مدخل نقدي إلى كتاب انجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية-القسم الثالث


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8020 - 2024 / 6 / 26 - 20:11
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

4-ماركس
يكتب انجلز في بداية هذه القسم الخاص بماركس: "لقد كان شتراوس وبوير وشتيرنر وفيورباخ فروع الفلسفة الهيغلية بقدر ما لم يبارحوا الميدان الفلسفي. فشتراوس، بعد كتابيه "حياة يسوع" Life of Jesus و"العقائد" Dogmatics انصرف إلى الادب التاريخي الكنسي والفلسفي على طريقة رينان. أما بوير، فإنه لم يكتب شيئاً مهماً (إلا بوصفه عالم لاهوت) إلا في ميدان تاريخ المسيحية. وشترنر ظل حدثاً طريفاً بسيطاً حتى بعد أن خلطه باكونين ببرودون وعمّد هذا الخلط باسم "الفوضويّة" “anarchism”، وهي اللاسلطوية أو الأناركيزم. ‏ هو مصطلح مستمد من أناركيسموس (من اليونانية: ἀν بدونἄρχειν + : يحكم) [الاركين والاراكنة هم الحكّام ]
إن فيورباخ وحده كان فيلسوفاً مرموقاً."
يتابع انجلز القول: "ولكن فيورباخ لم يستطع تخطي نطاق الفلسفة (الوضعية، فلسفة العلم) التي ادعت أنها علم العلوم وأنها تحوم فوق جميع العلوم وتجمع بينها في كل واحد، لأن هذه الفلسفة ظلت في عينيه شيئاً مقدساً لا يمس. ليس هذا وحسب، بل وقف فيورباخ أيضاً بوصفه فيلسوفاً في منتصف الطريق، إذ كان مادياً من تحت ومثالياً من فوق (كانت أعضاؤه التناسلية مادية ورأسه مثالياً). وهو لم يتغلب على هيغل بسلاح النقد، بل طرحه جانباً كشيء غير صالح للاستعمال، في حين هو نفسه لم يستطع أن يجابه ثروة المنهج الهيغلي الموسوعية بشيء إيجابي غير دين منتفخ هو دين الحب وأخلاق هزيلة عاجزة"
مع انحلال المدرسة الهيغلية في العقد السابق لثورة 1848، نشأ اتجاه آخر أيضاً، هو الوحيد الذي أوتي أُكله. وهذا الاتجاه مرتبط بصورة رئيسية باسم ماركس.
يعلق انجلز على كلامه في الهامش: "أجيز لنفسي هنا إيضاحاً واحداً (1886). لقد أشاروا حديثاً غير مرة، إلى اسهامي في وضع هذه النظرية (الماركسية). ولهذا أراني مضطراً هنا لقول بضع كلمات لتوضيح هذه المسألة. أنا لا أستطيع أن أنكر أنني اشتركت بصورة مستقلة إلى حد ما، قبل وأثناء تعاوني خلال أربعين سنة مع ماركس، سواء في تثبيت النظرية التي نتكلم عنها أم في وضعها على الأخص. ولكن الجزء الأكبر من الأفكار الأساسية الموجِّهة، وخاصة في الميدان الاقتصادي والتاريخي، ولا سيما فيما يتعلق بصياغتها الواضحة النهائية، إنما هي جميعها ترجع إلى ماركس. إن ماركس كان أعلى منا جميعاً، وكان يرى أبعد وأوسع وأسرع منا جميعاً. ولولاه لكانت نظريتنا بعيدة جداً عما هي عليه اليوم. ولهذا، فإنها تحمل بجدارة اسمه (النظرية الماركسيّة)"
لم يطرح ماركس هيغل ببساطة (كما فعل فيورباخ) بل أخذ الجانب الثوري من فلسفته؛ أي الطريقة الديالكتيكية نقطة انطلاق."
لقد لاحظنا أن ورثة هيغل راحوا يضربون في أرض العلم بعيداً عن الفلسفة، وانقسم انشغالهم ما بين علم اللاهوت (شتراوس، بوير) والسياسة والاقتصاد الفوضوية الطابع (شترنر)، ومحاولة تحسين أداء الدين بتحويله إلى عاطفة الرجل تجاه المرأة التي يحب (عبادة المرأة). وحلّ الفلسفة داخله. أما ماركس فقد استخدم الطريقة الهيغلية الديالكتيكية بعد إعادة توجيهها بشكل جذري (لأن الطريقة بشكلها الهيغلي غير صالحة) في سبيل انجاز دراساته وأبحاثه المجيدة في الاقتصاد السياسي ونقده (رأس المال) وليكتشف التنظيم الاقتصادي للمجتمع الحديث البورجوازي. هذا المسار أوحى بنهاية الفلسفة من حيث أن فلسفة هيغل هي الصياغة الفلسفية الأعلى لحداثة البورجوازية الصاعدة. ومع بداية انحطاط البورجوازية بعد ثورة 1848 وفترة الارهاص في العقد السابق لها (1838-1848) بدأت فلسفة الحداثة الرئيسية (الهيغلية) بالانحلال والتفكك.
ما يزال انجلز في نقده للفكرة المطلقة عند هيغل يشيد بنظرية الانعكاس "المادية" دون أن يعيد صياغتها وفق موضوعة ماركس الأولى عن فيورباخ. أي دون أن يأخذ في حسابه أهمية "النظرية الثورية" في المبادهة التاريخية للحزب السياسي الحديث وتنظيم تحرك الطبقة وتحالفاتها نحو الانتصار الثوري. أي فاعلية النظرية الثورية الصحيحة والتي تتحول قوة مادية في حال تم اعتناقها من قبل الكتلة التاريخية الفاعلة. إن الانعكاس لحظة مهمة في بناء العلم التاريخي بالعالم القائم. لكنها غير كافية من وجهة نظر المادية التاريخية المناضلة الثورية. عندما تتشرب الجماهير المناضلة النظرية الثورية وتؤمن بها تتحول النظرية إلى قوة مادية للتحويل التاريخي وبناء المجتمع الجديد. ويصح هنا قول القرآن: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) [الرعد: 11]
إن إعادة التوجيه الماركسية لمقولات الديالكتيك الهيغلي قد أخرجتها من الشكل المثالي الصوفي، بالتالي جرى تحويلها من فلسفة تبني نسقها الفلسفي تحت فلك الفكرة المطلقة إلى طريقة في البحث عن حقيقة المجتمع الحديث البورجوازي، في تنظيمه الاقتصادي. أي لقد قاد عمل ماركس بإعادة التوجيه هذه إلى تحويل الفلسفة الهيغلية من سيد نفسه إلى عبد غيره، أي من نسق system إلى طريقة method. بهذا الشكل انقلب ديالكتيك هيغل، أو على الاصح أوقف على رجليه من جديد لأنه فيما مضى كان يقف على رأسه". ولكون الهيغلية لا تعرف الجانب العملي والممارسة التاريخية العملية فقد دمجت الجانب العملي بالجانب النظري بشكل نظراني وهو فحوى كلام ماركس في مقدمة الرأسمال: "أن الديالكتيك قد عانى على يد هيغل من الصوفية" (رأس المال 1 ص 38). وعلى هذا الأساس تكون دراسة تاريخ الفلسفة وتاريخ الديالكتيك جزءاً أساسياً من إعداد الكادر الرئيسي في الحزب الاشتراكي الماركسي الثوري. إن دمج العلم بالعمل بشكل نظراني نراه في الفكر الصوفي الإسلامي. يكتب يوسف زيدان: "كان تطواف نجم الدين كُوبرى في أول الامر لطلب علوم الدين، أما ارتحاله بعد ذلك، فكان لطلب رب العالمين. لقد استكمل الشيخ معارفه الدينية، وأراد أن يعرج إلى المرحلة التديّنية، ويقرن العلم بالعمل. باختصار أراد أن يتصوّف" (فوائح الجمال وفواتح الجلال ص 22) ويمكن مقارنة هذا التطواف والارتحال بتطواف وارتحال أبي حامد الغزّالي (450-505 هـ)، وانتقاله من طلب علوم الدين إلى طلب رب العالمين في سعيه للتصوف في القسم الأخير من حياته.
