-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8155 - 2024 / 11 / 8 - 00:21
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
استعراض نقدي -2
[1]
الفلسفة والحضارة
الفلسفة الحيّة
يقول الاهواني: "الفلسفة إما حية متصلة بالجمهور، وإما ميتة قاصرة على "المدارس"
وقد يفهم خطأ من هذا القول، أن على الجمهور تعلم الفلسفة، كما تُعلم في الاكاديميات!؟
لا يمكن لعموم الجمهور تعلّم الفلسفة بهذه الطريقة نظراً لصعوبة الفلسفة وتجريداتها، ولقلة أوقات الفراغ عند معظم الجمهور الذي يشغله الكسب وتحصيل المعاش.
إن تعلم الفلسفة من قبل الجمهور بهذا الشكل، خاصة في الأمم المتخلفة والمريضة، يزيد مرض الامة أكثر. لا يمكن للفلسفة أن تكون "شعبية" حقاً إلا عبر الدين التاريخي أو السياسة التاريخية كالحزب الاشتراكي الماركسي.
لكن حين نستمع إلى الاهواني وهو يقول: "وقد مرت على الفلسفة أدوار كثيرة كانت فيها مزدهرة حين استجاب الفلاسفة للبيئة التي يعيشون فيها، وأنعموا النظر في النظم القائمة في المجتمع أصالحة هي أم غير صالحة، وحاولوا أن يفسروا طبيعة الكون تفسيراً يلائم عصرهم من جهة ويفضي إلى التقدم بالإنسان وخيره وسعادته من جهة أخرى. ولم يكن ذلك كله ميسوراً إلا إذا نزل الفيلسوف من برجه العاجي الذي يعكف فيه على نفسه إلى ميدان الحياة، يناقش ويجادل ويرشد ويعلم، حتى يبث أفكاره الجديدة ويدافع عنها، ويأخذ بيد الناس فينقلهم من فكر قديم أصبح لا يلائم ظروف الحياة القائمة، إلى فكر جديد يتفق مع ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في تقدمها وأخذها بأسباب الرقي"
بالطبع وكما أشرنا سابقاً فإن الفلسفة لا يمكن أن تنزل من برجها العاجي وتترجل وتغدو عبداً في خدمة مشروع الانسان المتقدم إلا في حالتين: الأولى في حالة الدين التاريخي أو دين الأنبياء، كالإسلام المحمدي على سبيل المثال الأول، حيث تقدم هذا الدين التاريخي لبناء نظام دولة جديد للعرب على أنقاض القبيلة والنظام القبلي. وهنا نفهم أن انخراط الفلاسفة قبل سقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو لاحقاً في الحياة الاجتماعية يجد تفسيره في تبني هؤلاء جميعاً لدين تاريخي باطني توحيدي سري تكون الفلسفة خادماً له وعبداً، حيث الفلسفة عبد للسيد الذي يحكمها (الدين التوحيدي التاريخي أو دين الانبياء) لقد شكل أرسطو المرشد الروحي للإسكندر الكبير. والحالة الثانية هي السياسة التاريخية في الاشتراكية الماركسية، حيث شكلت الفلسفة الهيغلية (منطق هيغل وعلم الديالكتيك) وسيلتها الفعّالة وعقلها الفعّال في تحليل نظام المجتمع البورجوازي الحديث ومحاولة إزالته وتجاوزه بواسطة الحركة الاشتراكية الماركسية. وقد قلنا من قبل أن الفلسفة عبد للسيد الذي يحكمها وهذا السيد هو الدين التاريخي أو دين الأنبياء خاصة المسيحية المبكرة والإسلام المحمدي، هذا قبل ظهور البورجوازية، والسيد الآخر الحديث (مع مجيء البورجوازية وظهور البروليتاريا الحديثة) هو السياسة التاريخية أو الاشتراكية الماركسية.
إذن لا تنزل الفلسفة من برجها العاجي وتنخرط في الصراع الاجتماعي التاريخي من أجل التقدم إلا في الحالتين اللتين سبق ذكرهما: السياسة التاريخية، والدين التاريخي (دين الأنبياء)، وكلاهما يكافح من أجل ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في تقدمها وأخذها بأسباب الرقي والرفاه والعدالة.
وكون الاشتراكية الماركسية لم تظهر إلا مع بداية انحطاط البورجوازية وبداية ظهور البروليتاريا التاريخي على المسرح الأوروبي الغربي، فإنه يمكننا تصنيف سلوك الفلاسفة اليونان قبل سقراط على أساس انتمائهم السري لدين تاريخي باطني توحيدي عالمي ظهرت بعض سماته نظرياً لدى الرواقية وعمليا لدى الاسكندر الأكبر. وكانت الرواقية قد ساهمت في بناء المسيحية الأولية المبكرة كديانة تاريخية عالمية الطابع. إن إسهام فيلون وسينيكا يشير إلى دور كل من الرواقية والافلاطونية في اختلاطهما مع الدين المصري التوحيدي والوحي الكلداني أو الاقوال الكلدانية في ظهور المسيحية كديانة عالمية تاريخية.
والحضارة على هذا الأساس تكون إما تحت هيمنة الدين التاريخي والحياة الدينية التي تطبع جميع مناحي الحياة بطابعها، أو تكون حضارة حديثة تحت هيمنة الاقتصاد والحياة الاقتصادية كما هو حال الحضارة الحديثة (بورجوازية أو اشتراكية)، حيث الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية يطبع كل شيء بطابعه.
وتأكيداُ على ما قلناه وإثباتاً له ننقل قول الاهواني: "إذا رجعنا إلى فلاسفة اليونان رأينا الفلسفة كانت حية على أيديهم لاتصال هؤلاء بالحياة والناس. فهذا فيثاغورس كان صاحب مدرسة (أخوية سرّية) تضم آلافاً من التلاميذ (المريدين)، وكان سقراط يعلم أفكاره (ويدعو إليها) في الملاعب والبساتين (وفي الساحة العامة) ويفشي أسرار الاثينيين، وافتتح أفلاطون الاكاديمية فطلب عليه العلم (الفلسفة) كثيرون من طلاب الحكمة (عبر التلقين والسماع)، وذهب إلى صقلية يعلم ملكها الفلسفة، حتى يطبق نظريته في المدينة (الدولة) الفاضلة. وكانت مدرسة أرسطو (المشائية) جامعة بالمعنى الحديث، فيها مجموعات من أصناف النباتات والحيوانات والخرائط حتى لا يقتصر البحث الفلسفي على مجرد النظر، وهو إلى ذلك مُعلِّم الاسكندر (المقدوني) "
فلما أصبحت الفلسفة في العصور الوسطى الأوروبية المسيحية فلسفة "مدرسية"، خاصة الفلسفة المشائية، تستحضر ما هو فائت خدمة للأوضاع السائدة، يقنع فيها الطلاب بحفظ كتب القدماء ونسخها وشرحها، ماتت على أيديهم، وأصبحت عبارات خاوية على عروشها وخالية من المعنى، لانقطاع صلتها بالحياة الجديدة، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ) [النجم: 23]
وبين حين وآخر يظهر بعض المفكرين الاحرار الذين ينفضون عن أنفسهم غبار الفلسفة القديمة، ويتأملون من جديد في طبيعة الكون على ضوء العصر الذي يعيشون فيه، وينشؤون فلسفة جديدة، ينفخون فيها الحياة من روحهم. حدث ذلك حين انتقلت الفلسفة اليونانية إلى العرب وتسلّموها. فظهر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، (وابن مسرّة الاندلسي وابن طفيل وابن باجه وابن جبيرول وموسى بن ميمون)، وازدهرت الفلسفة على أيديهم. وحصل ذلك أيضاً في العصر السكندري حيث ظهرت الافلاطونية المحدثة والفيثاغورية المحدثة، فلسفتان مناضلتان بضمهما للدين المصري ومعه الدين الكلداني، وأيضاً في عصر النهضة الأوروبي، حين ثار بيكون وديكارت على تعاليم أرسطو (المدرسية الوسيطية) ووضعا بنيان الفلسفة الحديثة التي شكل هيغل درّة تاجها، حيث كانت السياسة التاريخية الماركسية وارثه الاكبر.
[2]
الفلسفة والظروف الاجتماعية السياسية
يقول الاهواني: "كتب الفيلسوف البريطاني برتراند راسل كتابه عن تاريخ الفلسفة الغربية، في صلته بالظروف الاجتماعية والسياسية من أقدم العصور حتى العصر الحاضر. ولقيت دراسته نجاحاً عظيماً، إذ أصبحت نظريات الفلاسفة مفهومة في ضوء هذه الظروف السياسية والاجتماعية"
[3]
الفلسفة والحضارة
من الطبيعي أن يتأثر تفكير الفيلسوف بالبيئة الاجتماعية والسياسية المحلية والإقليمية والدولية، ما دام يعيش فيها ويحاول تحليل هذه الشروط التاريخية الاجتماعية، وأن يصلح أو يعمل على تغيير تلك البيئة أو على الأقل إصلاحها وترقيتها. فتظهر البيئة الاجتماعية السياسية كأنها علة ظهور الآراء الفلسفية. لكن أمراً آخر أكثر اتساعا يظهر على الفور ليطالب بحقه في الاشراط، خاصة وأننا شهدنا فلسفات حديثة تأثرت بالبيئة القومية القريبة، ومع ذلك كانت في أصل ظهورها استجابة عالية لأحداث في بلدان أمم أخرى كتأثر فلسفة هيغل الألماني بالثورة الفرنسية، وتأثر الفلاسفة الفرنسيين أصحاب التنوير في القرن الثامن عشر بالفلسفة الانكليزية الحديثة.
وتأثر إنجازات غاليليو غاليلي الفيزيائية بالإنجازات التقنية الهولندية على أثر التقدم البورجوازي هناك.
نقول هنا أن الفلسفة الجديدة لا تتأثر بالبيئة الاجتماعية السياسية المحلية فحسب، بل تتأثر بالحضارة الجديدة، ومثال ذلك تأثر الفلسفة اليونانية بالحضارة المسيحية في الشرق وحضارة الأديان التوحيدية في مصر وبابل أو بحضارة الدين التاريخي على تنوعه، بعد أن شكلت الإسكندرية مصهراً حضاريا هائلاً بين ثقافة الغرب الفلسفية وأديان الشرق التوحيدية.
كما شكل الإسلام المحمدي بظهوره بيئة حضارية "جديدة " تأثرت بها الفلسفة اليونانية وقدمت نماذج فلسفية "جديدة". والنموذج الحضاري الثالث هو الحضارة البورجوازية الحديثة ذات النزعة الاقتصادية المهيمنة والتي لا تعير الدين كثير أهمية، بل توظفه لمصالحها. يمكن أن نذكر أيضاً الحضارة الهندية والصينية، وهي حضارة أديان أرضية ومصلحين عظماء.
إن ما يميز الحضارات القديمة الشرقية عموماً هو هيمنة الدين، سواء كان سماوياً توحيدياً أم أرضياً. أما في الغرب القديم (الحضارة الرومانية والحضارة اليونانية) فقد سيطرت في الحضارة اليونانية الفلسفة والتفكير الفلسفي يرافقها أديان محلية لكل مدينة –دولة ذات تراث ميثولوجي غني. وقد حافظت الإمبراطورية الرومانية الغربية على هذا التقليد حيث أبقت على التعددية الاقوامية الدينية وميثولوجياتها المتنوعة، وهمشت الفلسفة قليلاً بفعل هيمنة السياسات الإمبراطورية، إلى أن تحولت إلى الإمبراطورية الشرقية البيزنطية التي اعتمدت المسيحية بعد أن حورتها إلى دين رسمي للدولة مكرّسة الكنيسة الرسمية والاناجيل القانونية و"قانون الايمان" بعد ثلاثة قرون من ظهور المسيحية، وكفّرت بفعل ذلك جميع العقائد الأخرى المخالفة سواء أكانت مسيحية أم وثنية.
إن ديكارت الفرنسي واسبينوزا في هولندا والفلسفة الكلاسيكية الألمانية من كانط إلى هيغل وفيورباخ هي ابنة الحضارة البورجوازية. يمثل ماركس نموذجاً للتمرد على هذه الحضارة على أرضية صعود البروليتاريا كطبقة تاريخية جديدة تبشر بحضارة جديدة مختلفة.
وإذا كان الفلاسفة قبل سقراط هم نتاج حضارة (المدينة-الدولة) وعيوبها ومحاسنها وقصورها مع ظهور التحدي الامبراطوري الفارسي من الشرق، فإن سقراط يمثل أول نقد علني لهذا القصور وللديانات المحلية الوثنية التي تعبر عن "روح" هذه المدينة-الدولة. وقد أتم عمله السلبي كل من أفلاطون وأرسطو مستبطنين في تعالينهم الشفوية السرية ديناً تاريخياً باطنياً توحيداً عالمياً عمل الاسكندر الكبير بمقتضاه وتجلى نظرياً -وعظياً في الرواقية، لأن الرواقية تعرف الحكيم الفاضل الواعظ المصلح، لكنها لا تعرف النبي – الملك على قول فيلون الاسكندري.
تعرّض الكثير من الفلاسفة لمحن تهدد حياتهم بالنفي أو الإعدام، وأكبر مثل على ذلك محاكمة سقراط والحكم عليه بالإعدام، لا لأنه أنكر آلهة اليونان وسعى إلى إفساد الشباب ونادى بآلهة جديدة فحسب، بل لأنه وقف في سبيل التقاليد القائمة، وحكم عليها بالفساد وأشعل نار الثورة في العقول لهدم تلك التقاليد والاخذ بأسلوب جديد لم يألفه الاثينيون في الحياة" (المناداة بدين جديد توحيدي تاريخي باطني عالمي يتجاوز الأفق المحلي الضيق). وكذلك فعل أفلاطون وأرسطو على طريقة القران بالقول: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40]
إن وراثة أفكار سقراط وأفلاطون من قبل أرسطو وتلقينه هذه التعاليم للإسكندر الأكبر، جعل هذه الآراء تثمر بالفعل عبر تجاوز الاسكندر لنظام (المدينة -الدولة) نحو بناء الإمبراطورية المقدونية العالمية التي مزجت حضارة الغرب الفلسفية بحضارة الشرق الدينية التوحيدية، تماماً كما تجاوز النبي العربي نظام القبيلة نحو بناء الإمبراطورية العربية الإسلامية.
