلب المستحيل"
في الطور الأدنى من الشيوعية، في طور الاشتراكية يطالب الاشتراكيون برقابة صارمة جداً من جانب المجتمع ومن جانب الدولة على مقياس العمل ومقياس الاستهلاك، بالطبع يجب أن تبدأ هذه المراقبة من مصادرة أملاك الرأسماليين، ومن رقابة لجان العمال على الرأسماليين وقمع مقاومتهم بواسطة الدولة الاشتراكية، والاهم من ذلك أن تمارس رقابة العمال على دولة الموظفين، على الجهاز البيروقراطي الاشتراكي، مع تشريع واضح للشفافية والمراقبة والمحاسبة. هذا يفترض دولة عمال مسلحين، دولة ديمقراطية حقاً تمارس فيها لجان العمال الرقابة على الإنتاج وعلى الدولة الاشتراكية وعلى قمع فلول الرأسماليين.
لقد قدمت تجربة البيروقراطية السوفياتية المستبدة التوتاليتارية صورة قاسية ومشوهة عن ديكتاتورية البروليتاريا، وولدت نفوراً تاريخياً ستمتد آثاره إلى وقت، ومع ذلك قدمت تجربة الدولة الاشتراكية في الصين أو ما أسميه (رأسمالية الدولة الاشتراكية) تجربة تدعو للتأمل والتفاؤل سواء على مستوى تطور القوى المنتجة أم على مستوى قمع الميول البيروقراطية وجيوب الفساد في بيروقراطية الدولة. وقد أثبتت التجربة الصينية صحة مقولة لينين عن "المباراة الاقتصادية" وعن تفوق (رأسمالية الدولة الاشتراكية) في فترة الانتقال على (رأسمالية الدولة الامبريالية).
الامر الجوهري في الطور الشيوعي الأول هو مصادرة أملاك الرأسماليين وتحويل جميع المواطنين إلى شغيلة و "مستخدمين" في نقابة كبيرة واحدة، وإخضاع كامل عمل هذه النقابة لدولة ديمقراطية حقاً، تتم مراقبتها بشكل راجع من لجان العمال، مع مراقبة عملية الإنتاج أيضاً. هذه الدولة هي دولة نواب العمال والفلا حين الفقراء والجنود. إن التشويش على الاشتراكية أو الطور الأول من الشيوعية بحجة الحديث عن الطور الأعلى هو ضرب من الفوضوية وإرباك البروليتاريا الاشتراكية والهائها عن تنفذ مهام هذه المرحلة التأسيسية. إن الاشتراكية الشيوعية هي أولى درجات هذه الأخيرة، وهو ما تم تحليله اقتصادياً أو ما يمكن تسميته درجات نضج الشيوعية اقتصادياً.
من هنا الظاهرة التي تستوقف النظر وتحمل في كيانها تناقضاً ملفتاً: في الطور الأول من الشيوعية يبقى "الأفق الضيق للحق البورجوازي" حيال توزيع منتوجات الاستهلاك، وهذا يتطلب حتماً "دولة بورجوازية"، لأن الحق لا يعني شيئاً بدون جهاز يستطيع القسر والاكراه على مراعاة أحكام الحق. وهذه الدولة البورجوازية هي عينها "رأسمالية الدولة الاشتراكية" في فترة الانتقال من الرأسمالية البورجوازية إلى الطور الشيوعي الأعلى مروراً بالرأسمالية الاشتراكية أو ملكية الدولة الاشتراكية. ونكون هكذا أمام وحدة متناقضات جديدة تقول بوجود "دولة بورجوازية" من وجود طبقة بورجوازية. ولو قيض لهيراقليطس أن يولد في زمننا الحالي لكانت غبطته لا توصف باكتشافه العظيم للديالكتيك و"وحدة الاضداد". إنها بقايا القديم في الجديد الذي درسه ماركس اقتصادياً وسياسياً. وليست ألعاب ذهنية من شطح الخيال.