رويَ في الاخبار: أن جبريل لما نزل بقوله تعالى: (كهيعص) [مريم: 1]، فلما قال: (ك)، قال النبي علمت، فقال: (هـ)، فقال: علمت، فقال: (ي)، فقال: علمت، فقال: (ع)، فقال: علمت، فقال: (ص)، فقال: علمتُ، فقال جبريل: كيف علمت ما لم أعلم!" (التأويل النجمي، الجزء الأول ص 103) "ويحمل أن يكون (آلم) وسائر الحروف المُقطّعة من قبيل المواضعات المُعمّيات بالحروف بين المُحبّين لا يطلع عليها غيرهم، وقد وضعها الله مع نبيه في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره" (التأويل النجمي، الجزء الأول ص 103)
يذكر تروتسكي في "تاريخ الثورة الروسية" أن الشيفرة في الحزب البلشفي قبل الثورة كان يضعها لينين ومعه زوجته كروبسكايا ورفيق ثالث تبين أنه كان من عملاء القيصر السريين بعد الاطلاع على الأوراق السرية "لقصر الشتاء" على أثر انتصار الثورة الاشتراكية البلشفية في روسيا 1917.
وقد قلنا من قبل أن النبي هو السيد على الوحي، أو الرجل الحكيم الذي يهيمن على الوحي ويحكمه. كما ماركس يهيمن على الطريقة الديالكتيكية الهيغليّءة ويحكمها.
من الملفت أن يكون القسم الرابع المخصص لدراسة الماركسية محتشداً بالطبيعة وعلومها، وأن تكون الاستشهادات على صوابية الماركسية آتية من علوم الطبيعة في نسبتها الغالبة. ربما كان هذا تتمة من انجلز لعمل ماركس في "الأيديولوجية الالمانية"، حيث يقول ماركس: "إننا نعرف علماُ واحداً فقط هو علم التاريخ، ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من طرفين وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر. وعلى كل حال فالطرفان غير منفصلين: فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما بعضاً ما وجد البشر. وإن تاريخ الطبيعة، المسمى العلوم الطبيعية لا يعنينا هنا"
يكتب انجلز: "إن الطريقة القديمة في البحث والتفكير التي يسميها هيغل "ميتافيزيائية" والتي قامت بدراسة الأشياء المعتبرة جاهزة منتهية ثابتة والتي ما زالت بقاياها راسخة في العقول بثبات، قد كان لها في زمانها تبرير تاريخي كبير. فقد كان يترتب بحث الأشياء قبل ما كان في المستطاع البدء ببحث التفاعلات. يجب أولا معرفة ماهية هذا الشيء المعني أو ذاك لكي تمكن دراسة التعديلات التي تطرأ عليه. هكذا تماماً حدث في العلوم الطبيعية "
إن الميتافيزياء القديمة التي كانت تعتبر الأشياء منتهية التكوين، نمت من علم الطبيعة الذي كان يدرس أشياء الطبيعة الحية والميتة بوصفها أشياء منتهية التكوين. لكن حينما تقدمت هذه الدراسة للأشياء المنفردة إلى درجة غدا من الممكن معها القيام بخطوة حاسمة إلى أمام، أي البدء في دراسة التعديلات الحاصلة في هذه الأشياء في الطبيعة ذاتها دراسة منهجية، حين ذاك دق في الميدان الفلسفي أيضاً، ناقوس نعي الميتافيزياء القديمة"
هذا الاستحضار لعلم الطبيعة وتطوره بهذه الصيغة في نقاش القسم الخاص بماركس، يمكن أن يولِّد الوهم بأن تطور العلوم الطبيعة كان في أساس صعود البورجوازية التاريخي، بحيث يغدو التاريخ وعلومه ملحقاً وتتمة للطبيعة وعلومها. وهذا الوهم يمكن أن نراه في بعض الدراسات السوسيولوجية (الاجتماعية) التي توحي بأن الإصلاح الديني البروتستانتي كان في أصل صعود البورجوازية، مع أن وجهة نظر المادية التاريخية أو الفهم المادي للتاريخ تقول العكس: أن الإصلاح الديني وعصر النهضة الأوروبي واكتشاف العالم الجديد شكلت علامات ثلاث لبداية صعود البورجوازية الحديثة في أوروبا اعتباراً من أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر. كذلك الامر بالنسبة لتطور علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهو ما يثبته انجلز بقوله: "كان علم الطبيعة حتى نهاية القرن الماضي (الثامن عشر)، بصورة رئيسية، علم التراكم، علم الأشياء المنتهية التكوين، أما الان فقد أصبح في قرننا (التاسع عشر) من حيث الأساس، علم التصنيف، علم التفاعلات، علم يتناول أصل وتطور هذه الأشياء والصلة التي تجمع تفاعلات الطبيعة هذه في كل واحد كبير"
ونحن نعلم أن ثورة البورجوازية الاجتماعية السياسية الأكثر جذرية حدثت (أواخر القرن الثامن عشر) سنة 1789 في فرنسا (الثورة الفرنسية).
إن إنجلز يتصرف في هذا الكتاب وكأنه ينفذ وصية فيورباخ في أن تكون الفلسفة الجديدة ما بعد الهيغلية هي تعميم لنتائج العلوم والربط بينها.
يكتب انجلز: ثلاثة اكتشافات كبرى على الأخص دفعت إلى أمام بخطى كبيرة معرفة ترابط التفاعلات التي تحدث في الطبيعة: أولاً، اكتشاف الخلية، وثانياً، اكتشاف تحول الطاقة، وأخيراً وثالثاً، البرهان المنطقي الذي تقدم به داروين لأول مرة والقائل بأن جميع الاجناس الحية التي تحيط بنا حالياً، بما فيها الانسان، قد ظهرت نتيجة لحركة طويلة من تطور عدد صغير من الاجنّة الوحيدة الخلية في الأصل. وأن هذه الاجنّة نشأت بدورها من البروتوبلازما أو الألبومين (البروتين) from protoplasm´-or-albumen والتي جاءت إلى الوجود الفعلي بوسائل كيميائية.
بفضل هذه الاكتشافات الثلاثة الكبرى، وبفضل نجاحات العلوم الطبيعية الكبرى الأخرى، نستطيع اليوم ان نبين الصلة القائمة بين تفاعلات الطبيعة في مختلف ميادينها، وليس هذا وحسب، بل نستطيع أن نبين، بوجه عام، الصلة التي تجمع هذه الميادين المختلفة. واليوم، إذ يكفي لنا ان ننظر إلى نتائج دراسة الطبيعة نظرة ديالكتيكية، أي وجهة نظر العلاقة الخاصة بين هذه النتائج، لكي نضع "منهج الطبيعة" بشكل يستجيب لعصرنا، وإذ ينفذ إدراك الصفة الديالكتيكية لهذه العلاقة حتى إلى رؤوس الطبيعيين المروّضة بالطريقة الميتافيزيقية رغم إرادتهم – اليوم آنت نهاية فلسفة الطبيعة."