[4]
الفلسفة هي المهيمن على الحضارة اليونانية
يقول الاهواني: "هذه الفلسفة في رأي معظم المفكرين المحدثين هي عنوان الحضارة اليونانية"
وكنت قد ذكرت أمراً كهذا في كتابي الجديد "المُعْجزة-الشذرات والنُكت في السيرة المحمدية" بالقول: "لدينا خطاب فلسفي تأمّلي نظراني (اعتباراً من افلاطون وأرسطو) متمركز على اللوغوس، يعتمد على الحوار والقياس والاستدلال والبرهان من جهة (Logic) وخطاب نبو ّي قائم على اللوغوس أيضاً، لكن عن طريق التمثيل والقصص أو ما يُسمّى بالميثوس، حيث يظهر اللوغوس: ميثوس على طريقة الكناية والتمثيل، واللوغوس متوارياً. لدينا مدينة أثينا؛ مدينة-دولة (polis) أ ّم المدن تجسِّد لوجيك (λογική ) من جهة، ولدينا قرية كبيرة؛ أم القرى مكّة، تجسّد الميثوس أو القصص من الجهة الأخرى. واحدة ظهر بها أفلاطون، وأخرى ظهر بها النبي محمد بن عبد الله. واحدة (مكّة) قائمة على نمط إنتاج آسيوي، والأخرى (أثينا) قائمة على نمط إنتاج قديم ونمط إنتاج جرماني أتى به الدوريون من شمال أوروبا (أثينا. " (المُعْجزة: 21)
وقلنا أيضاً: "لقد انبثقت أسطورة "المعجزة الإغريقية" لأن هذه الحضارة بترت عمداً عن جذورها الشرقية؛ عن تراث آسيا الصغرى، عن إيونيا تلك، إحدى مقاطعات الفرس حيث رأى النور أعظم الملهمين من طالس دي ميليت إلى كزونوفون دي كولوفون ومن فيثاغورس دي ساموس إلى هيراقليطس دي إيفيز، الذين فاحت من خلالهم نسائم إيران زارادشت وفيما وراءها، الهند الفيدية والأوبانيشادا قريبة الشبه بما يشبه اللغز بأفلاطون " (المعجزة: 35)
ليس معنى ذلك أن الحضارة اليونانية كانت وقفاً على الفلسفة، بل لأنها كانت أبرز صفة لها (صفة مهيمنة)
يقول الاهواني مستشهداً بالقاضي صاعد في كتابه "طبقات الامم": وفلاسفة اليونانيين من أرفع الناس طبقة، وأجل أهل العلم منزلة، لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية، والمعارف الطبيعية والالهية، والسياسات المنزلية والمدنية (العائلة والمجتمع المدني)"
بالطبع، يخطئ الاهواني في قوله: "منذ أن ظهرت الفلسفة في اليونان أصبحت هي العنصر الأساس في كل حضارة، حتى لتعد الحضارة الغربية المعاصرة ثمرة لها. والامر كذلك في الحضارة الاسلامية"
الخطأ الأول، أن الحضارة الغربية المعاصرة ليست ثمرة للفلسفة، لكنها ثمرة لصعود البورجوازية والملكية الخاصة البورجوازية، وما ولده من هيمنة للحياة الاقتصادية على جميع مناحي الحياة، بما فيها الفلسفة. حيث شكلت البيئة الاقتصادية الصناعية والتجارية للبورجوازية البيئة الاجتماعية السياسية والبيئة الحضارية للفلسفة الغربية، حيث سيطرت المصالح الاقتصادية على جميع مناحي الحياة المحلية والعالمية. إن فكرة الاهواني هذه تقود مباشرة إلى الوهم الأيديولوجي القائل بأن الفلاسفة يقودون العالم. وأن الأفكار تقود الحياة المادية.
والخطأ الثاني، القول بأن الفلسفة باتت العنصر الأساس في الحضارة الإسلامية، لآن الحضارة الإسلامية ومن اسمها، طبعها الدين الإسلامي بطبعه. حتى الفلاسفة لم يخرجوا من عباءة التصوف الإسلامي والدين الإسلامي. ومع هجمات الغزالي (450-505 هـ) على الفلسفة المشائية (الأرسطية) ممثلة بابن سينا وابن رشد، لم تقم للفلسفة في المشرق العربي قيامة، وانتقل النشاط الفلسفي العربي الإسلامي إلى الاندلس في المغرب العربي.
إن أخطاء الاهواني في فهمه لجوهر الحضارة ينقلنا إلى الفقرة الخامسة من مقدمته في قسمها الثاني
[5]
معنى الحضارة
أولى صفات الحضارة مستمد من اسمها، فالحضارة تقال في مقابل البداوة، والبداوة صفة البدو الذين يعيشون على الفطرة في الصحراء ويعتمدون الترحال والتجوال وعدم الاستقرار طوال الوقت. والحضارة صفة القوم أو الجماعات التي تعيش في "الحضر"، أي الجماعة المستقرة في منازل ثابتة.
يخطئ الاهواني حين يقول: ولا تكون المنازل مستقرة إلا حين تبنى في "المدينة"، مع أنه مصيب في وصف أهل المدن بالحضارة والمدنية"
والاهواني بهذا القول يهمل السكن في الريف والحواضر الريفية والقرى. وقد ذكر القرآن القرى بقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف: 59] وقوله:
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58]
كما ميز بين الاعراب والمدينة بعد أن ظهرت فيها سلطة الدولة وحولتها من "قرية" يثرب إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الجديدة بقوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ) [التوبة: 120]
إذن التحضّر يشمل نظام الاستقرار في القرى والمدن، وعندما يكون في المدن تضاف إليه صفة التمدّن وهي صفة مرتبطة بوجود المدينة وبوجود مجتمع مدني أي مجتمع تحكمه دولة.
بهذا المعنى يكون كلام الاهواني خاطئاً عندما يقول: "المدنية والحضارة اصطلاحان مترادفان" لأنه بهذا القول يزيل الفرق بين المدنية القائمة على وجود الدولة وبين الحضارة التي تشمل المدن والقرى. لهذا يكون من الصواب القول أن الحضارة والاستقرار السكني مترادفان. ويبدو أن الحضارة في اللغة اللاتينية civilization مشتقة من هذا الترادف بين الحضارة والمدنية. وهذا منبع الالتباس عند الاهواني. أما في العربية: الحضر خلاف البدو، والحضيرة الجماعة ليست بالكبيرة، والحاضرة المغالبة، وحضرة الرجل فِناؤه (مقاييس 2 ص 76-77) ونرى أنه لا ذكر للمدينة في الكلام عن الحضارة.
يقول الاهواني: civilization في اللغة الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية) تشتق من اللاتينية
Civitas بمعنى دولة، أو من Cives بمعنى مواطن ساكن المدينة. ونحن نعلم أن الفلسفة اليونانية ظهرت في بيئة أخذت شكل (مدينة-دولة).
الحضارة أساساً صفة للمجتمع لا للفرد، وهي للفرد باعتباره عضو مجتمع.
وقد تكلم ابن خلدون عن الانتقال من البداوة إلى الحضارة في إشارة إلى العرب الذين نقلهم الإسلام المحمدي من البداوة إلى الحضارة ونظام الدولة وحياتها. والحضارة تشمل العمران والتقدم المادي والرفاه وتشمل الحياة العقلية والعلمية والثقافية عموماً. يقول الاهواني: ولم يغب هذا المعنى عن ذهن ابن خلدون، فعقد فصولاً للعلوم المختلفة، وفصولاً للتعليم وطرائقه، لأن العلم لا يكتسب إلا بالتعليم (راجع مقالتنا في العقل الفعّال)، وكذلك الصناعات، ولذلك كانت "التربية" من مميزات الحضارة، واهتم لها افلاطون في جمهوريته اهتماماً كبيراً.
يقول الاهواني: عندما كتب وول ديورانت "قصة الحضارة " ومهد لها بالكلام عن العناصر المكونة لها، ردها إلى أربعة: اقتصادية وسياسية وخلقية وعقلية، وتحدث عن العناصر الاقتصادية، عن انتقال الجماعة البشرية من الصيد إلى حراثة الأرض (الزراعة)، وعن أسس الصناعة وعن التنظيم الاقتصادي للمجتمع، وفي العناصر السياسية عن أصول الحكم والدولة والقانون والعائلة. وفي العناصر الخلقية عن الزواج وأخلاق الجنس والأخلاق الاجتماعية، والدين وطرائقه وطقوسه ومعبوداته، وفي العناصر العقلية عن العلوم والآداب والفنون. واضح أن تصنيف ديورانت واقع تحت هيمنة الحضارة الحديثة وعناصرها، خاصة التنظيم الاقتصادي البورجوازي للمجتمع، وهذا أمر طبيعي لأنه هو نفسه ابن الحضارة البورجوازية في غرب أوروبا. ذلك أنه هناك حضارات أخرى يهيمن عليها الدين، وتارة الفلسفة.
[6]
الدين والعلم والفن والفلسفة
يقول الاهواني: نحن نرى أنه يمكن إرجاع العناصر المكونة للحضارة إلى أمور أربعة هي الدين والعلم والفن والفلسفة"
يبدو أن الاهواني قد نسي ما كان قد صرح به من ترادف الحضارة والمدنية، وهذه الأخيرة (المدنية) قائمة على التنظيم الاقتصادي للمجتمع وعلى العمران وقيامة المدن. كما أنه يهمل تعريف ديورانت للحضارة.
إذن يقتصر الاهواني في ذكر العناصر المكونة للحضارة على ما يسميه ماركس بالبنية الفوقية للمجتمع، وينسى أمراً مهماً وهو البنية التحتية القاعدية للمجتمع وهي التنظيم الاقتصادي للمجتمع. ومن دون هذا العنصر "الاساس" الاقتصادي لا تقوم أية حضارة.
كما أن غياب العنصر الاقتصادي من التعريف يجعل الحضارة البورجوازية خارج التصنيف الحضاري. خاصة وأن التنظيم الاقتصادي للمجتمع هو المهيمن في هذه الحضارة. بينما هيمن الدين تارة والفلسفة تارة أخرى في الحضارات القديمة.
لكن حتى مع هيمنة الفلسفة على الحضارة اليونانية-الرومانية، فإن الدين التاريخي الباطني شكل هاجساً في هذه الفلسفة
يقول الاهواني: قد تخلو الحضارة من الفلسفة، ولكنها لا يمكن أن تخلو من وجود الدين والعلم والفن. " هناك شعوب ارتفعت حضاراتها كالصين والهند وفارس وبابل وآشور ومصر في الزمن القديم. لم تعرف الفلسفة لكنها عرفت الحكمة. وهذه الأخيرة ضرب من الاقوال المأثورة التي تعود بالأصل إلى الدين الميثولوجي. وقد كان حال اليونان كذلك قبل ظهور الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد. لقد صدرت الفلسفة اليونانية عن الميثولوجيا الدينية والعلم (الفلك والهندسة) والفن، حيث استوعبتهم وتجاوزتهم إلى ضرب من النظر العقلي حيث الفكر متناسق في أعلى صورة محكمة. كان أفلاطون وأرسطو وهما رأس الفلسفة اليونانية يبحثان في الدين والعلم والفن، ورأيت أنهما رغم محاولتهما التخلص من سلطان الدين المحلي الموروث (دين إثني طبيعي وثني) يتأثران إلى حد كبير بالميثولوجيا اليونانية، كما هو واضح في محاورات أفلاطون، ويضمران دينا تاريخياً باطنياً توحيدياً يتم تناقله بالمسارّة والتلقين الشفوي بين المعلم والمريدين.
[7]
طلائع الفلسفة اليونانية
البيئة الجغرافية
الجغرافيا اليونانية هي شبه جزيرة وعرة جبلية يعتمد سكانها على الزراعة. حيث تتناثر الجزر أيضاً في بحر إيجه، وليست الحياة فيها بأفضل من حياة شبه الجزيرة. لذلك التمس أهلها أسباب الحياة بالهجرة إلى أماكن أخرى تطل على البحر الأبيض المتوسط. فكانوا ينشؤون مستعمرات يونانية في كل مكان ينزلون فيه سواء في غرب آسيا الصغرى (ساحل تركيا الحالية الغربي على بحر إيجه)، أو في جنوب إيطاليا، أو في شمال أفريقيا ومصر.
اشتغل اليونانيون بالتجارة عبر البحار، لذلك توصف الحضارة اليونانية بأنها حضارة بحرية كالحضارة المسينية في كريت قبلها.
ازدهرت المدينة-الدولة كشكل للعمران والسياسة في هذه البيئة اليونانية، حيث قامت دول مستقلة في المدن، لا في رقعة واسعة كما هو الحال في مصر أو فارس وبابل. وحرصت كل مدينة على استقلالها، واشتهرت شبه الجزيرة وهي الموطن الأصلي للإغريق بعدة مدن مثل أثينا وأسبرطة وكورنثة وميجارا، وفي الشاطئ الغربي من آسيا الصغرة (موطن اليونان) نجد ملطية وساموس وقولوفون وافسوس وقلازومينيا. وفي جنوب إيطاليا كروتون وإيليا وأكراجاس في صقلّية، وقورينا في شمال أفريقيا.
وكون اليونان الاغريق هم نتيجة تغلب الدوريون القادمون من شمال أوروبا فقد سيطر على تنظيمهم الاقتصادي نمط الإنتاج القديم ونمط الإنتاج الجرماني، وهو ما ميزهم عن حضارة الشرق في مصر وبابل والهند والصين وشمال أفريقيا حيث سيطر نمط الإنتاج الاسيوي للإنتاج حيث تغيب في هذا الأخير الملكية الخاصة العقارية للأرض، ويبقى الامبراطور أو السلطان أو الخليفة هو المالك الوحيد. يقول ماركس في رسالة إلى انجلز سنة 1853: تجد السماء الشرقية تفسيرها في غياب الملكية العقارية الخاصة للأرض" (رسائل ماركس-انجلز)
[8]
الفن اليوناني
يمكن القول أن أحد مصادر الفلسفة اليونانية هو الفن (الدراما والقصة المسرحية والشعر الشفوي الانشادي والنحت). يقول الاهواني: ما لذي يحصل حين يصنع الفنان تمثالاً أو النجار مائدة؟ إنه يجد في داخل نفسه "مثال " المائدة أو المثال الذي سوف يحققه في التمثال، ثم يصوغ المادة ويصوّرها طبقاً لذلك المثال التخيلي المؤسس.
بعد ذلك يقع الاهواني في الخطأ حين يقول: "فالخالق عند أفلاطون، ولفظه Demiurage تفيد في الأصل الصانع الماهر، يتأمّل المثال حتى ينظم العالم" وهذا الكلام يقتبسه الاهواني من جان فال في كتابه "طريقة الفلاسفة"
يكمن خطأ الاهواني ومعه جان فال في أنه لم يميز ويفرق بين الخالق والصانع أو بين الخلق والتصوير أو الصنع. ونحن نلاحظ أن القرآن الكريم كان مبيناً في هذا الشأن بقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [الأعراف: 11] فلا تصوير من دون خلق، أي أن الهيئة والمكان يأتيان بعد تأسيس الزمان الجديد. قلنا في "اسم الوردة":
الحق أقول لكم
إن مبدأ الخَلْق
قائمٌ أصلاً
في توسّط العقل
بقوة السلب والنفي
مرّة يُجرّد المحسوس
من مادته
ومرة أعلى
ينفي ذلك التجريد ويتعين
ويوجِد الموجود
(اسم الوردة)
قال ابن عربي في خطبة "الفتوحات المكية: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه"
ففي إحداثية ديكارتية يتأسس محور العينات السماوي من ثم يفيض على المحور الأرضي، أي محور السينات فيخلقه من نور ذاته وقت القيامة ويكوّنه فنحصل على هيئة مثلث فيثاغورس القائم.