على هذا الأساس تكون للديمقراطية أهمية كبرى، ليست فقط في فترة الانتقال من الاقطاعية إلى الرأسمالية، ولكن أيضاً وبشكل مضاعف، في فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، أي في طور الاشتراكية (الطور الأول من الشيوعية). لقد عانت الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي من غياب هذه الديمقراطية، ومن مرض الاستبداد البيروقراطي لدوواينية الدولة العمالية المشوهة بيروقراطياً. وكان هذا الغياب، إضافة إلى عزلة الثورة الروسية والتحدي الخارجي الامبريالي الهائل في أساس تفكك الدولة السوفياتية بداية العقد الأخير من القرن العشرين. لقد بدأ انهيار الديمقراطية السوفياتية اعتباراً من أواخر العشرينيات من القرن العشرين والذي تزامن مع التجميع الفلاحي القسري وإعلان الحرب تجاه طبقة الفلاحين الروس. يجد القارئ المهتم دراسة وافية ورصينة للتجربة السوفياتية في خمسين عام في كتاب "اسحق دويتشر" الهام: "الثورة غير المنتهية" أو الثورة التي لم تتم. وقد أجرينا عرضاً موسعاً للكتاب، يجده القارئ في موقع "الحوار المتمدن". صحيح أن الديمقراطية كما رأينا في الرأسمالية، وفي الطور الأول من الشيوعية، لا تعني سوى المساواة الشكلية، لكنها غاية في الأهمية في الطور الأول من الشيوعية، خاصة بعد نزع ملكية الرأسماليين لصالح عموم المجتمع، تغدو الديمقراطية هنا العتلة التي تُسرّع الانتقال إلى الطور الأعلى للشيوعية، وإشراف المنتجين المباشر على عملية الإنتاج وعلى المجتمع الذي يوحدهم.
الديمقراطية هي شكل للدولة، نوع من أنواعها. ولذا فهي ككل دولة تلجأ إلى استخدام العنف تجاه السكان بصورة منظمة ودائمة. هذا من جهة ومن الجهة الأخرى تعني الاعتراف الشكلي بالمساواة بين المواطنين، وحقهم المتساوي في المشاركة السياسية، وهذه المشاركة السياسية تأخذ طابعاً كيفياً مختلفاً، بعد نزع ملكية الرأسماليين لوسائل الإنتاج وتحويلها إلى ملكية عامة (ملكية دولة اشتراكية)، على هذا الأساس يفترض بالديمقراطية في الطور الأدنى للشيوعية (الاشتراكية) أن تتفوق على أوسع ديمقراطية في أفضل جمهورية ديمقراطية بورجوازية. وهذا يتوقف على شروط المواجهات التاريخية الفعلية بين (الاشتراكية القطرية) وبين النظام الامبريالي العالمي الذي ما يزال يشكل تهديدا حقيقياً لأي تجربة انتقال نحو الشيوعية.
وأنقل كلام لينين: "فإذا ما اشترك الجميع حقاً في إدارة الدولة الاشتراكية تصبح الرأسمالية عاجزة عن الصمود" وعن مهاجمة وتدمير تجارب الانتقال القطرية. أما انتصار الثورة الاشتراكية في بلد رأسمالي متطور، فإنه يسهل مهمة مشاركة العمال في إدارة الدولة الاشتراكية، لأن الرأسمالية المتطورة تكون قد طورت الممهدات لكيما يستطيع الجميع حقاً، الاشتراك في إدارة الدولة. وعند وجود مثل هذه الممهدات الاقتصادية والثقافية (التعليم العام) "يمكن الانتقال، بعد اسقاط الرأسماليين وموظفيهم ودولتهم، الانتقال إلى الاستعاضة عنهم حالاً بالعمال المسلحين والشعب المسلح لمراقبة الإنتاج والتوزيع، والاشراف على محاسبة العمل والإنتاج. " يقول لينين: لا يجوز الخلط بين مسألة الرقابة والمحاسبة، ومسألة الملاكات ذات الثقافة العلمية (التقنيين) من مهندسين وخبراء زراعيين وغيرهم: هؤلاء السادة يعملون اليوم خاضعين للرأسماليين، وسيعملون غداً بشكل أفضل خاضعين لسلطة العمال المسلحين بقوة الدولة الاشتراكية.