أصبح لدينا الان بعد هذا الاستعراض، طريقة ديالكتيكية مقابل طريقة ميتافيزيقية، ونسق أو شكل مثالي مقابل نسق أو شكل مادي (ماديّة تاريخية).
وبعد أن يضع انجلز "منهج الطبيعة" الديالكتيكي يأتي دور تطبيقه على علوم التاريخ والمجتمع والقضايا الإنسانية واللاهوتية في حركة معاكسة لجهد ماركس الذي اعتبر علم التاريخ هو العلم الوحيد و"طبّقه" على تاريخ البشر وعلى تاريخ الطبيعة أو ما يسمى العلوم الطبيعية التي أسهب انجلز في ذكرها أعلاه. يكتب ماركس: "إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ، ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من طرفين وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر" (الأيديولوجية الألمانية، دار دمشق ص 22)
يقول انجلز: "ولكن ما هو مطبق على الطبيعة التي نفهمها الان كحركة تطور تاريخية، مطبق أيضاً على تاريخ المجتمع في جميع فروعه، وكذلك على جميع العلوم التي تبحث في القضايا الإنسانية (والإلهية)"
تنسى هذه النظرة المقلوبة إلى أن الطبيعة في جزء كبير منها هي من صنع الانسان وفعاليته التاريخية. (راجع الموضوعة الأولى لماركس حول فيورباخ)
مع ظهور "المادية التاريخية" حلت العلاقات الفعلية محل العلاقة التي اخترعها الفلاسفة، العلاقة الداخلية (الباطنية) التي يجب اكتشافها في الاحداث التاريخية.
يقول انجلز في تعليقه على فلسفة هيغل ونزعتها الغائية: "مكان العلاقة الحقيقية التي كانت غير معروفة بعد، قام على هذا النحو إله خفي جديد غير واع أو يبلغ الوعي شيئاً فشيئاً"
ويضيف: "كان ينبغي هنا (في علوم التاريخ والانسان والمجتمع)، كما في ميدان الطبيعة تماماً، اقصاء هذه العلاقات المخترعة والاصطناعية، من أجل اكتشاف العلاقات الفعلية."
ويضيف انجلز: في تاريخ المجتمع، فالأمر بالعكس (من تاريخ الطبيعة) ففي تاريخ المجتمع يفعل الناس الذين لهم موهبة الوعي، ويعملون بتفكير أو بتأثير عاطفة (أخوية دينية أو رفاقية ثورية) وينشدون أهدافاً معينة" ويضيف: "ومهما كانت خطورة هذا الاختلاف بالنسبة للبحث التاريخي-ولا سيما لبحث مختلف العصور والحوادث-فإن هذا الاختلاف لا يغير في شيء واقع أن سير التاريخ خاضع لقوانين داخلية عامة ". إن الصدفة تسود اجمالاً وعلى حد سواء في ميدان الظاهرات التاريخية أيضاً. ولكن حيث تلعب الصدفة على السطح، تخضع هذه الصدفة نفسها دائماً لقوانين داخلية، خفية (باطنية)، ولا تتقوم المهمة إلا في اكتشاف هذه القوانين"
بالطبع هذا الشكل من طرح المسألة يعاكس مطارحة ماركس عن فيورباخ، الموضوعة 11 التي تقول: "إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره" (موضوعات عن فيورباخ: 11). ولكن على القارئ أن يتنبه إلى أن ماركس قام بإنجاز عمل علمي تفسيري جبار في "رأس المال" بعد عقدين أو ثلاثة من موضوعته السابقة حول فيورباخ. ذلك لأن العمل من جنس العلم، أي علم بِذريّ عامل، فلا عمل بلا علم. أي "لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية" كما قال لينين.
بالطبع لا يفرّق انجلز هنا بخصوص الديانات التوحيدية التاريخية بين معرفة حقيقة الشرط وبين بناء الذات التاريخية الواعية (الحزب الثوري والكتلة التاريخية أو الأخوية الدينية والقبيلة القائدة) التي عليها معرفة حقيقة الشرط وتجاوز هذا الشرط وتغييره في نفس الوقت. وأن حقيقة الالوهة هي في هذه الذات التاريخية "الخالقة" للمجتمع الجديد، لكن يجري عليها في الفكر الديني تغريب، تغريب تجاه العوامّ ووعي لدى الخواصّ، خاصة النبي. كان النبي محمد يعلم علم اليقين أن واحدة من مهماته التاريخية هي بناء دولة جديدة للعرب يتجاوز بها نظام القبيلة السائد المكرّس لفرقة القبائل العربية في مواجهة الامبراطوريات القائمة وقتها. (راجع: قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية)
قلنا في رسالتنا "المعجزة بين الدين والفلسفة": " كل فاعلية لِموجود هي فاعلية مستعارة؛ هي فاعلية الشرط، فإذا افرطنا في الحرارة صعد الماء إلى اعلى وإذا افرطنا في البرودة نزل إلى أسفل. هكذا تظهر فاعلية "الذات التاريخية" وكأنها من فعل الشرط، لا من فعل البشر ذاتهم الصانعين للتاريخ المغيّرين للشرط. لهذا يظهر "آخر" كأنه هو الذي فعل فعلهم الذي قاموا به حقيقة وفعلاً. وأنهم لو انتبهوا واستيقظوا لتبينوا أنهم بفعلهم هذا قد حوّلوا الشرط الذي شرطهم من قبل وغيّروه. لكن الرجال، رجال الله الذين فعلوا كل ذلك عندما اقتربت أشراط الساعة وعلاماتها التاريخية، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن عرفوا الشرط وعلامات القيامة والخروج على الوضع المعوّج الفاسد. بهذه المعرفة الحق قاموا وبها رموا سهامهم وأصابوا على قول القرآن الكريم: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الانفال: 17]" (ثلاث رسائل ص 42)
"في انتاجهم الاجتماعي لحياتهم، يدخل البشر في علاقات محددة لا غنى عنها ومستقلة عن إرادتهم" (مدخل اسهام في نقد الاقتصاد السياسي؛ 1859). وتكون مقدمات "الفهم المادي للتاريخ" هم "أولئك الافراد الفعليون، نشاطهم وشروط انتاجهم المادية، سواء الشروط التي يجدونها قائمة، أم تلك الشروط التي يخلقونها بفعل نشاطهم بالذات" (الأيديولوجية الألمانية؛ دار الفارابي ص 32)
وعلينا هنا ذكر "مكر التاريخ" الذي يتلخص بالقول: إن المساعي العديدة المنفردة التي تفعل في التاريخ تؤول في أكثر الأحيان، إلى نتائج مختلفة عن تلك التي كانت منشودة. بل إنها تؤول في الغالب إلى نتائج مناقضة تماماً لما كان مقصوداً (خيراً تعمل، شراً تلقى!) بحيث أن هذه الحوافز تتسم بأهمية ثانوية بالنسبة للنتيجة النهائية. وهنا تظهر مسألة جديدة، هي مسألة القوى المُحرّكة التي تتستر بدورها وراء هذه الحوافز، والشكل الذي تأخذه هذه القوى في رؤوس الناس العاملين الفاعلين". وكلما عرفت الذوات العاملة الفاعلة تاريخياً هذه القوى المحرّكة وحددتها بدقة علمية كلما وصلت إلى تحقيق أهدافها وغاياتها التاريخية بدقة أكبر ونصر أعظم.