يفترض أرسطو أمر الخلق ويتحدث عن الصنعة. يقول الاهواني: "إذا كان أفلاطون قد استمد فلسفته من الرياضة والألعاب الرياضية وجمال الجسد والأخلاق والفن، فإن أرسطو يعوّل على الفن وحده في صياغة مذهبه، ويتخذ من التمثال نموذجاً لبيان كيفية وجوده، فمادته هي النحاس، والهيئة الموجودة في ذهن صانعه هي صورته، والصانع هو العلة الفاعلة، والزينة والكسب هو العلة الغائية." وهنا يظهر لدينا فاعلان: الخالق المصور والصانع. وهذا ضرب من الشرك إذا لم ننتبه إلى أن الصانع هو ذاته من عمل الخالق المصوِّر، خلق الصانع (ديموريج) في سلسلة الفيض من نور ذاته. وهذا ما يبينه القرآن الكريم بقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الانفال: 17] الصورة الاصلية مخلوقة من نور ذات الخالق، والنسخ عن هذه الصورة تُظهر الذرية، الخلق والتصوير لآدم والنُّسخ لذريته. فمن ظهور آدم جاءت ذريته، وظهور آدم معاصر دائماً، لهذا تكون ذريتهم من ظهورهم. فإذا ظهروا كان من آدم الذي يرافقهم دوماً في ظهورهم. جاء في القرآن الكريم قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172]
يبدو لدينا أن هذا الخلط بين الخالق المصور والصانع هو في أصل الحضارة الغربية، حضارة شمال أوربا التي نقلت إلى الاغريق عبر غزو البرابرة الدوريين لشبه الجزيرة اليونانية. يقول الاهواني: "لأن الاغريق لم يميزوا بين الفنان والصانع ". وهذا الخلط و"التصويف" بين النظرية والممارسة نجده لدى هيغل الذي لم يعرف الممارسة العملية الفعلية، فكانت الممارسة العملية ممارسة نظرية أي ضمن النظرية لا في العمل والفعل التاريخي. وهذا ما دفع ماركس لاتهامه بتصويف الديالكتيك أو منهج العلم التاريخي.
يقول الاهواني ملخصاً: "فالموجودات الطبيعية كالشجرة والفرس لا بد لها من علل أربع كما رأينا في الموجودات الفنية –الصناعية، هي المادة والصورة، والفعل والغاية "
كانت عناية اليونانيين بالفن عظيمة يدفعهم إليها عدة بواعث على رأسها الدين الميثولوجي في شكله الطبيعي التعددي الوثني، وما كان يتطلب من بناء الهياكل (البيوت؛ الكعبات) وتماثيل الآلهة وإنشاد التراتيل في الأعياد، وتمثيل قصص المسرحيات التي تصور حياة الآلهة ومآسيهم تشبهاً بمآسي الانسان. كانت الاحتفالات المسرحية والمباريات والمسابقات تقام على شرف الاله ديونيسوس (باخوس) وأبولون في دلفي. إن الخلط بين الخالق المصور والصانع، بين الفنان المبدع والصانع لدى الاغريق هو في أساس التشبيه بين الالهة والبشر. لهذا يقول الاهواني: "إن ديانتهم تأخذ بالتشبيه، وتشجع على عمل التماثيل حتى تستقر الالهة على الارض"
إن الاخذ بالتشبيه يعني التركيز على الجسد والجسدية، وجمال الجسد والمبارات الرياضية
يقول الاهواني: كانت الروح الرياضية مثلهم الأعلى، كانوا يمجدون أبطالهم برسمهم وعمل التماثيل لهم في مختلف الأوضاع الرياضية، كما كانوا يهبون الفائز جوائز مالية. وكان لديهم عشق الجمال الطبيعي ورغبتهم في تصوير الأجساد وتزيينها" وكل ذلك نابع من عبادتهم الطبيعية الوثنية، وهي العبادات التي اعترض عليها سقراط وتهكّم عليها وسخر منها.
"يتضح ذلك في محاورة "هيبياس" حيث يناقش سقراط فكرة الجمال وعلى أي أساس تكون، يريد أن يبلغ "مثال" الجمال أو "ماهيته". ونحن نعرف أن المثل الافلاطونية ثلاثة هي الحق والخير والجمال، وهي إن شئت ثلاثة في واحد (ثلاثة أقانيم) بمعنى أن الموجود يمكن أن ننظر إليه فلسفياً من ثلاثة وجوه: وجه الحق أو الخير أو الجمال. ولا ريب أن الفن نافذة نطل بها على الحقيقة " بتوسط الجمال الطبيعي الجسدي.
كان الصانع الماهر هو الفنان كما أسلفنا، والذوق حاسة الجمال تنشأ من إدمان النظر إلى الأشياء الجميلة. كانت الاقداح والقوارير والدنان تصنع على هيئة فنية جميلة؛ هيئة الانسان يتخذون مادتها من الفخار بعد حرقها في أفران خاصة. جاء في القرآن الكريم قوله: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن: 14]
كان من أشهر المثّالين (النحاتين)عند اليونان "فيدياس" الذي أصبح مضرب المثل.
كان الفن متغلغلاً في حياة اليونانيين ويشمل الموسيقى والشعر والرقص. واللفظة العربية (موسيقى) أصلها يوناني (Mousike)، والموسيقى داخلة في جميع مناحي حياة اليوناني، فهناك ابتهالات لديونيسوس، وترانيم الالهة، وأغاني النصر للأبطال، وأناشيد تغنى على الطعام والشراب، وأغاني للحب والزواج والحزن، وأناشيد يتغنى بها أصحاب كل حرفة كالغزّالين والنساجين والرعاة وعاصري الخمر، وهناك أيضاً الموسيقى الحربية التي تحث على الحرب والقتال. وعرف اليونانيون من الآلات الموسيقية الناي والقيثارة. فكان الشاعر الغنائي ينظم ويلحن ويغني بمصاحبة القيثارة، وقد عرفت المسرحيات اليونانية الأغاني الجماعية التي تنشدها الجوقة على المسرح بمصاحبة الرقص.
يعرّف أفلاطون الرقص بأنه الرغبة الفطرية في شرح الالفاظ بحركات الجسم كله. ويذهب أرسطو في كتاب الشعر إلى أن الرقص محاكاة الاعمال والأخلاق والانفعالات بواسطة أوضاع الجسم والحركات الايقاعية. وهذا يجري أيضاً على عمل الممثل وفن التمثيل.
يقول الاهواني: كانت صلة الشعر والموسيقى بالفلسفة وثيقة، فهناك فلاسفة صاغوا فلسفتهم شعراً مثل بارمنيدس وإنبادقليس، ولو أن أرسطو طعن في شعر انبادقليس ونفى عنه صفة الشعرية. كانت الموسيقى من جملة المنهج الذي رسمه أفلاطون لطالب الفلسفة. وهذا سقراط ينظم الشعر قبل وفاته حين كان في السجن، فلما سئل عن ذلك أجاب بأن وحياً كان يحدثه على الدوام يأمره بإنشاد الشعر والموسيقى، لأنها تبعث على دراسة الفلسفة.
وقد بقيت الفلسفة العربية الإسلامية في عصر ازدهارها وفيّة لهذا المبدأ فاشتغل الكندي بالموسيقى وألف فيها رسالة، وابتدع الفارابي أصول هذا العلم حتى سمي من أجل ذلك "المعلم الثاني" بعد أرسطو، لأنه وضع التعاليم الصوتية كما "المعلم الأول" وضع التعاليم المنطقية. وذلك في "كتاب الموسيقى الكبير". وكذلك الحال بابن سينا الذي ألف كتاب الموسيقى وهو جزء من الشفاء. ويروى عن الفارابي وابن سينا قصص كثيرة عن اشتغالهما بالعزف وبراعتهما فيه.
[9]
رأي أرسطو في التجربة والفن والعلم
"يستهل أرسطو كتاب ما بعد الطبيعة بالتمييز بين الإحساس والتجربة والفن والعلم والفلسفة" (الاهواني) والتمييز بين الإحساس والتجربة الحسية أن هذه الأخيرة تأتي لجهة الممارسة العملية. أي الأولى حسية والثانية حركية عملية، ولها صفة التكرار المقصود بالاعتماد على الذاكرة. يقول أرسطو: الحيوان يقف عند حدود التخيل والتذكر (الدالات المنفردة) ولا يكاد يوجد عنده التجربة، أما الانسان فيرتفع إلى مرتبة الفن (التقنية) والاستدلال logismos
تقوم التجربة عند الانسان على أساس الذاكرة، وينشأ عن التجربة الفن (التقنية) techne والعلم (المعرفة) episteme والفن الذي يقصده أرسطو هو التقنية أو التطبيق العملي القائم على المعرفة النظرية، أو على مجرد التجربة المتكررة والخبرة. والفن والمهارة أو التقنية هي التي جرت في الاصطلاح الحديث بمعنى التكنولوجيا Technology أي المهارة في الصناعة. التجربة المفردة تكون من دون معرفة نظرية، بينما التقنية والفن والمهارة تكون عن معرفة نظرية وخبرة. التجربة مجردة غير مقترنة بالعلم والمعرفة النظرية، بينما التقنية والفن مقترنة بالعلم والمعرفة النظرية. وهنا علينا التمييز بين التجربة من جهة والتجربة العلمية الحديثة من جهة ثانية.
يبدأ أرسطو قوله إن الرغبة في المعرفة موجودة عند جميع الناس بالفطرة، وآية ذلك اللذة الحاصلة من الحواس، فهي (موجودة في المعرفة) بصرف النظر عن نفعها تجلب لذاتها اللذة، والبصر أعظمها لأنه سبيل معظم المعارف الإنسانية"
وكان القرآن الكريم قد ميز بين "علم اليقين" القائم على السمع أساسا وبين "عين اليقين" القائم على البصر والنظر حقيقة وبعدهما الربط على القلب والايمان. ولهذا جاء ترتيب الحواس أن السمع يسبق النظر في المعرفة. جاء في سورة بني إسرائيل: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الاسراء: 36]
يقول الاهواني: للعلم عند أرسطو طريق آخر خلاف التجربة هو الإحساس، الذي يعد أساس المعرفة بالجزئي، ولكن الإحساس لا يبين علّة الشيء ولا يفيدها. وقد كان الإحساس ثم التجربة (تكرار الفعل وملاحظة النتيجة) سبيل الانسان أول الامر إلى الكشف. يقودهم في ذلك تحقيق المنفعة أو اللذة (لذة الكشف والمعرفة). ومن هنا نشأت الفنون لتحقيق هذين الغرضين معاً. ولهذا السبب جاء قول غاليليو: "إن المعرفة من أعلى مسرات الجنس البشري."
أما القول بأن العلم لا يحقق منفعة ولا يشبع لذة، فهو قول خاطئ لأن العلم معرفة تحقق الامرين معاً. لذة الكشف العلمي، والنفع في تطبيقات العلم التقنية والصناعية. وقد نشأ العلم في البلاد التي يوجد فيها وقت فراغ للتأمل والبحث، فكانت مصر بذلك مهد العلم الرياضي الهندسي والطب والفلك إذ كان الكهنة في فراغ ييسر لهم البحث العلمي. وهذه سمة حضارة أودية الأنهار الكبرى كما هو الحال في بلاد الرافدين لدى الكلدان أو الكهنة البابليين حيث ازدهر علم الفلك والرياضيات.
وفي تعريفه للفلسفة يقول أرسطو أنها أعلى العلوم وأسماها منزلة لأنها تبحث عن العلل الأولى ومبادئ الموجودات.
[10]
مصادر العلم اليوناني
يتلخص رأي أرسطو السالف الذكر في كون المُجرِّب أعلى من صاحب المعرفة الحسية، والفنان الصانع المبدع أسمى من المجرِّب، والمهندس أرفع من البنّاء، والعلوم النظرية أعلى من العلوم العملية، والحكمة النظرية أعلى من العملية لأنها تحكمها وتهيمن عليها.
وقد ذكرنا الفن أو التقنية والصناعة عند اليونان وهو يتميز عن الفن الحديث الذي يقتصر على "الجميل". بقي علينا أن نوضح معنى "العلم" أو بشكل أدق المعرفة (والعِرفان والتعرف) episteme عند اليونانيين. إنها تدل على المعرفة اطلاقاً سواء أكانت مستمدة من الحواس أو الخبرة والتجربة أم من العقل والمحاكمة العقلية. لكن العلم في الاصطلاح الحديث Science يدل على البحث المنظم في الظواهر للوصول إلى كشف القوانين الباطنية. أو هو مجموعة المعارف والبحوث التي تتصف بالوحدة والعموم وتؤدي إلى نتائج متناسقة، ولا تقوم على تحكّم الفرد أو ذوقه أو مصلحته، بل على العلاقات الموضوعية بين الأشياء، مما يكشفه العلماء شيئاً فشيئاً ويثبتون صحته بالمناهج العلمية المعروفة وبالتجارب العلمية الحديثة. والعلماء قادرون على إعادة تكرار الظاهرة العلمية ونتائجها عبر التجربة العلمية.
تختلف هذه النظرة الحديثة إلى العلم عن "العلم" الذي بدأ بالكهنة المصريين والكلدان، من ثم أخذه طاليس وازدهر على يد أرسطو واستمر طوال العصر الوسيط.
يقيم ألتوسير فرضيته على هذا الالتباس في مفهوم العلم، والتي مفادها أن كل نهضة فلسفية تسبقها نهضة في العلوم، ويعطي مثالاً على ذلك فلسفة أفلاطون وأرسطو وكيف سبقتها علوم طاليس والمدرسة الايونية عموماً. إن التوسير لا يقيم وزناً لهذا التمييز الحاسم بين "العلم" اليوناني فجر الفلسفة اليونانية والذي هو ضرب من المعرفة العامة التي تجمع علوم الفلك والهندسة والحساب والطب إلى الدين والفلسفة والميثولوجيا، وبين العلم الحديث في بحوثه وتجربته العلمية وتخصصه وانفصاله عن الفلسفة والدين والميثولوجيا. يقول التوسير: " الفلسفة لا توجد ولا تزدهر وتتجدد إلا حيث تكون هناك علوم. لا يمكن أن توجد الفلسفة إلا متأخرة عن التحريض العلمي. فالفلسفة اليونانية القديمة ازدهرت مع أفلاطون بفضل التقدم الذي عرفه آنذاك علم الرياضيات بعدما تأسس على يد طاليس " (عصام نجادي: مفهوم فلسفة العلماء العفوية عند ألتوسير)
"عندما نتحدث عن "العلم" اليوناني يجب أن نضع في بالنا دائماً هذا الاختلاف فلا نخضعه للنظرة الحديثة " (الاهواني) كما فعل ألتوسير حسب رأينا.
يقول الاهواني: "وقد درج المؤرخون في القرن التاسع عشر على القول بأن الفلسفة اليونانية بدأت بالمدرسة الايونية وعلى رأسها طاليس صاحب المدرسة العلمية الطبيعية، فحقق بذلك "معجزة" كبرى، لأنه ابتكر العلم ابتكاراً لم يسبقه إليه أحد. غير أن المؤرخين في القرن العشرين بدأوا يغيرون من حكمهم السابق، وبخاصة بعد ظهور اكتشافات في مصر وبابل، وبعد فك طلاسم أوراق البردي التي عثروا عليها."
وكنا قد نقلنا رأي المعلم الأول أعلاه والذي دوّنه في صدر كتاب ما بعد الطبيعة، وفيه يعزو العلم الرياضي (والهندسة) إلى المصريين. هذا إلى أنه من المعروف أن كثيراً من فلاسفة اليونان تلقوا العلم في مصر ومنهم طاليس (الهندسة) وفيثاغورث وأفلاطون " وفيثاغورس تتلمذ في بابل على يد الكهنة الكلدان البابليين أيضاً.
وقد ظهرت في العالم القديم ثلاثة "علوم" هي ثمرة الحاجة الإنسانية. وهذه العلوم هي الفلك والطب والرياضيات بفرعيها الحساب والهندسة. وعرفت مصر الجراحة وعلم التشريح كما يتضح من أوراق البردي. إن "بردي سميث" تظهر ذلك وتبين التشابه بين أقوال الطبيب كاتب البردي وبين أقوال منسوبة لأبقراط اليوناني الحكيم. مع أن بردية سميث يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد، وأن أبقراط (هيبوقراطس) عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. أي بعد ذلك التاريخ بألف وثلاثمائة عام.
يصف فارينجتون (العلم في العصر القديم) طب المصريين بأنه يخلو من السحر، وأنه مكتوب بروح وضعية، وأنه ثمرة ملاحظات (وتجارب) طويلة اجتمعت على مر السنين مع التأمل والتفكير. لم تكن الحال في طب الكلدان البابليين الذين خلطوا هذا العلم بالدين وذهبوا إلى أن الامراض من غضب الالهة، ووضعوا العلاج الذي يجلب رضاها.
أما البابليون فقد برزوا في علم الفلك، وأنهم أول من اهتدوا إلى رصد الكواكب في سيرها وانحرافها وانتظام حركاتها أو اختلالها. وهم الذين قسموا السنة اثني عشر شهراً في كل منها ثلاثون يوماً فكانت السنة 360 يوماً. ولذلك كانوا يضيفون كل ست سنوات شهراً فتصبح السنة ثلاثة عشر شهراً. فإذا قسمنا 30 يوماً على 6 كان الناتج خمسة أيام نقص وتأخير في السنة وهو ما يسمى عند المصريين القدماء بالنسيء أو الشهر الصغير يضاف إلى أيام السنة 360 فتصبح 365 يوماً. يقول الاهواني: أما المصريون فقد جعلوا السنة 365 يوماً بعد أن أضافوا إليها خمسة أيام سموها الأيام السماوية أو المقدسة يحتفلون بها ويجعلونا أعياداً. ولما تبين لهم أن السنة تزيد بمقدار ربع يوم على الأيام البسيطة ال 365 يوماً فقد أضافوا سنة كل 1460 سنة. وهذا الرقم ناجم عن قسمة 365 على ربع يوم أي حاصل ضرب 365 في 4. وقد عرفوا سر ذلك الانحراف من رصدهم النجم المعروف بالشعرى، وهو النجم الذي يتفق ظهوره مع فيضان النيل، ذلك أنه عند الانقلاب الشمسي في الصيف يظهر نجم الشعرى لأول مرة قيل شروق الشمس في الأفق من جهة الشرق" فتحرقه الشمس بظهورها وتزيله، فيسمى ظهوره هذا بالشروق الاحتراقي للشعرى. والشعرى هي النجم الوحيد الذي ذكره القرآن الكريم بالاسم غير الشمس والقمر بقوله: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ) [النجم: 49]
وعرفوا أيضاً الكسوف والخسوف. وأكبر الظن أن طاليس حين تنبأ بالكسوف إنما استمد العلم به من البابليين. ويذهب فارنجتون إلى أن أرصاد البابليين التي أجروها سنوات طويلة متعاقبة كانت دقيقة وأصبحت مادة لعلم الفلك فيما بعد.
وقد برز المصريون والبابليّون في العلم الرياضي (الحساب والهندسة)، وعلامة ذلك بناء الاهرامات التي تشير إلى علم واسع بالهندسة. والأرجح أن طاليس زار مصر ودرس فيها الهندسة بوجه خاص. (فجر الفلسفة: 48) وقد وصف العلماء المحدثون رياضة المصريين من أوراق البردي المعروفة باسم Rhind، ومنها يظهر انهم عرفوا الحساب وعلم العدد والجمع والطرح والقسمة، وكانوا يجرون عمليات الضرب على أساس الجمع وعمليات القسمة على أساس الطرح. وعرفوا كثيراً من خواص الاعداد والكسور ومساحة الدائرة. وقد تعلّم على أيديهم طاليس وفيثاغورس وأفلاطون، وشهد لهم أرسطو.
[11]
نشأة العلم الإلهي
الأصل الثالث الذي صدرت عنه الفلسفة اليونانية هو الدين الميثولوجي. بعد أن تكلمنا عن الفن والعلم.
يقول الاهواني: شغل الدين بال الفلاسفة جميعاً، وتأثروا به على أنحاء مختلفة، وكان لهم فيه آثار تتمثل في ذلك الصراع الذي نشأ ما بين الدين والفلسفة منذ عصر الفلسفة اليونانية ولا يزال مستمراً. وآية ذلك الصراع اتهام سقراط بإنكار آلهة اليونان والحكم عليه بالإعدام."
من الملفت لنظر الباحث تزامن ولادة الفلسفة اليونانية مع ولادة الدين التاريخي أو دين الأنبياء في القرن السادس قبل الميلاد. فقد تزامنت ولادة زارادشت مع ولادة طاليس. وهذا معناه أن صراع سقراط مع ألهة اليونان الوثنية لم يكن صراع الفلسفة اليونانية في لحظة النضج مع الالهة الوثنية فحسب، بل كان صراع الدين التاريخي الباطني التوحيدي الجديد مع الدين الطبيعي اليوناني الوثني بآلهته المتعددة المؤنثة والمذكرة، وقد أبقت المسيحية الوليدة لنا "مريم" كتذكار من الديانات الطبيعية الغابرة، كما ترك لنا الإسلام الكعبة والحجر الأسود كتذكار طبيعي كذلك.
إذاً صراع سقراط لم يكن صراعاً بين الفلسفة اليونانية والدين الطبيعي وتسفيه آلهته، بل كان صراعاً بين الدين الطبيعي التعددي الوثني وبين الدين التاريخي الباطني التوحيدي. ونحن نجد هذا الصراع المرير بين المسيحية المبكرة والأديان الوثنية، ونجد صورة أوضح في الإسلام المحمدي. جاء في القرآن الكريم قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء: 98] أي أنتم وأصنامكم وقود جهنم.
وما يعزز من استنتاجنا قول الاهواني بعد قوله السابق مباشرة: "وقد انتهت الفلسفة اليونانية بتصور جديد للدين سمي منذ عهد أفلاطون باسم أثولوجيا theologia؛ علم اللاهوت أو النظر العقلي إلى الدين" [دين غنوصي] وهذه الاثولوجيا المشتقة من لفظة "ثيوس أي إله" هي تألّه الأشخاص أو الربوبية والقداسة. وهي سمة للدين التاريخي (دين الأنبياء والرسل) بأشكاله المختلفة (زرادشتية، يهودية، مسيحية، إسلام). وقد اشتهر سقراط بعبارته الخالدة: اعرف نفسك! وعبارة أفلاطون وأرسطو: من عرف نفسه فقد تألّه!
لفظة ثيوس تعني إله، ولوغوس تعني قول علم وحق، هكذا تكون أثولوجيا هي اللوغوس الإلهي أو الكلمة الإلهية التي هي المسيح عيسى أو يسوع المسيح. جاء في القرآن الكريم قوله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) [النساء: 171] ويقول: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) [المائدة: 75]
إن نفور أفلاطون من الشعراء (هوميروس وهسيودوس) هو نفور من تصويرهم الالهة بصفات كصفات البشر، أي تكريس للتشبيه وللدين الوثني الطبيعي، ونشاهد هذا النفور من الشعراء الذين يكرسون الدين الطبيعي الوثني في الإسلام المحمدي. (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) [الشعراء: 224]. يقول الاهواني: "في (كتاب) الجمهورية أراد أفلاطون أن ينشئ بعض القواعد الفلسفية للشعر تصحح ما جاء على لسان هوميروس وهزيود بوجه خاص والشعراء بوجه عام، وتستبدل بالحقائق القلسفية (الغنوصية) ما كان يراه الشعراء من تصورات عن الالهة. فقد كانت آلهة اليونان كما تخيلها الشعراء متصفة بسائر صفات البشر وما فيهم من ضعف، مما لا يتفق مع فكرة سقراط وأفلاطون عن الله". "
أقول لكم
هناك حكمة غامضة
تجعلنا
نسمي أحداثاً مختلفة فيما بينها
بعبارات مماثلة
هي نفسها التي تجعلنا
ندلُّ على الأشياء الإلهية
بأسماء أرضية
(اسم الوردة)
"ولما كانت الطرق إلى معرفة الله تفترق والسبل إلى توحيده تختلف" (كتاب الأُصيْفر: 11) بين فلسفة غنوصية ودين تاريخي وميثولوجيا دينية، جاء قول القرآن في ذلك: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الانعام: 153]
يقول الاهواني: وقد ميز القديس أوغسطين في كتابه "مدينة الله"، حين عرض لتاريخ الدين عند الاغريق ثلاثة أنواع: الدين الميثولوجي، والدين السياسي، والدين الطبيعي. وقد أخذ أوغسطين هذا التقسيم عن مؤلف سابق هو ترنتيوس فارو الذي عاش في روما (116-27 ق.م) وألف كتاباً في الأمور الإلهية، وأراد أن يوفق فيه بين عبادة الرومان للآلهة المتعددة (الوثنية) وبين الاثولوجيا (التوحيد الغنوصي الباطني) التي قال بها أفلاطون وأفلوطين وأرسطو والرواقيون، الرواقيون الذين يشبهون الصابئة. وقد جعل أرسطو الأثولوجيا أو العلم الإلهي (التأله والربوبية والالهيات) مرادفاً للفلسفة الأولى لأن البحث في هذا العلم هو أشرف مباحث الميتافيزيقا."
يقدم الاهواني صياغات خاطئة مرة أخرى بخصوص ميلاد الدين الطبيعي وما يتعلق به من ميثولوجيا، بخلطه مع بدو الدين التوحيدي الميثولوجي الباطني. فالدين الطبيعي والسياسي (أعياد المدينة وآلهتها) والميثولوجيا موجودة قبل مجيء طاليس في القرن السادس قبل الميلاد. فإذا تم تظهير الدين الطبيعي فهذا بسبب ظهور الفلسفة وبدايات الدين التاريخي الجديد المتأثر بالدين المصري والكلداني عبر طاليس وفيثاغورس ولاحقاً سقراط وأفلاطون.
يقول الاهواني: يبدأ الدين الطبيعي في الظهور مع ظهور الفلاسفة وعلى رأسهم طاليس" والاجدر أن يقال: يبدأ طرح مشكل الدين الطبيعي مع ظهور الفلاسفة وعلى رأسهم طاليس" وهذه الصياغة أكثر تناسقاً مع الاقوال اللاحقة للأهواني حين يقول: "وكان نظرهم (الفلاسفة قبل سقراط) معارضاً للدين الميثولوجي ومعتمداً عليه ومعدلاً إياه من جهة، وللدين السياسي وما فيه من عبادات وأعياد من جهة أخرى" وباعتبار أن للدين الطبيعي ميثولوجيا خاصة به وكذلك الدين التاريخي فسوف يظهر الاعتماد على الميثولوجيا في الدين الجديد. ولذلك تكون الصياغة أكثر تناسقاً بقولنا: وكان نظرهم معارضاً للدين الطبيعي الميثولوجي ومعتمداً عليه ومعدلاً إياه، ومعه الدين السياسي إلى دين تاريخي ميثولوجي (إلهي ربوبي توحيدي).
ثم يعود الاهواني إلى النغمة الخاطئة التي سبق ذكرها بخصوص الصراع بين الفلسفة والدين، وهي أصلاً صراع بين الدين الطبيعي الميثولوجي من جهة وبين الدين التاريخي الغنوصي الذي وضع الفلاسفة اليونان أساسه العقلي. وهذا ما يؤكده الاهواني بقوله: وقد امتدت آثاره إلى حياة الفلاسفة أنفسهم، حتى لقد أعدم سقراط وهرب أرسطو من أثينا بتهم وجهت إليهما كما وجهت إلى غيرهما باسم الدين (الطبيعي الميثولوجي القائم).
[12]
أعياد اليونانيين
كانت لليونانيين أعياد ثلاثة رئيسية:
1-عيد زيوس 2-عيد ديميتر 3-عيد ديونيسوس
عيد زيوس إله الالهة هو الأهم، ويسمى Diasia
العيد الثاني هو عيد الاله ديميتر وابنته كوري ويعرف بعيد الخصب والتكاثر (التناسل). ويسمى تسموفوريا Thesmophoria
العيد الثالث هو عيد خاص بالاله ديونيسوس Dionysus إله الخمر، حيث تفتح دنان الخمر فتخرج منها أرواح الموتى إلى الفضاء. الاروح تتخمر في الدنان والعيد ممارسة رمزية طقسية للتعبير عن يوم القيامة والنشور حيث تخرج أرواح الموتى من الدنان، وتختفي الاطياف، أطياف أرواح الموتى ويزول الخوف منها.