يقول انجلز: بالنسبة لنا نحن (الماركسيين) فينتج أن المادية القديمة تخون نفسها في ميدان التاريخ، إذ أنها تعتبر القوى الحافزة المثلى العاملة فيه الأسباب الأخيرة للأحداث، بدلاً أن تبحث فيما يكمن وراءها وما هي القوى الدافعة لهذه القوى الحافزة"
فماذا عن "مثالية" هيغل؟ يجيب انجلز بالقول: "بالعكس (من المادية القديمة) كانت فلسفة التاريخ وعلى الأخص في شخص هيغل، تعترف بأن حوافز شخصيات التاريخ، سواء منها الحوافز الظاهرية أم الحقيقية، ليست مطلقاً الأسباب الأخيرة للأحداث التاريخية، وبأن وراء هذه الحوافز تكمن قوى محركة أخرى ينبغي البحث عنها. ولكن فلسفة التاريخ لم تبحث عن هذه القوى في التاريخ نفسه " بل استعارتها من الخارج، من الأيديولوجية الفلسفية."
إن البحث عن القوى المحركة الحقيقية للتاريخ، يجب ألا تأخذ بالحسبان حوافز الافراد وحتى أشدهم بروزاً فحسب، بقدر أخذها الحوافز التي تحرك جماهير كبيرة من الناس، شعوباً بأسرها، وفي كل شعب، طبقات بأسرها. والمهم هنا أيضاً لا انفجارات قصيرة ولا ومضات آنية، بل حركات طويلة تستدعي تحولات تاريخية كبيرة."
يقول انجلز: كل ما يحرك الناس ينبغي أن يمر بالضرورة في رؤوسهم، ولكن الشكل الذي يأخذه في هذه الرؤوس يتعلق لدرجة كبيرة بالظروف".
إن عصرنا البورجوازي (الأزمنة الحديثة) قد بسط هذه العلاقات حتى أن حلّ اللغز أصبح ممكناً في آخر الامر. ومنذ قيام الصناعة الكبيرة، أي على الأقل منذ الصلح الأوروبي 1815، لم يكن خافياً على أحد في إنكلترا أن مركز الثقل في كامل النضال السياسي في هذه البلاد، كان السعي إلى السيطرة من جانب الطبقتين: الارستقراطية العقارية (ملاك الأرض النبلاء الاقطاعيين)، والبورجوازية أو الطبقة الوسطى (middle class) من جهة أخرى. ومنذ عام 1830 (توفي هيغل 1831) أعتُرف في إنكلترا وفرنسا بالطبقة العاملة البروليتاريا، مناضلة ثالثة من أجل السيطرة." حتى لقد بات بدهياً أن في صراع هذه الطبقات الثلاث الكبرى وفي تصادم مصالحها تكمن القوة المحركة لكل التاريخ الحديث. على الأقل في هذين البلدين"
يكتب انجلز: إن البورجوازية وكذلك البروليتاريا نشأتا بسبب التغير في العلاقات الاقتصادية، أو بعبارة أدق، بسبب التغيرات في أسلوب (نمط) الإنتاج." Mode of production
وهنا يجري التأكيد على التراكم الكمي وتطور المنشأة الاقتصادية البورجوازية نفسها كماً ونوعاً وانعكاس ذلك على سلطة البورجوازية السياسية ونفوذها الاقتصادي.
كان نظام الإنتاج الحرفي في المدن، ونظام المراتب الاقطاعية الوراثية المغلق يشكل عقبة أمام تطور "الطبقة الثالثة" البورجوازية.
يكتب انجلز: فالانتقال أولاُ من نظام الإنتاج الحرفي إلى المانيفاكتورة، ثم من المانيفاكتورة إلى الصناعة الكبيرة، إلى الإنتاج الآلي باستخدام البخار، هو الذي طوّر هاتين الطبقتين (البورجوازية والبروليتاريا).
إن انجلز لا يقيم هنا وزناً للفرق بين مفهوم نمط الإنتاج "أسلوب الانتاج" mode of production الاقتصادي التقني أو العلاقات الاقتصادية وطريقة الانتاج، من جهة وبين مفهوم نمط الإنتاج الاجتماعي Social production mode of من جهة أخرى، هذا الغياب يفسر هنا نتيجة تغلب النزعة الاقتصادية التقنية الوضعية، والتي هي نتيجة "طبيعية" لغلبة المادية العلمية الطبيعية على تفكير انجلز في هذا الكتاب.
وعلى أساس التفريق بين مفهوم "نمط الإنتاج" الاجتماعي، وأسلوب الإنتاج الاقتصادي وطرقه، يكون الانتقال من نظام الإنتاج order of production الحرفي ، حيث يشكل هذا الإنتاج الاقتصادي نمطاً انتاجياً اجتماعياً اقطاعياً، إلى المانيفاكتورة (والتي يخضع إنتاجها الاقتصادي إلى نمط جديد للإنتاج هو نمط الإنتاج الاجتماعي البورجوازي، حيث تحررت الملكية من علاقات الإنتاج الحرفي المغلق الاقطاعية الطابع)، انتقالاً اجتماعياً أساسه الانتقال والتحول من نمط انتاج أساسه التملك الاقطاعي لوسائل الإنتاج إلى نمط إنتاج جديد أساسه التملك البورجوازي الخاص لوسائل الإنتاج. أما التطورات اللاحقة التي طرأت على علاقات الإنتاج البورجوازي كعلاقات تقنية relations of production technical أو (الانتقال من المانيفاكتورة إلى الصناعة الكبيرة، من ثم الانتقال إلى الإنتاج الآلي باستخدام البخار) فهذا كلّه يجري ضمن نطاق نمط الإنتاج الاجتماعي البورجوازي وفي فضاء التملك البورجوازي الحديث، وهو تعزيز لسلطة النمط الجديد للإنتاج اقتصادياً وسياسياً. كما أنه يدخل في إطار تطور أساليب الإنتاج البورجوازية الطابع وتعزز قوى الإنتاج ونموها بشكل كبير.
إن استخدام مفهوم "أسلوب الإنتاج" أو "نمط الإنتاج" كعلاقات انتاج، دون التفريق بين العلاقات الاجتماعية من جهة والعلاقات الاقتصادية التقنية من جهة أخرى يخلق بلبلة في ضبط مفهوم نمط الإنتاج وفي تصنيف أنماط الإنتاج أيضاً. ولا يفيدنا كثيراً في التحليلات الاقتصادية السياسية للبلدان المتخلفة والتي بلداننا (نحن العرب) جزء منها.
لا يقيم انجلز هنا أهمية للتفريق بين ظهور طبقتي البورجوازية والبروليتاريا من جهة وبين درجة تطور كل منهما وتعاظم نفوذهما الاقتصادي والسياسي من جهة أخرى.
لذلك يكون من الطبيعي القول: إن الانتقال من المانيفاكتورة إلى الصناعة الكبيرة، وإلى الإنتاج الآلي باستخدام البخار، هو الذي طوّر هاتين الطبقتين. وفي درجة معينة من التطور، أصبحت القوى المنتجة الجديدة التي سيّرتها البورجوازية (أي الخاضعة للنمط الجديد) متنافية مع نظام الإنتاج القائم، الموروث تاريخياً والمقدس قانوناً أي أصبحت متنافية مع امتيازات النظام الحرفي للإنتاج (ومع الامتيازات العديدة الأخرى، الشخصية والمحلّية، التي تحتوي على العديد من القيود بالنسبة للفئات التي لا تتمتع بامتيازات)، الملازمة للنظام الاجتماعي الاقطاعي. Feudal order to society. إن استخدام (order) تشير هنا إلى السيطرة السياسية للطبقة (طبقة المراتب) الاقطاعية والتنظيم الحرفي المغلق.