قلنا في هاملت أو الوليمة المسمومة:
"يظهر الطيف عند منتصف الليل، وما أن يصيح الديك حتى يختفي
لأن ظهور المخلص يجعل الأطياف تختفي من جميع الليالي. ما أن
يتم اصلاح الزمن حتى تنشر أجنحة أرواح الموتى جميعها وتتكسر
مرسلس: لقد تلاشى مع صياح الديك
يزعم بعضهم أنه عندما يحين موسم عيد ميلاد المسيح،
يغني طير الفجر الليل بطوله،
وعند ذلك يزعمون أن لا روح تقوى على التطواف،
فتمسي الليالي نقية، ولا تسقط الشهب،
ولا يؤذي الجن أحداً، وتعجز كل ساحرة عن سحرها
تلك فترة مقدسة ملؤها الخير. "
(نايف سلوم: مقالات في نقد الادب: 53)
هذه الأعياد كانت قديمة قبل أن تسود الالهة الأولمبية، وظلت متوارثة دون أن يعرف الناس السر في أصلها القديم. واستمرت شائعة حتى العصور المتأخرة، وكان بعضها من الاسرار التي يحتفظ بها الكهنة.
كان الكهنة موظفين عند الدولة، وكان تدينهم تدين وظيفي نفعي لإخضاع الشعب. يقول الاهواني: "أما الكهنة فكان عددهم كبيراً، تعينهم الدولة، وهم الذين يقومون بالوظائف الدينية في الأعياد المختلفة، ويرتبون مراسمها من أضاحي وموسيقى وأشعار وترانيم وغير ذلك. وكانوا يكسبون من ذلك مالاً وجاهاً. ويؤمن الشعب بما يعلمهم الكهنة إيماناً أعمى"
نجد في محاورة أوطيفرون صورة لهذا الاعتقاد الاعمى المتعصب بتعاليم الكهنة. حيث يلتقي أوطيفرون بسقراط في المحكمة يريد أن يرفع الدعوى على أبيه بتهمة الفجور، والخروج على طاعة الالهة حسب تعاليم الكهنة. يُضيّق سقراط على أوطيفرون الخناق في المحاورة، حتى يعترف في النهاية بأن الإحاطة بالأمور الإلهية من الصعوبة بمكان" ولا يحق للإنسان أن يكفّر أخاه الانسان في المسائل الإلهية. جاء في القرآن الكريم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج: 17] لا يحق لبشري أن يكفّرهم ويحكم عليهم، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
غير أن سقراط الذي حمل لواء الثورة على الدين الوظيفي القائم، الميثولوجي الطبيعي كما نجده مصوراً في أشعار هوميروس وهزيود (هسيودوس)، نجده يحمل الود العظيم لنحلة باطنية توحيدية سرية وفدت على اليونان من الشرق، وفاحت منها رائحة الزهد والتصوف، هي النِّحْلة الاورفيّة.
[13]
هوميروس والالياذة
كان هوميروس بالنسبة للإغريق اليونانيين شاعر الامة ومعلمها ولسانها الناطق. كانت الالياذة عندهم أشبه بالإنجيل عند المسيحيين، والقرآن عند المسلمين. وكانوا يحفظونها عن ظهر قلب في صباهم، فتكون بذلك أساس تعلم اللغة والشعر. وهي تؤرخ بطريقتها لفترة من تاريخ الاغريق اليونانيين تسمى العصر الهوميري تقع بين القرن الثاني عشر والقرن العاشر قبل الميلاد.
تعد حرب طروادة أخطر حوادث الالياذة، وقد استمرت الحرب عشر سنين، وظل المحدّثون في ريب من صحتها التاريخية، وظنوا أنها من خيال الشعراء حتى أثبتت الحفريات الأخيرة التي بدأها "شليمان" عام 1868 وجود أسوار طروادة وكثيراً من مخلفات الحضارة المسّينية الدالة عليها. يقول الاهواني وهو محق في ذلك: إن السبب الحقيقي لهذه الحرب هو النزاع على السلطان بين الغرب والشرق. فلم تنقطع الغزوات بين اليونان وجيرانها في الشرق القريب في آسيا الصغرى، بل لقد امتدت الحرب إلى الفُرْس، واتخذ الصراع صوراً شتى في وقت لاحق بين الفرس والروم (البيزنطيين)"
كانت الالياذة ديوان الشعر وذخيرة اللغة وأصل التاريخ، كانت كذلك المثل الأعلى الذي يستمد منه الشعب أخلاقه كالنبل والفضيلة وآداب السلوك والشجاعة والعفة والتقوى وغير ذلك مما ساد الشعب اليوناني حتى القرن الرابع قبل الميلاد. عندما ظهر أفلاطون انتقد الاخلاق الهوميرية ممثلة في أشعاره نقداً شديداً في الجمهورية، حيث يقول: إننا نعجب بهوميروس ولكننا لا نعجب من الرؤيا الكاذبة التي أظهر أغاممنون عليها في المنام، فهذه أشعار تثير العواطف نحو الالهة وتبعث على الغضب ولا نسمح للمعلمين في الدولة (دولة أفلاطون التخيلية الجديدة) أن يلقنوها حراس المدينة"
إن موقف أفلاطون من شعر هوميروس ونقده الشديد للشعر قريب الشبه إلى حد ملفت بموقف النبي محمد من الشعر الجاهلي ونقده اللاذع له في قول القرآن الكريم: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224، 225، 226]
أخطر ما في الاشعار الهوميرية من أثر فلسفي هو فكرة القضاء والقدر وفكرة الضرورة، وقد تسربت الفكرتان إلى فلاسفة اليونان، وأخذوا بهما في تفسير الموجودات الطبيعية والاعمال الإنسانية. يتحدث الخصيبي عن القضاء والقدر في الباب الرابع عشر من كتاب "المائدة" بالقول: "سأل المقداد مولانا أمير المؤمنين (علي) عن القضاء والقدر فقال: ما ابتدأ الله عباده بضلال ولا عذبهم بغير فعال لم ينه عن الطاعة وقد أمر بها ولم يأمر بالمعصية وقد نهى عنها لا يعصى بغلبة ولا يطاع بإكراه هو المالك لما ملكك والقادر ما عليه أقدرك شاء أن تكون مستطيعاً لما لم يشاء أن تكون فاعله والخير من الله والسوء من أنفسكم إن الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلّف يسيراً وجعلك مخيّراً قديراً" (كتاب المائدة: 81)
يقول الاهواني: ليس التفسير الطبيعي الذي يرد الكائنات إلى صورة ثابتة لا تتغير، كالبذرة التي تنمو فتتحول شجرة هي هي بعينها إلا تطبيقاً لفكرة الضرورة التي تخضع لها حياة الالهة والبشر على السواء في أقاصيص هوميروس"
وأقول لكم: إن خضوع الالهة للضرورة الطبيعية تعني أن الالهة في شعر هوميروس غير مفارقة للطبيعة بالتالي فإن الدين المتضمن في الالياذة هو دين ميثولوجي طبيعي وثني يتشابه فيه البشر والالهة. وهذا هو سر نفور أفلاطون من الشعر الهوميري لأنه يُعلّم الوثنية والتشبيه، وهو عين السبب الذي جعل النبي محمد ينفر من الوثنية وعبادة الطبيعة وأصنامها من خشب وحجارة. إن الضرورة الطبيعية والتكرار الجبري للأشياء يجعل من فكرة الخلق والتجديد ضرب من الاستحالة. من هنا نفهم لماذا ينكر مذهب وحدة الوجود الذي يُماهي ويوحد بين الله ونظام الطبيعة فكرة الخلق وفكرة الاعجاز وبالتالي ينكر فكرة التاريخ والتجديد.
يرى كثير من المؤرخين أن الالياذة قد صورت الانسان بطلاً من الابطال، وأنها قللت من شأن الالهة حتى أصبح موقفها أشبه بشخصيات الشعراء وليست أرباباً يقدسها البشر ويعبدونها.
وعلى الرغم من أن فكرة القضاء والقدر، أو الجبر، هي المسيطرة في أقاصيص هوميروس عن الابطال إلا أن الانسان يستطيع مع ذلك أن يفكر لنفسه وأن يختار دربه، وأن يصنع حياته حسب ما يهوى. مثال ذلك حين غضب "أخيل" وترك جيش أجممنون. وكان ماركس يرى أن الانسان الذي هو نتيجة التربية والظروف هو الذي يغير الظروف وشكل التربية، بحيث أن المربي بحاجة إلى تربية. يقول: "إن المذهب المادي القائل إن البشر نتاج الظروف والتربية، وبالتالي إن البشر المتغيرين هم نتاج ظروف أخرى وتربية متغيرة، ينسى أن البشر هم الذين يغيرون الظروف وأنه من الأمور الأساسية تربية المربي نفسه. إن التطابق بين تغيير الظروف وتغيير الفاعلية الإنسانية لا يمكن تصوره وفهمه بصورة عقلانية إلا من حيث هو ممارسة ثورية" (ماركس: موضوعات عن فيورباخ-الموضوعة 3)
إن المذهب الطبيعي والمذهب "الربوبي" في وحدة الوجود يقود إلى الالحاد وإنكار دور الالهة. إن نقد هذا التصور الديني الميثولوجي الطبيعي ذي القالب الشعري، بتأثير من الدين الشرقي في مصر وبابل، كان في أساس ظهور الفلسفة في القرن السادس.
[14]
هسيودوس (هزيود)
لم تبلغ شهرة هزيود ما بلغته شهرة هوميروس. الأرجح أنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد بعد هوميروس. ولد هزيود في غرب آسيا الصغرى، ورحل مع أبيه إلى اليونان واستقر في مدينة أسكرا من أعمال بيوتيا. كانت الاسرة فقيرة يشتغل أفرادها بالزراعة والرعي، وأخذ هزيود ينشد الشعر وهو يرعى قطعان الغنم في سفوح جبل هليكون فنبغ في النظم ونال جوائز على قصائده وأشهرها: "أنساب الالهة"، و"الاعمال والأيام". ويبدو أن مسألة رعي الغنم ونزول الوحي والنبوغ هي سمة للأنبياء المرسلين كموسى ومحمد. ففي حديث منسوب للنبي محمد قال: "بُعث موسى وهو راعي غنم، وبُعث داود وهو راعي غنم، وبُعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد"، هكذا بُعث هسيودوس وهو يرعى غنم أهله "في سفوح جبل هيلكون" القريب من الشاطئ الشمالي لمدينة كورينثة. وجبل هليكون مقدس في الميثولوجيا الاغريقية.
قلنا في كتاب "الاعمال والايام في الخلق": "ولهزيود الشاعر اليوناني قصيدة طويلة مهمة هي كتاب "الأعمال والأيام" وله كتاب آخر هو "أنساب الِلهة" حيث يفرق بين الإلهي والبطولي، بين الميثولوجي (التخيلي) وبين المأساوي، بين الفعل الإيمانيّ من جهة والفعل البطولي المأساوي من جهة أخرى. بين الإلهي والبشري.
وهسيود أو هزيود أو هزيودوس (750-650 ق.م) هو أول شاعر كتابي (بعد المنشدين الشفاهيين كهوميروس) في التراث اليوناني.
يعد هزيود نفسه شخصية متفردة لها دور فعال (مؤلف؛ خالق) في الموضوع الذي يكتب عنه، يعزا إليه خلق دين جديد وطقوس دينية جديدة لليونانيين، يعده الباحثون الحديثون مصدراً مهماً للميثولوجيا اليونانية وتقنياتهم الزراعية وأفكارهم الاقتصادية المبكرة، حيث يعتبر أول اقتصادي في التاريخ الغربي. كما علم اليونان الفلك القديم وقياس الزمن، وابتكر أدوات قياس الزمن القديمة وصنع لهم التقويم بما يشبه عمل تحوت أو توت (تات؛ ابن هرمس) للمصريين. (نايف سلوم: الاعمال والايام في الخلق: 9)
يشير هزيود في قصيدته "أنساب الالهة" إلى أنه في الاصل كان العماء Chaos. ويتحدث في قصيدة "الأيام والاعمال" عن الأدوار (العصور) الأربعة التي مر بها الجنس البشري: العصر الذهبي، والعصر الفضي، والعصر النحاسي، والعصر الحديدي. يقول الاهواني: "وحين يشير أفلاطون في محاورة القوانين إلى الخيط الذهبي الذي يقود الانسان إلى الخير، إنما يستعير الفكرة من تلك القصيدة". والراجح أن العصر الذهبي هو العصر المؤسس لما بعده، كعصر صدر الإسلام وفعله المؤسس، حيث يأتي بعد انقلاب تاريخي اجتماعي كبير يعمل قطيعة تاريخية مع الفترة التي سبقته. ولهذا نرى الالهة عند هزيود شبيهة بالبشر إلا أنها خالدة وهو فان. بمعنى آخر تظهر الالهة عبر البشر كفعالية تاريخية منتجة تخلد القائمين بها كالنبي محمد في قيامته بالدعوة وعيسى في قيامته من بين الأموات. وقد انتقلت فكرة الخلود من الميثولوجيا اليونانية إلى الفلسفة وظلت تسيطر على الفكر البشري حتى اليوم. ولا غرابة أن نجد أرسطو يصف العقل الفعّال (العقل الاوّل) في الانسان بأنه خالد.
قلنا في "رسالتان في العقل": "إذن المعقول في النفس لجهة النفس غيره المعقول في النفس لجهل العقل الأول (الفعّال). أما من جهة النفس: فالعقل والمعقول شيء واحد، أما من جهة العقل الأول (الفعّال العاشر) فالعاقل غير المعقول لجهة اختلاف ترتيب الصور، وإعادة التوجيه من جديد. العقل الذي فيه العقل والمعقول واحد هو العقل البسيط الاشبه بالنفس. وهذا غير مفارق وغير خالد، لأنه حتى يكون كذلك يجب أن يخضع لإعادة الترتيب والتوجيه بشكل مغاير. ومتى حصل ذلك أصبح العقل بالفعل عقلاً مستفاداً واتصل بالعقل الأول الفعّال لجهة فعله، العاشر لجهة ترتيبه في سلسلة الفيض أو الصدور" وأصبح خالداً. (رسالتان في العقل: 8) يقول أرسطو في كتاب النفس عن العقل الفعّال أو الأول: "ولا نستطيع أن نقول إن هذا العقل يفعل تارة ولا يفعل تارة أخرى، وعندما يفارق يصبح مختلفاً عما كان بالجوهر، وعندئذٍ يكون فقط خالداً وأزلياً، ومن دون العقل الفعال لا نعقل" (في النفس)
[15]
أورفيوس والنِّحْلة الاورفيّة
كان أورفيوس صاحب النحلة الاورفيّة أجنبياً من طراقيا (بلغاريا)، فضلاً عن أنه رحل إلى الشرق وتأثر بدياناتهم وما عندهم من صوفية وأسرار مما كان غريباً على الشعب اليوناني. وكان أورفيوس شاعراً وموسيقياً وواعظاً دينياً. هو المعلم والنبي الذي يعرف الاسرار ويفسرها، مثل أصل الالهة وطبيعتها، والطريق الذي ينبغي للناس سلوكه في الدنيا والآخرة، والقواعد التي تجري عليها النفس لتبلغ مقرّها الصحيح. كان يعلم تلاميذه رقى وتعاويذ تقيهم الشر والسوء (ويعالجون بها). وواضح أنها ديانة توحيدية سرية باطنية تاريخية تؤمن بالقيامة واليوم الاخر.
وقد أشار أفلاطون وأرسطو إلى هذه الجماعة التي كانت لا تزال موجودة في القرن الرابع قبل الميلاد تزاول هذا الضرب من العلاج. والعلاج بالتعاويذ أو اتقاء الشرور بالتعاويذ نصادف ما يشبهه في القرآن الكريم بقوله: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) [مريم: 18]. فإن كنتَ تقياً فإني أعوذ بالرحمن منك، وتكون التعويذة مفيدة حقاً.
وكانت النحلة باطنية سرية، وكانت موجودة في القرن السادس قبل الميلاد، مع بدايات ظهور الفلسفة اليونانية. والعلّة في بقائها سرية، وهي غريبة عن الدين الاغريقي الطبيعي الميثولوجي الوثني، وترجع إلى أصول آسيوية. ليس غريباً أن يكون هذا الدين التاريخي العالمي التوحيدي الباطني السري قد تابع سيره عبر سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتكون محاكمة سقراط بسبب كفره بالديانة الطبيعية الوثنية المحلية. يقول الاهواني: يشير سقراط في محاورة فيدون إلى مذهبهم، فيقول: "هناك مذهب جرت به الالسن في الخفاء بأن الانسان سجين، وليس له الحق في أن يفتح باب سجنه ليفر هارباً" سوف نواجه لاحقاً أفكاراً مماثلة لدى الجماعات الغنوصية المسيحية في الاسكندرية وآسيا الصغرى في القرن الثاني والثالث الميلاديين. كما أن عبارة فيدون تحرّم الانتحار وقتل النفس. جاء في القرآن الكريم: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ) [بني اسرائيل: 33] ويضيف سقراط بالقول: "وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشأوا الاسرار لم يكونوا عابثين" جاء في القرآن الكريم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115]
يقول الاهواني: "لم يكن من الغريب بعد ذلك أن يصف برتراند راسل فلسفة سقراط ومذهب أفلاطون بأنهما متأثران أشد التأثر بالأورفيّة، وأن أفلاطون بوجه خاص يلبس مسوح تلك النِّحلة"
يتلخص مذهب أورفيوس في أصل العالم وخلق الكون، بأن المبدأ الاول هو الزمان. أي المبدأ الاول هو المحور السماوي العمودي في احداثيات ديكارت (ع-م) حيث يتعين العين ويظهر باسمه العظيم ميم، ثم يخلق الميم سين من نور ذاته (بالفيض) فيكون المحور الارضي الافقي (م-س) وتكون الضرورة والقضاء والقدر وشرط المكان والزمان. ويكون النور (نور الميم) خالق هذا الكون المحمدي.
ونلاحظ من القول السابق أن الاورفيّة تقر بمذهب خلق العالم، بالتالي تنتسب النحلة إلى الدين التاريخي الباطني التوحيدي أو دين الانبياء والرسل واليوم الاخر، وأن الزمان هو الذي يخلق المكان، وأن التاريخ هو أصل الطبيعة ومبدأها، فالطبيعة تاريخية وتتكشف عبر التاريخ على شكل فيزيك أو ظهور. ورغم القضاء والقدر ونظام الكون الطبيعي والشرط الذي يحيط بالإنسان، إلا أن فاعلية الانسان التاريخية هي التي تغير الشرط وتخلق عالماً جديداً وهذا عين المادية التاريخية التي قال بها ماركس في موضوعات عن فيورباخ عبر نقده للمادية السابقة وللنزعة الطبيعية في المادية السائدة، يكتب ماركس: (إن العيب الرئيسي للمادية السابقة كلها-بما فيها مادية فيورباخ-هو أن تصور الشيء، الواقع، العالم الحسي، لا يتم فيها إلا على صورة الموضوع أو الحدس، وليس كفاعلية حسية، كممارسة (عملية)، ليس بصورة ذاتية) [موضوعات عن فيورباخ: 1]
ثم يستعرض الاهواني ميثولوجيا اليونان وهي تشوش على فكرة الاورفية أكثر مما تبيّن. ليس ديونيسوس إله الاورفية سوى أدونيس السوري الذي قتله خنزير بري ومزق جسده، وليس سوى أوزوريس المصري الذي قتله أخوه ست عمّ حورس ومزق جسده. إن الميثولوجيا الرافدية والمصرية تشرح أفضل سمات النِّحلة الاورفية نظراً لطابعها الشرقي أكثر من ميثولوجيا الدين اليوناني الوثني الطبيعي.
يقول الاهواني: أصبحت نظرية النفس كما تصورها النحلة الاورفية سائدة عند كثير من الفلاسفة منذ فجر الفلسفة حتى اليوم. فالنفس متميزة عن البدن الذي يعد سجناً أو قبراً لها، ووجود النفس في البدن عقوبة لها لتلك الخطيئة الأولى (خطيئة الجسدية) التي ارتكبها الجنس البشري إذ أكل التيتان لحم ديونيسوس (جسده)، وقد نشأ الانسان (كجسد) من التيتان. جاء في القرآن الكريم قوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن: 14]
ولما كان وجود النفس في البدن تنفيذاً لعقوبة قديمة (خطيئة الجسدية)، فليس الانتحار مشروعاً، وهي الحجة نفسها التي يسوقها سقراط في محاورة فيدون، إذ يجب أن تظل النفس في رفقة البدن حتى تستكمل العقوبة المفروضة. لأن النفس ببساطة لا تستطيع العمل والتخلص من ثقل الجسدية من دون آلة الجسد. وعلى النفس وهي في صحبة الجسد أن تتبع قواعد معينة في الطعام والشراب والعبادات التي تعتبر من الاسرار الخفية إلا عن الاتباع والمريدين (دين باطني). فإذا تطهرت النفس بأنواع العبادات وألوان الزهد بلغت السعادة الدائمة بصحبة الالهة. وهذ شبيه بفكرة الخلاص بالغنوص أو دين المُخلِّص المُعزّي (الفارقليط). أما إذا تدنست واتبعت حياة الفسق والفجور تناسخت. وهذا التناسخ في قمصان متعددة نجده في بعض الغنوصيات الباطنية كالعقيدة النصيرية العلوية.
يقول الاهواني: فلا غرابة أن يكون فيثاغورَس قد تأثر بمذهبهم في النفس والتناسخ، وتأثر سقراط وأفلاطون بعقيدتهم كما ذكرنا.
وهذه مناسبة لنستعرض هنا بحس نقدي ما كتبه الاهواني حول "أورفيوس والنِّحلة الاورفية" في كتابه الطريف "في عالم الفلسفة"
يقول هيرودوت أن أورفيوس جاء بعد هوميروس وهزيود. بمعنى آخر أن تجدد ظهوره كان متزامناً مع فجر الفلاسفة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد. ومصدر هذا الرأي أن الاشعار الاورفية متأخرة عن إلياذة هوميروس.
والرأي السائد في العصر الحديث هو أن أورفيوس أسبق من هوميروس، أما الشعر الاورفي فلاحق لهوميروس وهزيود. وأنه يرجع إلى القرن السادس قبل الميلاد. وهذا معناه أن المذهب الاورفي (كدين تاريخي باطني) جرى تجديده شعرياً مع فجر الفلسفة اليونانية. أول إشارة إلى أورفيوس في الادب القديم هي مقطوعة بعنوان "أورفيوس الشهير" للشاعر إبيقوس في القرن السادس قبل الميلاد.
يصور أورفيوس على أنه شخصية ميثولوجية، نسبه إلهي فهو نبي مرسل. أمه إلهة الشعر كاليوبا، وأبوه تارة أبولون وتارة أخرى أوجرس وهو إله للخمر في تراقيا (بلغاريا). يزعمون أن أورفيوس رحل إلى مصر لطلب العلم على شاكلة فيثاغورس وطاليس وأفلاطون. أول من ذكر رحلته مع بحارة السفينة أرجو بناء على طلبهم هو الشاعر اليوناني بندار (522-443 ق.م). صوره يوريبيديس في مسرحيته هيبسيبيل Hypsipyle التي تدور حول قصة رحلة بحارة السفينة أرجو والبحث عن الجزّة الذهبية. يقوم أورفيوس في هذه الرحلة بدور الربّان، ثم يتخذه هيبسيبيل مؤدّباً لأبناء جاسون في تراقيا، كما اتخذ فيليب المقدوني أرسطو مؤدباً لابنه الاسكندر الكبير.
نلاحز أيضاً أن تعليم فيثاغورس السري يعود بنسبه إلى أورفيه ، يقول يمليخا: "فهناك قيل "هذه الكلمة عن الالهة تعود إلى فيثاغورس بن مينمارخ والتي أدركتها وانا اجتاز الطقس السري في تراقيا بمساعدة أغلوفام والذي نقل لي أن أورفيه (أو أورفيوس) بن كاليوبا والذي تعلّم من قبل أمّه (من نفسه) فوق جبل بانغي، قال إن جوهر العدد الثابت هو القوة المسيطرة على كل ما هو موجود في السماء والأرض والطبيعة، كما أنها هي جذر حياة الابطال والآلهة وأنصاف الالهة" (فيثاغورس: حياته، فلسفته: 123)
كان طاليس قد استقبل فيثاغورس بحنان ملاحظاً عدم شبهه بالشباب الاخرين، وكان عدم الشبه هذا كبيراً للغايةبحيث أنه فاق الاقاويل المتداولة، وقد منحه المعرفة، ومن خلال التذمر من الشيخوخة وضعف الصحة، حثه على الإبحار إلى مصر والاختلاط بالدرجة الأولى في ممفيس (منف) وديوسبول، مع الكهنة حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيماً في عيون أكثرية البشر. وهو (طاليس) من قال إنه نفسه لا يملك لا بالفطرة ولا نتيجة للتعلم تلك الكفاءات التي يراها عند فيثاغورس. لذا من الأفضل التعامل مع الكهنة المشهورين وهذا الامر سيجعله أكثر قرباً من الرب وأكثر حكمة من سائر البشر. (فيثاغورس: 20-21) وبعد أن تلقى من طاليس عدداً من النصائح المفيدة الأخرى لاسيما تقدير الوقت، والامتناع عن النبيذ واللحوم وضرورة الاعتدال، أبحر فيثاغورث إلى صيدا لأنه يعرف أن هذه المدينة هي مسقط رأسه وهو واثق من أنه سيكون من الاسهل عليه الانتقال من هناك إلى مصر. اجتمع في مصر بأنصار المختص بالعلوم الطبيعية موخوس (حكيم فينيقي تعوى اليه تعاليم الذرة) وغيره من كبار الكهنة الفينيقيين واطلع على كل القصص والاسرار الدينية، والتي حدثت بصورة رئيسية في العهد القديم وفي صور وفي أماكن أخرى في سوريا. وقد اتجه فيثاغورس القانع بمشورة معلمه طاليس ودون ابطاء إلى هناك بمساعدة بحرة مصريين كانت سفنهم ترسو على الشاطئ بالقرب من جبال الكرمل الفينيقية وحيث مكث هو لفترة طويلة معتزلاً في هيكل معبد جبل الكرمل وقد استقبلوه وسايروه بحفاوة" (فيثاغورس: 23-24)
نجد أورفيوس كذلك مصوراً في نقوش قديمة تمثله في السفينة أرجو، وقد وجدت هذه النقوش في دلفي، ويقال إنها ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد. تروي لنا ميثة أخرى قصة نزوله إلى الأرض أو العالم السفلي (الحياة الدنيا) كنبي رسول يبشر بدعوته، وأقدم إشارة إلى ذلك ما نجده في نقوش بوليجنوتس (القرن الخامس قبل الميلاد) والتي وصفها بوزانياس. وبوزانياس هذا يرجح أنه من ليديا عاش في القرن الثاني بعد الميلاد في حكم الامبراطور ماركوس أوريليوس، وهو صاحب كتاب "وصف الاغريق" الذي يعد مصدراً للتاريخ اليوناني.
يشير يوريبيديس وأفلاطون إلى قصة نزوله إلى العالم السفلي لاسترجاع زوجته (جسده)، لكنهما لا يذكران اسمها (إيريديس). نرى في أحد النقوش (400 ق.م) أورفيوس وزوجته (شخصياً) مع هرمس. صاغ الرومان قصة نزول أورفيوس إلى العالم السفلي على نسق ما وجدوه في الإسكندرية. حيث يشجي الالهة في العالم السفلي الأرضي بموسيقاه، ثم إطلاق سراح زوجته، وعدم الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه ألا ينظر إليها حتى يصعد إلى السماء. جاء في القرآن الكريم قوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115] بنزوله إلى الأرض تيسر لأورفيوس أن يطلع مباشرة بالفعل على ما يجري هناك وأن ينقل هذه المعرفة وهذه الخبرة (نظرية وممارسة) إلى أتباعه.
يقول بعضهم أنه انتحر مع مذهبه الذي يحرم الانتحار، لكن يوجد نوع من الانتحار المباح كما هو وارد في تاسوعات أفلوطين، حيث تُقتل النفس بالحق. جاء في القرآن: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الإسراء: 33]. والشائع أن المايناديات المجذوبات مزقنه إرباً، وهن أتباع وعبدة ديونيسوس، إما لأن أورفيوس عبد أبولون أو لأنه احتقرهن نتيجة جنونهن وعربدتهن. وهذا التمزيق يذكر بميثولوجيا أوزيريس وأدونيس.
يذهب البعض إلى أن انتشار حملة الفلاسفة على المُشبِّهة من أنصار الدين الطبيعي الوثني كان سبباً في عقاب أورفيوس (أتباع المذهب الاورفي)، إذ تناول الالهة الوثنية الطبيعية بحديث السوء. ودفن في ديون من أعمال مقدونيا حسب خرافة بوزانياس. يذهب المتأخرون من المؤرخين في خرافتهم إلى أن رأسه المقدس حمله نهر إيبروس إلى جزيرة ليسبوس حيث دفن هناك.