أما في أسباب هذا التحول من النمط الاقطاعي للإنتاج إلى النمط البورجوازي يقول انجلز: "إذا كان من الممكن أن تعزى الملكية الكبرى للأرض، الملكية التي كانت اقطاعية فيما مضى، في المقام الأول على الأقل، إلى أسباب سياسية، إلى اغتصاب بالقوة، فإن هذا كان غير معقول بالنسبة للبورجوازية والبروليتاريا. كان واضحاً تمام الوضوح أن نشوء وتطور هاتين الطبقتين الكبيرتين قد حددتهما أسباب اقتصادية بحتة، أي أن البورجوازية حققت هيمنة نمطها الاجتماعي الاقتصادي أولاً وبعدها استولت على السلطة السياسية للدولة.
إن استخدام مفهوم "أسلوب الانتاج" (mode of production) دون إقامة التمييز السابق يخلق إرباكاً في التصنيف، تصنيف أنماط الإنتاج التاريخية أو أشكال علاقات الإنتاج الاجتماعية (الاسيوي، القديم أو الجرماني، الاقطاعي، البورجوازي الرأسمالي، الخ) خاصة وأن مفهوم "نمط الإنتاج" يجمع داخله قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج، التي تنقسم توعين: علاقات اجتماعية (علاقات الملكية)، وعلاقات اقتصادية تقنية، في مزيج نوعي خاص.
In the Marxist theory of historical materialism, a mode of production (German: Produktionsweise, "the way of producing") is a specific combination of the:
• Productive forces: these include human labour power and means of production (tools, machinery, factory buildings, infrastructure, technical knowledge, raw materials, plants, animals, exploitable land).
• Social and technical relations of production: these include the property, power and control relations (legal code) governing the means of production of society, cooperative work associations, relations between people and the objects of their work, and the relations among the social classes.
Wikipedia)
إذاً يشير مفهوم أسلوب الإنتاج (نمط الانتاج) إلى هذا المزيج النوعي (هذه الوحدة) بين قوى الإنتاج (Productive forces) من جهة، وبين علاقات الإنتاج (relations of production) من الجهة الأخرى، والتي تقسم إلى علاقات انتاج اجتماعية وعلاقات انتاج تقنية ، وهذه العلاقات تتضمن علاقات اجتماعية (علاقات الملكية)، وعلاقات السيطرة (القانون الحقوقي) والدولة التي تسيطر على وسائل الإنتاج في المجتمع. يمكن أن تتطور العلاقات التقنية الاقتصادية ضمن النمط الواحد من درجة إلى درجة أعلى أكثر تعقيداً. من هنا يكون تصنيف نمط الإنتاج بناء على العلاقة التقنية الاقتصادية أكثر صعوبة، بل يخلق بلبلة، خاصة لأن التصنيف في "المادية التاريخية" (historical materialism) يقوم أصلاً على أساس علاقات الإنتاج وشكل الملكية المُهيمن.
يكتب ماركس في: Preface of A Contribution to the Critique of Political Economy
In the social production of their life, men enter into definite relations that are indispensable and independent of their will, relations of production which correspond to a definite stage of development of their material productive forces. The sum total of these relations of production constitutes the economic structure of society, the real foundation, on which rises a legal and political superstructure and to which correspond definite forms of social consciousness
"في انتاجهم الاجتماعي لحياتهم، يدخل البشر في علاقات محددة لا غنى عنها ومستقلة عن إرادتهم، هي علاقات الإنتاج والتي تتطابق مع درجة محددة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. إن جماع كلية علاقات الإنتاج هذه تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع، القاعدة الحقيقية، التي يقوم فوقها بنية فوقية حقوقية وسياسية والتي تطابق أشكال محددة من الوعي الاجتماعي" (مقدمة اسهام في نقد الاقتصاد السياسي 1859)
إن مماثلة انجلز بين الانتقال من نظام الإنتاج الحرفي إلى المانيفاكتورة، وبين الانتقال من المانيفاكتورة إلى الصناعة الكبيرة، إلى الإنتاج الآلي باستخدام البخار" دون الإشارة إلى الفارق النوعي في نمط الإنتاج (أسلوب الانتاج)، أي دون الإشارة إلى ظهور علاقة انتاج اجتماعية نوعية في الانتقال الأول، يخلق بلبلة في التصنيف وفي الفهم. خاصة وأن الإنتاج الحرفي يعمل تحت هيمنة علاقات الإنتاج الاجتماعية الاقطاعية، بينما المانيفاكتورة دخلت العمل تاريخياً تحت هيمنة علاقات إنتاج اجتماعية جديدة هي علاقات الإنتاج الاجتماعية البورجوازية الحديثة.
يكتب انجلز: إن القوى المنتجة قد ثارت في شخص ممثلتها البورجوازية، ضد نظلم الإنتاج الممثل بالملاكين العقاريين الاقطاعيين وبشيوخ الطوائف الحرفية. ونتيجة النضال معروفة. فقد انكسرت القيود الاقطاعية."
ومثلما شرعت المانيفاكتورة في مرحلة معينة من تطورها تتنازع مع نظام الإنتاج الاقطاعي (علاقات الإنتاج الاجتماعية الاقطاعية)، شرعت اليوم الصناعة الكبيرة تتنازع مع النظام البورجوازي (علاقات الإنتاج الاجتماعية البورجوازية الرأسمالية) الذي حل محله."
بقول آخر: لم تعد علاقات الإنتاج الاجتماعية البورجوازية، حيث تسيطر الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تناسب الإنتاج المتعاظم لجهة تعاظم طابعه الاجتماعي بحيث بات المالك طفلياً يقتات على جسد الإنتاج الاجتماعي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بات تعاظم الطابع الاجتماعي للإنتاج وتعاظم القوى المنتجة يخلق مفارقة فيض الإنتاج: كمية من المنتوجات تتزايد باستمرار ولا تجد لها تصريفاً. أي اجتماع فيض الإنتاج وبؤس الجماهير في المجتمع الرأسمالي في نفس الوقت.
هذا هو التناقض السخيف الذي تنتهي إليه الصناعة الكبيرة في ظل علاقات الإنتاج الاجتماعية الرأسمالية، والذي يستلزم بالضرورة تحرير القوى المنتجة من القيود الحالية بتغيير نمط الإنتاج القائم البورجوازي (علاقات الإنتاج الاجتماعية الرأسمالية). وهذا ينطبق بشكل خاص على البلدان المتخلفة التي أدت سيطرة هذه العلاقات الاجتماعية البورجوازية الرثة إلى كبح قوى الإنتاج، وإلى تخلف شديد في هذه المجتمعات وإلى ارتهانها نتيجة ضعفها إلى السيطرة والتحكم الامبرياليين. إن الانتقال من النمط البورجوازي إلى النمط الاشتراكي لا يكون إلا عبر ثورة اجتماعية تعيد فيه الطبقة الجديدة وتحالفاتها الصاعدة إلى سلطة الدولة توجيه التنظيم الاقتصادي للمجتمع بحيث يعمل لصالح الأغلبية الشعبية، ويزيل العوائق الانانية أما تقدم القوى المنتجة وإعادة تنظيمها من جديد.
إن كل نضال سياسي هو نضال طبقي، أي بالنتيجة نضال لأجل التحرر الاقتصادي للطبقات الهامشية المظلومة.
يكتب انجلز: "إن الدولة، النظام السياسي، تؤلف في التاريخ الحديث على الأقل، العنصر الثانوي، بينما المجتمع المدني، ميدان العلاقات الاقتصادية، يؤلف العنصر الحاسم"
يتوجب إتمام هذه الصياغة للتنويه بالدور المسيطر للمستوى السياسي في فترات التحول الاجتماعي التاريخي (فترة الثورات الاجتماعية السياسية) من نمط إلى آخر، ودور الدولة وسلطة الدولة الرئيسي في هذا التحول، مع أن الهدف الأخير هو التنظيم الاقتصادي للمجتمع وإعادة تنظيمه من جديد، وإعادة توجيهه بشكل جذري. وهذا يصح بشكل رئيسي على البلدان المتخلفة.
إن صياغة انجلز السالفة الذكر تذكرنا ببدايات الماركسية حين كانت ما تزال "ديمقراطية بورجوازية" متأثرة بالتنوير، مع أن ماركس تجاوز هذا الطرح تماماً في "المسألة اليهودية" 1843-1844 (راجع كراسنا: المسألة اليهودية؛ تلخيص كتاب ماركس، منشورات "فاعل")
لم يعد المطلوب التساوي والمشاركة في الحقوق السياسية (حقوق المواطنة)، بل بات المطلوب تجاوز الديمقراطية البورجوازية ذاتها من أجل القضاء على التملك الخاص لوسائل الإنتاج في المجتمع المدني البورجوازي.
إن انجلز في صياغته السالفة الذكر يستحضر نقد ماركس لكتاب هيغل "أصول فلسفة الحق" خاصة المقدمة.
يكتب انجلس: "إن المفهوم القديم الذي يلتزمه هيغل أيضاً، كان يرى في الدولة عنصراً محدِّدِاً، وفي المجتمع المدني عنصراً محدَّداً"
صحيح أن المقولة الأساسية التي طرحا ماركس في "مقدمة نقد فلسفة الحقوق عند هيغل"، مقولة صائبة كأساس للفهم التاريخي لعمل الدولة كمنظم لسيطرة وهيمنة الطبقة أو الطبقات الحاكمة، لكن هذا يستدعي طرح الفكرة المقابلة ألا وهو الدور المسيطر للمستوى السياسي (الحزب والدولة) في فترات التحول الاجتماعي السياسي الثوري.
ولهذا نثبت المقولة المادية التاريخية الأساسية القائلة: "إن إرادة الدولة في التاريخ الحديث، تحددها إجمالاً الحاجات المتغيرة للمجتمع المدني (البورجوازي)، وسيطرة هذه الطبقة أو تلك" بقول آخر، إن الدولة في التاريخ الحديث هي دولة الطبقة المسيطرة والمهيمنة في عملية الإنتاج والتوزيع، نظراً لتملك هذه الطبقة وسائل الإنتاج الاجتماعي ملكية أنانية خاصة،
المجتمع المدني البورجوازي جوهر والدولة مظهر أو بنية فوقية، وعبر هذه البنية الفوقية تنظم الطبقة المهيمنة سيطرتها وتجري مساوماتها مع الطبقات الأخرى، وعبر أجهزة الاكراه في الدولة تقمع خصومها من أفراد الطبقات الهامشية الأخرى. الدولة مكان التسويات التاريخية والمساومات. لا يشترط في موظفي الدولة البورجوازية الانتماء إلى البورجوازية الكبيرة، بل تستعير البورجوازية أغلب موظفيها من البورجوازية الصغيرة الريفية والمدينية. وفي ظروف الازمة العامة للبورجوازية الامبريالية كما هو الحال بعد الثورة الروسية 1917، حيث تتعرض سلطة البورجوازية الامبريالية للتهديد بفعل أزمة اقتصادية (كساد) متزامنة مع صعود اشتراكي اجتماعي سياسي عبر الأحزاب الاشتراكية الماركسية، هنا تلجأ البورجوازية إلى توكيل حزب البورجوازية الصغيرة الديماغوجي (الغوغائي) الفاشي ليكون وكيلها المؤقت في إدارة سلطة الدولة. وهذا حال ألمانيا وقبلها إيطاليا بين الحربين، حيث سيطرت الفاشية كوكيل للبورجوازية في سبيل قمع الأحزاب الاشتراكية وتصفيتها والاستيلاء على قيادة النقابات العمالية. الظاهرة الفاشية في أوروبا علامة الازمة العامة للبورجوازية الامبريالية بين الحربين.
إن الطبقة الحاكمة تنظم هيمنتها وسيطرتها بواسطة سلطة الدولة وأجهزتها، كذلك تفعل الطبقات الهامشية المتظلّمة حين تريد إعادة توجيه التنظيم الاقتصادي للمجتمع لمصلحتها، فهي تسعى لتحطيم جهاز الدولة القائم وبناء جهاز سيطرتها الخاص.
يكتب انجلز: إذا كانت الدولة وقانون الدولة تحددها العلاقات الاقتصادية (التنظيم الاقتصادي للمجتمع تحت فلك نمط الإنتاج المهيمن)، وبالطبع أيضاً قانون الملكية الخاصة، فمن البديهي أن العلاقات نفسها تحدد أيضاً الحقوق المدنية (قانون الملكية الخاصة) التي ينحصر دورها أساساً في المصادقة على علاقات الإنتاج الاقتصادية التي تقوم بين الافراد والتي هي علاقات طبيعية لظروف معينة."
بعد الثورة البورجوازية الكبرى (الثورة الفرنسية 1789) وضع على أساس القانون الروماني نفسه (أول قانون عالمي لمجتمع منتجي البضائع أو الإنتاج البضاعي الصغير) قانون كلاسيكي للمجتمع البورجوازي هو القانون المدني Code Civile الفرنسي. وإذا كانت أحكام القانون المدني تعبّر، بصيغة حقوقية، عن الشروط الاقتصادية لحياة المجتمع، فهي تعبّر عنها بشكل حسن أو رديء حسب الظروف.
تبدو لنا الدولة أول قوة أيديولوجية فوق الانسان (فوق الأفراد). إن الدولة حينما غدت قوة مستقلة إزاء المجتمع، أحدثت حالاً إيديولوجية جديدة.
يقول انجلز: ما أن يولد جهاز سلطة الدولة، حتى يجعل نفسه مستقلاً عن المجتمع، وينجح في ذلك بقدر ما يصبح جهاز طبقة معينة واحدة وبقدر ما يحقق سيطرة هذه الطبقة بصورة مباشرة. ونضال الطبقة المضطهَدة ضد الطبقة السائدة يصبح بالضرورة نضالاً سياسياً. نضالاً موجهاً قبل كل شيء ضد السيطرة السياسية لهذه الطبقة. وإدراك الصلة بين هذا النضال السياسي وقاعدته الاقتصادية يقلّ، وفي بعض الأحيان يختفي تماماً. وإذا كان لا يختفي عند المناضلين فإنه ينعدم كلياً عند المؤرخين. إن العلاقة بين السياسة والقاعدة الاقتصادية موسّطة بالأيديولوجية. إن العلاقة مع الوقائع الاقتصادية تختفي بصورة تامة عند محترفي السياسة وأصحاب نظريات قانون الدولة، وحقوقي القانون المدني. وبما أنه ينبغي للوقائع الاقتصادية أن تأخذ في كل حالة بمفردها، شكل أسباب حقوقية من أجل أن يصادق عليها القانون، وبما أنه ينبغي عند ذلك بالطبع أخذ كامل النظام القانوني القائم بالحسبان، لذلك يبدو الشكل الحقوقي كأنه كل شيء، أما المحتوى الاقتصادي فلا شيء. يعتبر قانون الدولة والقانون المدني ميدانين مستقلين، لهما تطورهما التاريخي المستقل ويخضعان من تلقاء نفسيهما للتصنيف المنهجي وهما يتطلبان هذا التصنيف عن طريق استئصال جميع التناقضات الداخلية بدأب واستقامة.