كان أورفيوس نبياً رسولا مبشراً بدين ديونيسوس. هو المعلم والنبي الذي يكشف الاسرار ويفسرها مثل أصل الالهة وطبيعتها، والطريق الصحيح (الصراط المستقيم) الموصل إليها، والسلوك الذي يجب على الناس اتباعه في الدنيا والاخرة، والقواعد التي تجري عليها النفس لتبلغ مقرها الصحيح. و(كَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف: 6]
كانت تعاليمه مزيجاً من التعاليم الاسيوية والاغريقية، ومن هنا نجد الحشد الهائل من الميثولوجيا اليونايية التي تختلط بالتعاليم الاورفية. وإذا كان قد اعتنق دين ديونيسوس، وهو دين جاء إلى تراقيا من آسيا عن طريق فرْجيا، فقد حوره ليلائم الروح الاغريقي. وقد يكون مقتله على أيدي الميناديات المهوسات تبين مقدار ما كان يقاسيه من معارضة المظاهر المغالية المتطرفة في ديانة الخمر (ديانة الغنوص)، لذلك حاول التوفيق بين أبولون وديونيسوس، بين الشعر والعقل والخمر، كما نجد في دلفي. قال أبو نواس:
"ألا فاسقِني خَمْراً وقلْ لي هيَ الخمرُ ولا تسقني سِرّاً إذا أمكن الجَّهْرُ"
وكون تعاليمه باطنية غنوصية معقدة، والتي تحتاج إلى مجهود عظيم لتأديتها من الناحية العملية، لم تظفر إلا بعدد قليل من الاتباع سموا أنفسهم الاورفيين. وهم شيعة باطنية اتخذوا ديونوسوس إلهاً عبدوه على طريقتهم الخاصة، واتخذوا نقباء يقومون برسوم الطهارة (الختان أو التعميد أو التنسيب وقبول المريدين الجدد) على طريقة المشيخة الصوفية والمشيخة النصيرية، وهو ما يشير إلى دين باطني سري يتم قبول مريدين جدد بطقوس تنسيب محددة. وبقي نفوذ هؤلاء النقباء (الشيوخ المعلمين) موجوداً حتى القرن الرابع قبل الميلاد. وكان اعتماد هؤلاء النقباء (الملائكة) على كتب مقدسة تعد انجيل النحلة الاورفية. هذا الدين الباطني لديه إله واحد وكتاب مقدس ونبي رسول ويوم آخر وملائكة نقباء، فهو دين تاريخي باطني غنوصي عالمي على درب الإسلام المحمدي. جاء في القرآن الكريم قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 136]
بخصوص ميثولوجيا النحلة الاورفية في خلق الكون، فإن النور فانُس هو أول صدور أو فيض عن الإله، والنور هو خالق هذا الكون وجميع ما يحويه.
بعد أن مزق التيتان جسد ديونيسوس إرباً وأكلوا لحمه، أنزل زيوس عقابه على التيتان (المشبّهة أصحاب الجسدية) فأبادهم، ومن هذا الإعدام للجسدية أعاد ديونيسوس الطفل إلى الحياة، وأصبح ديونيسوس الجديد المُطهّر من الجسدية إله الاورفيه. نجد قصة مشابهة لدى المصريين القدماء، حين مزق ست أخو أوزيريس جسد هذا الأخير وراحت إيزيس زوجته تلملم أشلاءه باستثناء عضو الذكورة حملت منه حملاً مقدساً (بلا دنس) وأنجبت الطفل الجديد حورس. ونجد نفس القصة في ولادة عيسى المسيح من دون أب.
وجمع زيوس رماد التيتان وصنع منه جسد الانسان، فكان الانسان ذو طبيعتين: الجسدية من التيتان والطبيعة الإلهية الروحية من ديونيسوس. أي كان ناسوتاً ولاهوتاً كيسوع المسيح.
لقد أخذت الميثولوجيا الاورفية ما يناسبها من الميثولوجيا اليونانية الشائعة وعدلت فيها. نحن لا نجد في ميثولوجيات هزيود الزمان أو البيضة الخصبة أو النور، أو ديونيسوس أو التيتان ولكنها ضرورية في مذهب أورفيوس لبيان أصل العالم وخلقه، وطبيعة الالهة والانسان، وطبيعة الحياة الاورفية.
النفس تتميز عن الجسم والبدن في المذهب الاورفي، والانسان يتكون من العنصر الجسدي التيتاني، ومن العنصر النفسي الروحي الديونيسي. وتنفذ الروح وهي العنصر الديونيسي إلى البدن باستنشاق "الكل" الذي تحمله الرياح، وهذه الاستعارة تشير إلى تلقين الحقيقة من خارج العقول الفردية بواسطة العقل الفعّال، لأن الحقيقة هي الكل. والرياح تشير من باب الجناس إلى الروح الكلي أو النفس الكلية. وغاية الحياة في النحلة الاورفية أن نجنح نحو العنصر الإلهي الديونيسي، وأن نحفظ البدن في حالة من الطهارة حتى تصل النفس إلى الخلاص وتتحرر من وزر الجسدية. إن الاثم القديم أو الخطيئة الأولى التي وقعت فيها النفس هي خطيئة الجسدية أو العقبة الحسية للمعرفة وهي أول عقبة حيث تعتقد النفس لأول وهلة أن الحقيقة في الحسيات. وتشرح ذلك الميثولوجيا الاورفية بالقول: إن اتصال النفس بالبدن هو عقاب اثم قديم في حياة أخرى، أو عقوبة للخطيئة الاولى التي ارتكبها الجنس البشري، ونعني بها: تذوق التيتان جسد ديونيسوس ومن التيتان نشأ جسد الانسان. ولهذا تدعو الاورفية للزهد ومحاربة الشهوات البدنية التي تعتبرها منبع الشرور. كما تشير العبارة إلى إيمانها بالتناسخ. ومع أن البدن شر، حرّمت الاورفية الانتحار إذ في ذلك هروب من الواجب. وهذا شبيه بما يحدثنا به سقراط في محاورة "فيدون"، إذ لم يجز الانتحار. يجب على النفس أن تبقى مع البدن حتى تستكمل مدة العقوبة الواقعة عليها من الذنب الأول أو الخطيئة الأولى.
هناك بعض الحمرمات لدى الاورفية كتحريم لبس الصوف في المعابد وهذه تحريمات مصرية قديمة.
والاورفية كالفيثاغورية تذهب إلى الايمان بالتناسخ. ذلك أن تناسخ الأرواح وانتقالها من بدن إلى آخر مطلوب للطهارة وخلاص النفس. وإن اللغة الي يستعملها أفلاطون في فيدروس وفيدون وجورجياس ومينون والجمهورية توحي إلينا أنها لغة الاورفية وأسلوبها وتعبيراتها
وأكبر الظن أن الاورفية كغيرها من الديانات الباطنية السرية الغامضة، كانت تقيم نوعاً من العبادة الجمعية (جمع كما في النصيرية)، تجري فيها الادعية والترتيل والاغاني والتضحية بغير الحيوان، ثم ذكر القصة الميثولوجية الاورفية، وما جرى لديونيسوس وغير ذلك.
فإذا اتبع المريد هذه العبادات كما ينبغي وآمن بها، فقد يصل إلى السعادة الدائمة الأبدية في العالم الاخر، وذلك عندما يتخلص من الجسدية ويلحق بالصالحين. ويبدو أن صورة هذه الحياة السعيدة تتخذ في بعض الأحيان صبغة مادية، على العكس من حياة الزهد المطلوبة في هذه الحياة الدنيا. ويبدو أن الاورفية لديها قيامة صغرى هي الخلاص بالغنوص والعرفان، من دون الحاجة للهبوط على الأرض وإحياء الأجساد فهنا الحياة للأرواح فقط. وهذا ما بشرت به المسيحية الرسمية المكرسة والكثير من التيارات الغنوصية المسيحية. ولديها قيامة كبرى حيث مجيء القائم بالدعوة للحق والعدل على الأرض عبر النبي الرسول وأخويته المناضلة وهنا تكون السعادة الفعلية على الأرض وبوسائل مادية ورفاه مادي. وهذا ما تعد به الثورات الاجتماعية في الغالب. جاء في سورة الواقعة قوله: [وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ (10) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ (12) ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ (14) عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوۡضُونَةٖ (15) مُّتَّكِـِٔينَ عَلَيۡهَا مُتَقَٰبِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكۡوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأۡسٖ مِّن مَّعِينٖ (18) لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحۡمِ طَيۡرٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٞ (22) كَأَمۡثَٰلِ ٱللُّؤۡلُوِٕ ٱلۡمَكۡنُونِ (23) جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (24) لَا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا تَأۡثِيمًا (25) إِلَّا قِيلٗا سَلَٰمٗا سَلَٰمٗا (26)]
ويروى أن النفس سوف تذهب إلى ينبوعين بجانب أبهاء زيوس: أحدهما إلى اليسار، وهذا الينبوع يجب تجنبه، لأنه ماء النسيان، تشربه الانفس التي سوف تعود إلى هذه الدنيا. (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115]
أما الينبوع الذي إلى اليمين فهو الذي تشرب منه النفس، هو الذاكرة، وإلى جانبه حراس تتوجه إليهم النفوس لتصل بينها وبين الالهة قائلة: إني ابنة الأرض والسماء، وأمتّ إلى الجنس السماوي، إنني أموت عطشاً، هبني ماءاً زلالاً من بحيرة الذاكرة، وعندئذٍ يهب الحراس النفس ماء الينبوع الإلهي فتتأله. فالنفس تلتمس الان وقد تطهرت من كل جسدية، أن ترتقي إلى مقر الابرار الاطهار، بعد أن خرجت من دائرة التناسخ، وفرت من أحضان حادس أو الجحيم تلتمس العودة إلى جنسها السعيد ونسبها الإلهي.
وبخصوص أصحاب الشمال وأصحاب اليمين نقرأ في سورة الواقعة: [وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ (27) فِي سِدۡرٖ مَّخۡضُودٖ (28) وَطَلۡحٖ مَّنضُودٖ (29) وَظِلّٖ مَّمۡدُودٖ (30) وَمَآءٖ مَّسۡكُوبٖ (31) وَفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ (32) لَّا مَقۡطُوعَةٖ وَلَا مَمۡنُوعَةٖ (33) وَفُرُشٖ مَّرۡفُوعَةٍ (34) إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ (35) فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا (36) عُرُبًا أَتۡرَابٗا (37) لِّأَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ (38) ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ (40) وَأَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٖ وَحَمِيمٖ (42) وَظِلّٖ مِّن يَحۡمُومٖ (43) لَّا بَارِدٖ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُتۡرَفِينَ (45) وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلۡحِنثِ ٱلۡعَظِيمِ (46) وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ (47) أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ (48) قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ (49) لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ (50) ثُمَّ إِنَّكُمۡ أَيُّهَا ٱلضَّآلُّونَ ٱلۡمُكَذِّبُونَ (51) لَأٓكِلُونَ مِن شَجَرٖ مِّن زَقُّومٖ (52) فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ (53) فَشَٰرِبُونَ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡحَمِيمِ (54) فَشَٰرِبُونَ شُرۡبَ ٱلۡهِيمِ (55) هَٰذَا نُزُلُهُمۡ يَوۡمَ ٱلدِّينِ (56)]
وكانت تعاليم الاورفية الباطنية سراً محجوباً إلا عن المريدين، كسائر الأديان السرية والفرق الباطنية. كان أصحاب الاورفية يعملون على كتمان أسرارهم باستعمال لغة من الاستعارات والكنايات، ولغة رمزية لا يفهمها إلا المريدون، وتحتاج إلى تفسير وتأويل. ثم ظهرت معاجم في عصور متأخرة تفسر وتكشف أسرارهم كما نجد ذلك عند كليمان الاسكندري وهو يفسر قصيدة أورفية.
وكليمنس الاسكندرى اسمه الكامل تيتوس فلافيوس كليمنس (Titus Flavius Clemens)، هو واحد من أبرز معلمى مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، ولد فى أثينا فى منتصف القرن الميلادي الثاني (150؟) وتوفى بين سنة 211 و215. أبرز ما ميز تعاليمه هو ربطه تأليفه بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي.
لقد تبين أثر الاورفية الكبير في الفلسفة اليونانية عبر محاورات أفلاطون وفلسفة سقراط وقبله أخوية فيثاغورث السرية الباطنية. وطاليس الذي يرجع كل شيء للماء، يأخذ الفكرة من الميثولوجيا السابقة التي تجعل المحيط البدئي أصل كل شيء، وهي فكرة قادمة من الميثولوجيا المصرية التي تقول بأن المحيط البدئي نون هو أصل الأشياء قبل الخلق، (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1] في البدء كان نون، العماء الأصلي كاوس.
أما فيثاغورس وإنبادوقليس فكانا يؤمنان بالتناسخ، وينصحان بالابتعاد عن أكل اللحم وإراقة الدماء. وأغلب الفلاسفة تقول بالعماء Chaos كأصل للعالم اختلطت فيه جميع الأشياء.
انتقد كزينوفان مذهبه الاورفية في الالهة، وهاجمها هيراقليطس لإقرارها بوجود يوم آخر وخلق العالم، ذلك بسبب مذهبه في وحدة الوجود وتأليه الطبيعة، في نكوص إلى الدين الطبيعي الوثني. واستفاد السوفسطائيون من أقوال الاورفية.
لم يكن أفلاطون غريباً عن آرائهم وكذلك أرسطو. أما أفلاطون فكان يميل إلى مذهبهم أكثر من ارسطو. وكثيراً ما يقتبس الابيات من قصائدهم. ويسميهم بالمؤلهة الاقدمين، ذلك أن مذهب التناسخ يلائم مذهبه في التذكر والنسيان. ومن مؤرخي الفلسفة المحدثين مثل برتراند راسل من يذهب إلى أن فلسفة أفلاطون تلبس أثواب الاورفية. وقد تسربت النحلة الاورفية إلى الفلسفة العربية الإسلامية عبر الفلسفة اليونانية. ويذهب ول ديورانت في كتابه "حياة الاغريق" إلى أن آراء الاورفية ورسومها، لا تزال زاهرة حية بيننا حتى اليوم.
[16]
مصادر الفلسفة اليونانية
الكتب الفلسفية
يقول الاهواني: أهم ما تمتاز به الحضارة بوجه الاطلاق الكتابة، وهي عبارة عن رموز اصطلاحية تدوّن الكلام الذي ينطق به المرء ويعبّر به عن فكره، ويستطيع بذلك أن يتفاهم مع غيره من الناس ويتواصل.
وعن طريق الكتابة استطاع الانسان أن يسجل أفكاره في الحاضر، ليطلع عليها من يشاء في المستقبل.
تمتاز الحضارة اليونانية بأنها اكتشفت نوع من الحروف الابجدية، على عكس قدماء المصريين في كتابتهم الهيروغليفية التصويرية. وأصبح تأليف الكتب مألوفاً، وكان العلم مباحاً للعموم على خلاف البلدان الأخرى التي كان فيها العلم حكراً للكهنة.
بدأ التدوين في هيئة كتب في القرن السادس قبل الميلاد، بالتزامن مع فجر الفلسفة اليونانية، واشتد في القرن الخامس، ثم الرابع وأصبح بعد ذلك سنة مألوفة.