الفلسفة والدين أيديولوجيات أكثر بعداً عن القاعدة المادية الاقتصادية وأكثر تغريباً. وأحياناً يأخذ الدين شكل "الصورة المفارقة" للمجتمع ويشكل نفياً كلياً لحقيقته القائمة، وهنا يلعب الدين دوراً تحويلياً ثورياً كما حصل للإسلام المحمديَ في القرن السابع، وكما حصل للمسيحية المبكرة المناضلة. هذه "الصورة المفارقة" ليست معلقة في السماء لكنها قائمة على تشقق المجتمع المعني وتناحر مصالحه، حيث تعبر "الصورة المفارقة" عن مصالح الطبقات والفئات الأكثر ثورية وتقدمية والتي تعمل لصالح الانقلاب الاجتماعي التاريخي.
بخصوص الفلسفة يقول انجلز: "إن الصلة بين الأفكار وشروط وجودها المادية تتشوش هنا أكثر وتصبح أكثر فأكثر محجوبة بحلقات وسيطة برزخية، لكن الصلة موجودة مع ذلك.
إن كل عصر النهضة، منذ منتصف القرن الخامس عشر، وكذلك الفلسفة التي استيقظت من نعاسها آنذاك، قد كانا بالأساس، نتاج تطور المدن، أي نتاج تطور البورجوازية (وكذلك تطور العلم الحديث في القرن الثامن عشر والتاسع عشر). ولم تفعل الفلسفة غير أن عبّرت بطريقتها الخاصة عن الأفكار التي اتفقت مع تحول البورجوازية الصغيرة والمتوسطة إلى بورجوازية كبيرة."
وقد تجلّى هذا بوضوح عند الإنكليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر، ممن كانوا اقتصاديين بقدر ما كانوا فلاسفة. أما فيما يخص مدرسة هيغل، فقد شكل هيغل التعبير الأعلى للحداثة البورجوازية في صياغتها الفلسفية.
الدين أكثر تغريباً وغموضاً وبعداً من الفلسفة عن الحياة المادية (القاعدة المادية). إنه أبعد ما يكون عنها. إن الدين ككل أيديولوجيا ما كانت إلا لتواجه الأفكار بوصفها هويات وكيانات مستقلة تتطور بشكل مستقل وتخضع فقط لقوانينها الخاصة. إن الصلة بين الشروط المادية لحياة الناس وبين عملية التفكير التي تجري في دماغهم تبقى غير مدركة وغير واعية إلا لبعض الخواص من قادة الفكرة الدينية.
إن اقتصار انجلز على ذكر الإمبراطورية الرومانية الغربية (دون ذكر الإمبراطورية الفارسية والكلدانية البابلية والعربية والعثمانية) في علاقتها بالأديان الاقوامية المحلية وبالدين المسيحي كمثال وحيد، تفرضه الدراسات المتوفرة لدى انجلز كمواطن أوروبي لا غير. حتى أنه يقول بخصوص الإمبراطورية الرومانية العالمية: "لا حاجة لأن نبحث هنا الشروط الاقتصادية لنشوئها". وما أن تتوفر وثائق إضافية عن الشعوب الشرقية حتى يبادر إلى دراستها.
إن كلام انجلز من قبل في هذا الكتاب عن كون المسيحية والإسلام دينين مصطنعين، يواجهه انجلز نفسه بالقول: "لا يمكن ابداع دين عالمي جديد بهذا الشكل، أي بواسطة مراسيم امبراطورية"
لقد جاءت المسيحية إلى الوجود من مزيج من الأديان المنتشرة في الشرق (الدين المصري القديم، الدين الكلداني البابلي، والدين الفارسي، وخاصة الدين اليهودي) في وادي النيل ووادي الرافدين وسوريا وآسيا الصغرى (الاناضول) والجزر اليونانية وقبرص والإسكندرية والسهوب الشمالية الغربية لفارس، مع الفلسفة الشعبية (الأخلاقية العامية) اليونانية بخاصة الفلسفة الرواقية.
ولكي نعرف اليوم ما كان عليه شكل المسيحية المبكرة، يجب أن نقوم بأبحاث مفصلة. وقد انجز انجلز مساهمة في هذا الخصوص قبل وفاته 1895 تحت عنوان "إسهام في تاريخ المسيحية المبكرة الاولية" نشرها في مجلة العصور الحديثة سنة 1894. وله بحث أبكر عنوانه: "برونو بوير والمسيحية الاولية" نشر في مجلة التقدم سنة 1883. (راجع كراسنا: الماركسية والدين).
إذاً، لكي نعرف شكل المسيحية المُبْكرة، يجب أن نقوم بأبحاث تفصيلية إضافية، لأن الشكل الذي نقلت به إلينا المسيحية هو الشكل الرسمي الذي أضفاه عليها "مجمع نيقية Council of Nicaea " (325 م)، حيث كيفت المسيحية لتقوم بدور دين دولة. ومجمع نيقية في مقاطعة بيثية في آسيا الوسطى جنوب شرق مضيق البوسفور، وهو المجمع الأول وكان انعقاده بسبب بدعة آريوس Arius "الهرطوقي". وعندما حضر الملك قسطنطين الكبير وضع "قانون الايمان" في 19 يونيو/حزيران، وختم المجمع في 25 أغسطس/آب.
آريوس: بالعامية اليونانية Ἄρειος  (256-336 م). كان آريوس قساً سكندرياً أصله من (ليبيا) التي كانت قديماً تسمى "بالمدن الخمس الغربية"، وقد كانت آنذاك تابعة للإسكندرية، مثلما كانت عموم البلاد المصرية والحبشة من بعد، تحت الهيمنة الروحية للكنيسة المرقسية التي مقرّها الإسكندرية. وفيما كان آريوس بمدينة الإسكندرية، ترقّى في خدمته الكنسية (الاكليريكية: قسمة الرب ونصيبه) حتى صار كاهناً لكنيسة بوكاليا المطلّة على الميناء الشرقي للمدينة (يوجد مكانها حالياً تمثال الزعيم سعد زغلول الذي دعا إلى وحدة الاقباط والمسلمين ضد الاحتلال الانكليزي).
في الإسكندرية القديمة درس آريوس أعمال المفكر الكنسي المرموق أوريجين (أوريجانوس) خريج المدرسة الفلسفية السكندرية القديمة، تلميذ الفيلسوف آمونيوس ساكاس (وكذلك أفلوطين كان تلميذاً لساكاس وزميلاً لأوريجين). وبعد دراسته الأولى في الإسكندرية ارتحل آريوس إلى الشام، ويقال إنه تتلمذ حيناً للوقيانوس، وعرف منه أراء بولس السُّمَيْساطي. وقد بقي إلى اليوم من أعمال آريوس عمله الأساسي الشعري الذي اختار له عنوان "ثاليا"، أي الوليمة الأدبية، حيث يعرض تفصيلاً لعلاقة الاب بالابن عبر مجموعة قصائد وتراتيل.
بدأ الاشكال "الهرطوقي" المرتبط بآريوس في النصف الثاني من حياته، تحديداً بعد انتقاله إلى سوريا (الشام)، والتفاف الناس هناك حوله وإعجابهم بآرائه. " (اللاهوت العربي 114-115)
كتب اثناسيوس الرسولي أسقف الإسكندرية الذي خلف إسكندر وكفّر آريوس كما فعل سلفه: "إن هؤلاء الأشخاص أمثال آريوس في سعيهم الدائب بكل مغالطاتهم، لإنكار ألوهية الابن، الكلمة قد زكّوا موقف من سبقوهم، مشيراً يذلك إلى إحيائهم للأبيونية ولأفكار أرتماس وبولس السُّمَيْساطي، الذين ينكرون ألوهية المسيح (لاهوته) ويعدّونه واحد من الخلائق." (اللاهوت العربي 116) وهذا الموقف يتطابق مع موقف القران بقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72]

نوقش هذا الرأي في المجمع الكنسي الأول الذي عقد في نيقية الواقعة جنوب شرق مضيق البوسفور في آسيا الوسطى (تركيا الحالية)، وأصبح السجال الكنسي حول طبيعة يسوع هو السجال الرئيس السائد. إذا نوقش هذا الرأي في مجمع نيقية الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الكبير سنة 325 م.
في هذا المجمع النيقي الذي انعقد سنة 325 م بحضور 318 أسقفاً، تم حرم آريوس وأُقرّ قطعه (عزله) عن الكنيسة، وصدر حكم نفيه إلى دير بعيد بأسبانيا. غير أن الأمور مع ذلك لم تهدأ، ولم تتوقف في بلاد الشام تلك الأفكار الآريوسية، ومن ثم فقد أرسل الامبراطور قسطنطين الكبير، المسمى اعتباطاً (نصير المسيح) إلى آريوس، يدعوه إلى القسطنطينية للتوفيق بينه وبين الاسقف البيزنطي، إسكندر (سَميّ أسقف الإسكندرية وصديقه) وقد جاء آريوس من منفاه بعد مماطلة أغاظت الامبراطور، حتى هدده بالويلات إذا تجاهل دعوته بالمثول بين يديه. في أطراف القسطنطينية سنة 336 ميلادية، مات آريوس فجأة! أو مات مسموماً، حسبما يرجّح رأفت عبد الحميد في بحثه الذي كتبه تحت عنوان "اغتيال آريوس" (اللاهوت 117)
ويهمنا أن ننوه إلى أن الأساقفة والقساوسة الذين وافقوا آريوس على "هرطقته" تضم أولئك الذين انتموا إلى المحيط الثقافي الشامي / العراقي، والذي أشرنا مراراً إلى أن العقلية العربية كانت شائعة فيه ومهيمنة عليه." (اللاهوت العربي 117)
إن اتهام أنصار آريوس ب "الفورفيريين" تشير إلى ما ذكرناه عن تأثر آريوس بتعليم أوريجانوس وعلى ما يبدو تأثره بالافلاطونية المحدثة ممثلة بفرفوريوس الصوري تلميذ أفلوطين. وهذا الأخير هو برفوريوس أو فَرفوريوس الصُّوري (234 -305 م.) فيلسوف سوري يوناني من مواليد صور، يُعتبر أحد أبرز ممثلي الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تتلمذ على أفلوطين ووضع ترجمةً لحياته وجمع مقالات الأخير في كتاب "التاسوعات" على أن أشهر آثاره هي "إيساغوجي"، وهي مقدمة لكتاب "المقولات" لأرسطو كما انتقد "النصرانية" في كتاب سماه «ضد النصارى". ومن الملفت للنظر انتماء كبار "الهراطقة" إلى مذهب أرسطو، مثال ذلك القس نسطور.
إن واقع أن المسيحية غدت دين دولة بعد 250 سنة على ولادتها، يدل بما فيه الكفاية إلى أي حد كانت المسيحية ديناً يتلاءم مع ظروف ذلك العصر. إن المسيحية بتتبعها تطور الاقطاعية، قد اتخذت في القرون الوسطى شكل الدين الذي يلائم الاقطاعية، مع تدرج اقطاعي في المراتب مطابق. وحين توطدت البورجوازية، تطورت البدعة البروتستانتية معارضة للكاثوليكية الاقطاعية، أولا في فرنسا الجنوبية في عصر أوج ازدهار المدن هناك. إن القرون الوسطى قد ألحقت بعلم اللاهوت (بالدين) جميع الاشكال الأخرى للأيديولوجية: الفلسفة، والسياسة، وعلم الحقوق، وجعلت منها أقساماً تابعة لهذا العلم. ومن جراء ذلك اضطرت كل حركة اجتماعية وسياسية إلى اتخاذ شكل لاهوتي (ديني).
لقد وجهت نظرية ماركس في التاريخ (المادية التاريخية) الضربة المميتة للفلسفة في ميدان التاريخ، كما أن المفهوم الديالكتيكي عن الطبيعة (التكشّف التاريخي للطبيعة بواسطة العلوم) يجعل كل فلسفة للطبيعة غير مجدية وغير ممكنة. والمهمة هنا وهناك لا تتقوم باختلاق العلاقات اختلاقاً، بل في اكتشافها في الوقائع نفسها. ولم يبق للفلسفة المطرودة من الطبيعة والتاريخ، سوى ميدان الفكرة البحتة بقدر ما لايزال هذا الميدان قائماً: المنطق أوالديالكتيك"
وهنا يمكن فهم طرح فكرة "نهاية الفلسفة" في عقد الاربعينيات من القرن التاسع عشر في ألمانيا، ومن هنا أيضاً نستنتج ضرورة دمج دراسة ديالكتيك (منطق) هيغل في قائمة مراجع إعداد الكوادر الماركسية الرفيعة. وتغدو على هذا الأساس عبارة انجلز التي تقول: "إن الحركة العمالية الألمانية هي وريثة الفلسفة الكلاسيكية الالمانية" عبارة مفهومة. حتى يمكن تعميمها بالقول: تغدو الاشتراكية الماركسية هي وريثة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية وخاصة فلسفة هيغل وطريقته الديالكتيكية.
مراجع القسم الثالث
1-انجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيطية الألمانية، طبعة دار التقم موسكو
2-Karl Marx
A Contribution to the Critique of Political Economy
First Published: 1859
3-ماركس-انجلز: الأيديولوجية الألمانية، الطبعة العربية، دار الفارابي، وطبعة دار دمشق
4-ماركس: موضوعات عن فيورباخ
5-يوسف زيدان: اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، دار الشروق القاهرة الطبعة الثالثة 2010 (الأولى 2009)
6-نايف سلوم: ثلاث رسائل (في العقل الفعّال، الكيمياء الصوفية وصناعة الدعاة، المعجزة بين الدين والفلسفة)، منشورات "فاعل" 2024
7-Frederick Engels: Ludwig Feuerbach and the End of Classical German
Philosophy
First Published: 1886, in Die Neue Zeit
8-الشيخ نجم الدين الكُبرى: فوائح الجمال وفواتح الجلال، دراسة وتحقيق يوسف زيدان، دار سعاد الصباح، الكويت 1993
9-ندم الدين الكُبرى: التأويلات النجمية في التفسير الاشاري الصوفي، تحقيق الشيخ فريد المزيدي، دار الكتب العلمية لبنان 2009 (في ستة مجلدات)
10-القرآن الكريم
11-زيكيبيديا باللغتين العربية والإنكليزية
كتب ذكرت في هذا القسم:
1-تروتسكي: تاريخ الثورة الروسية
2-ماركس: نقد فلسفة الحقوق عند هيغل –المقدمة
3-هيغل: أصول فلسفة الحق
4-نايف سلوم: الماركسية والدين، كراس من منشورات "فاعل"
5-خليل عبد الكريم: قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية
6-فرفوريوس الصوري: إيساغوجي، مدخل لكتاب أرسطو "المقولات"
7-آريوس: ثاليا أو المائدة الأدبية
8-أرسطوطاليس: كتاب المقولات
9-أفلوطين: كتاب التاسوعات (جمع وتقديم فرفوريوس)
10-نايف سلوم: المسألة اليهودية؛ تلخيص كتاي ماركس، منشورات "فاعل"
نشر كتاب انجلز لأول مرة سنة 1886 في مجلة نيو تزايت