لكن هناك فلاسفة امتنعوا عن تدوين الحكمة كنوع من التقية وكتم الاسرار، لأن الحكمة كانت ديانة أسرار. من هؤلاء فيثاغورس الذي لم يدون فلسفته، ولا طاليس ولا سقراط، وحتى أفلاطون لم يكن يعد المحاورات التي كتبها تعبيراً عن فلسفته، وإنما هي لعموم الجمهور وللتسلية. أما فلسفته الحقة فكانت ديانة أسرار يلقنها إلى المريدين بشكل شفاهي ويتلقاها عنه تلاميذه سماعاً. معظم الفلاسفة ألفوا الكتب وكانت متداولة بين الطبقات المثقفة. ويروى في ذلك أن فيلولاوس الذي كان من الأخوية الفيثاغورية كان أول من أفشى سر الجماعة وأذاع أسرارها وألف كتاباً عن مذهبهم. وهذا ما فعله سليمان الاذني في اللاذقية حين ألف كتاب "الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية" والمسمى أيضاً كتاب "المجموع" وأفشى سر الفرقة النصيرية العلوية ما تسبب في مقتله أواخر القرن التاسع عشر.
يقال أن فيلولاوس فعل ذلك لحاجته إلى المال، وأن أفلاطون اشترى نسخته من أقربائه بمبلغ كبير من المال، وأنه استقى نظريته التي أودعها محاورة "طيماوس" من ذلك الكتاب. وواضح أن في هذا الكلام الكثير من التبسيط.
يقال إن بستراتوس حاكم أثينا، وبوليقراطس طاغية ساموس كانا أول من اقتنى دوراً للكتب في أواخر القرن السادس قبل الميلاد. واحتفظت جميع المدارس الفلسفية الكبرى مثل أكاديمية أفلاطون ومدرسة أرسطو المشائية بمجموعات كبيرة من الكتب. وأنشأ بطليموس خليفة الاسكندر في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد مكتبة مشهورة في الإسكندرية. ويروي التاريخ قصة حريقها. وكانت تنافسها في برجام من أعمال آسيا الصغرى مكتبة أخرى كبيرة. وأنشئت مكتبة في الغرب في روما وفي انطاكية في الشرق. تم تأسيس مكتبة الإسكندرية على يد بطليموس الثاني في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، عام (285 ـ 247 ق.م)
تعرضت المكتبة للعديد من الحرائق ودمرت تماماً في عام 48 ق.م وفي عام 2002 تم إعادة بنائها تحت اسم مكتبة الإسكندرية الجديدة.
وأول مصدر نعتمد عليه في معرفة آراء القدماء ومذاهبهم هو الرجوع إلى كتبهم.
[17]
الكشف عن نصوص القدماء المفقودة
ماذا عن الذين فقدت آثارهم وضاعت مؤلفاتهم، أو أولئك الذين لم يكتبوا ويدونوا أفكارهم؟
لقد تم الاعتماد على محفوظات المتأخرين بما جمعوه من تلك الاثار المفقودة أو بالاعتماد على الروايات المتواترة. وعوّل العرب على هؤلاء المتأخرين فنقلوا الفلسفة بناء على ذلك، وبخاصة ما اتصل بالفلاسفة قبل سقراط. وكان هذا النقل مشوّهاً في كثير من الأحيان، إذ نسبوا إلى بعضهم كلاماً يتعارض مع فلسفتهم. فقد نسبوا إلى أرسطو كتاب "أثولوجيا" مع أنه ترجمة بتصرف لبعض تاسوعات أفلوطين. ولم يعن العرب بالبحث في مشكل الانتحال بحثاً علمياً منتظماً، ولا الفلاسفة الأوروبيين في العصر الوسيط، حتى مجيء عصر النهضة، حيث ظهرت اتجاهات جديدة ابتداء من القرن السادس عشر تطالب بالعودة إلى القديم والنظر في الأصول اليونانية ذاتها. ولم تنضج وتثمر حتى القرن التاسع عشر. والمنهج الذي اتبع هو تتبع النصوص الواردة عند مختلف المؤرخين واستخلاصها ونسبتها إلى صاحبها حتى الوصول إلى المصدر الأول، وهو في الغالب ثاوفراسطوس أول رئيس للمدرسة المشائية بعد وفاة أرسطو. وقد اتبع هذا الأسلوب في البدء هرمان ديلز حيث نشر نصوص فلاسفة الاغريق في كتابين، أولهما عام 1879 بعنوان "أراء الاغريق"، وثانيهما في عام 1903 بعنوان "ما قبل سقراط"
[18]
أنواع المصادر: المدارس الفلسفية
يقسم تسيلر كتابات قدماء المؤرخين ثلاثة أقسام على النحو التالي:
1-كتابات تختص "بالآراء" doxographical (ثاوفراسطس، بوزيدونيوس الرواقي، أيتيوس، ستوبايوس)
2-كتابات تختص بالسيرة وأخبار الفلاسفة biographical (أرستكسينوس، فلاسفة مدرسة الإسكندرية، ديوجينس لايرتوس، هرميبوس، فرفريوس الصوري، يامبليخوس)
3-كتابات تستمد من المدارس الفلسفية (كليتوماخوس من الاكاديمية، أريوس الرواقي، سوتيون الاسكندري، فيلوديموس وديقلوس وهذا الأخير أخذ عنه ديوجين لايرتوس)
والواقع أن أرسطو كما يعد صاحب مذهب خاص، يعد كذلك مؤرخاً لفلسفة القدماء، فهو يسلك في كل موضوع يسلك فيه منهجاً تاريخياً فيتتبع جميع الآراء التي قيلت في هذا الموضوع ويرد عليها، حتى يمهد لعرض مذهبه الخاص. فعل ذلك في كتابه "السماع الطبيعي" (الطبيعة) وفي كتاب "ما بعد الطبيعة". ولا ننسى أن أرسطو كان قريب العهد بأولئك الفلاسفة فروى آراءهم الموجودة في كتبهم فعلاً، أو نقلاً عن تلاميذ مباشرين. وأرسطو هو الذي رسم الطريق لتلميذه ثاوفراسطس من بعده.
من المدارس الفلسفية التي يذكرها برنت: المدرسة الرواقية (كريسيسبوس)، ومدرس الشكاك (سكستوس إمبريكوس)، ومدرسة الإسكندرية بعيداً عن ثاوفراسطس (شراح أرسطو الاسكندرانيين: الاسكندر الافروديسي، ثامسطيوس، سمبلقيوس، ويوحنا النحوي). وكان سمبلقيوس هو الابعد.
يقول الاهواني: نحب أن نضيف إلى هؤلاء الشراح من مدرسة الإسكندرية شخصاً عرفه العرب وألف كتاباً في "أخبار الفلاسفة" هو فرفريوس الصوري تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته وجامع وناشر كتابه الوحيد "التاسوعات". وقد اشتهر فرفريوس عند العرب بكتابه "المدخل إلى المقولات" والمعروف باسم "إيساغوجي". وقد حقق الاهواني كتاب إيساغوجي ونشره سنة 1952 عن دار إحياء الكتب العربية، مع مقدمة عن حياة فرفريوس ومدرسة أفلوطين.
[19]
رواة الآراء
على رأس رواة الآراء doxographers ثاوفراسطوس صاحب كتاب "آراء الطبيعيين" من لفظة دوكسا بمعنى الرأي. كتابه هو الأول من نوعه في الاغريقية يعالج تاريخ الفلسفة، وقد رتبه صاحبه حسب الموضوعات مثل الله والعالم والآثار العلوية، والنفس والطبيعة. ويسرد في كل موضوع آراء الفلاسفة السابقين من طاليس إلى أفلاطون، دون أن يلحظ الترتيب التاريخي. وقد سبقه أستاذه أرسطو في هذا الباب، لكنه كان يجعل تفنيد أراء من سبقه مقدمة للموضوع الذي يبحثه.
يقول لينين في "مقالة حول الديالكتيك": "إن المعرفة المصورة بسلسلة من الحلقات قد حددها كل من هيغل (علم المنطق) وبول فولكمان "الغنوصي" العصري في العلوم الطبيعية، الاختياري خصم الهيغلية، (التي لم يفهمها). الحلقات في الفلسفة: [هل تسلسل تاريخ الأشخاص ضروري حقاً؟ كلا!"] (حول الديالكتيك)
أصبح كتاب ثاوفراسطوس مرجعاً لجميع المؤرخين المتأخرين، أو جُمّاع التاريخ، الذي كانوا إما يحتذوا حذوه في ترتيب الموضوعات تحت عنوان واحد، وإما يغيروا الترتيب، فيضعوا الموضوعات تحت أسماء الفلاسفة.
اشتهر من رواة الآراء ثلاثة، وجميعهم يعتمدون على كتاب ثاوفراسطوس:
1-فلوطرخس (ق1-2 م) صاحب كتاب "آراء الفلاسفة". وقد عرفه العرب. وقد عرف العرب آراء الفلاسفة قبل سقراط عن طريق هذا الكتاب على أغلب الظن، وعن طريق كتاب فرفريوس "أخبار الفلاسفة".
2-جون ستوبايوس (470 ميلادية): صاحب كتاب "خلاصة آراء الطبيعيين". وهو أوسع وأشمل من كتاب فلوطرخس.
3-ثيودور الأنطاكي (القرن الخامس الميلادي): الذي استقى كتاباته من إيتيوس (القرن الأول الميلادي) حيث اعتمد هذا الأخير على كتاب "آراء القدماء" الذي ألفه بوزيدونيوس (135-50 ق.م) رأس المدرسة الرواقية المتأخرة.
يمكن أن نضيف إلى هؤلاء شيشرون (106-43 ق.م)
[20]
رواة الآراء والسير
بعض المؤرخين جمعوا بين رواية الآراء وحكاية الاخبار والعناية بالسيرة، منهم هيبوليتوس (ق 3 م) صاحب كتاب "الرد على الملاحدة"، حيث عاش في العصر الذي اشتد فيه الصراع بين المسيحيين والوثنيين. استقى كتابه من ثاوفراسطوس، ومن مصادر أخرى تروي سيرة حياة الفلاسفة مثل طاليس وفيثاغورس وهرقليطس وأنبادوقليس.
ومنهم ديوجين لايرتوس (ق 2 م). يعد كتابه المعروف "حياة الفلاسفة وآراؤهم" من أهم المصادر القديمة، لأن معظم كتابه المخطوط، وهو نسخة وحيدة، قد وصل إلينا كاملاً، ما عدا جزءاً من الكتاب السابع. وقد استفاد ديوجين من مصادر متعددة أخذ منها سيرة الفلاسفة ومذاهبهم.
[21]
رواة السِيَر
معظم أصحاب السير نشأ في مدرسة المشائين من أتباع أرسطو. من هؤلاء ديكارخوس تلميذ أرسطو وثاوفراسطوس، كتب الكثير من الكتب التاريخية، وهو أول من وضع هذا المنهج من تأليف السير. ثم أخذ عنه أرسطون (ت: 225 ق.م)، وكان من الرواقيين ومعاصراً لأبيقور، وكتب عن سيرة أبيقور وعن سيرة هراقليطس. ثم نجد سوتيون السكندري (حوالي 200 ق.م) يؤلف في حياة الفلاسفة على التعاقب، وقد لخص كتابه فيما بعد هرقليدس ليمبوس الذي عاش في الإسكندرية حول ذلك التاريخ.
في الفترة نفسها ألف هيرميبوس الازميري (آسيا الصغرى) كثيراً من تاريخ الحكماء التي نقل عنا المتأخرون. نذكر أيضاً مشائي آخر يعرف باسم ساتيروس له كتاب عن حياة مشاهير الرجال، وقد لخصه أيضاً هرقليدس ليمبوس.
يعد ديوجين لايرتوس من أصحاب السير في بعض الأجزاء من مؤلفه "حياة الفلاسفة وآراؤهم".
[22]
المؤرخون chronographers
بخصوص تحديد أزمنة الحوادث والأشخاص، يرجع الفضل في ذلك إلى إراتُستنس (275-194 ق.م)، ثم إلى أبولودوروس من بعده (180-110 ق.م). وكان أبولودوروس تلميذ بانيتوس الرواقي، ثم ذهب إلى الإسكندرية ولزم أرسطرخس. ولما طرد بطليموس الفلاسفة عام 146 ق.م توجه أبولودوروس إلى برجام حيث أحسن ملكها استقباله فأهدى إليه كتابه في التاريخ، ثم انتقل إلى أثينا حيث توفي فيها.
أما الطريقة التي يعتمد فيها على تحديد زمن الحوادث، فهي كما فعل أرسطرخص، أن يبدأ بسقوط طروادة عام 1040 ق.م إذا لا بد من حادثة معيارية أو حدث مؤسس يبدأ به الزمن، هكذا كان ميلاد المسيح، وبعد ذلك هجرة النبي من مكة إلى المدينة. فيكون الحدث الكبير أو المؤسس نقطة ارتكاز لما قبلها وما بعدها. وكان يتم الاسترشاد بالألعاب الاولمبية التي كانت تقام كل أربع سنوات. وإذا كان مولد الفيلسوف ووفاته معروفين تم ذكرهما، وإذا لم يكن ذلك معروفاً ذكر فقط عام ازدهاره akme وكان الأطباء يعتبرون سن الأربعين هي سن النضج والازدهار والكمال.
[23]
الحكماء السبعة
رواية أفلاطون
يقول الاهواني: في محاورة "بروتاجوراس" إشارة طويلة للحكماء السبعة، تعد أول مصدر يوثق به في معرفة هؤلاء الحكماء، وصلة حكمتهم بالفلسفة. والمحاورة تقع في بيت كالياس أحد أغنياء أثينا، حيث يلتقي سقراط مع ثلاثة من السفسطائيين هم بروتاجوراس وهبياس وبروديقوس. ويتطرق الحديث إلى تفسير كلمة "شاق"؛ "صعب" كاليبون Chalepon ويختلفون في مدلولها ولأنها لا تعني الشر، وهذا ما عناه بيتاقوس من قوله في الحكمة المأثورة "بلوغ الخير شاق". "عن شعيب الحداد قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرّب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، أو مدينة حصينة." (بحار الانوار ج2: 183) وال (نا) في حديثنا تعود إلى الائمة من أهل البيت. والحديث هنا هو العلم الباطن للأئمة وأهل البيت، ومنهم سلمان. قال النبي محمد: "سلمان منا أهل البيت" أو "سلمان منا آل البيت". " ويقول هاشم بن عبد مناف جد النبي في خطبته "الحكيمة": "نحن آل إبراهيم وذرية اسماعيل" (أمالي الزجاجي)
كلمة الـ (آل) لم تضاف إلا للرجال في كل القران العظيم. جاء في سورة النساء: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54] وفي سورة مريم (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم: 5-6]
وكان بيتاقوس أحد الحكماء السبعة، الذين سجلت أسماءهم ومدنهم في المحاورة، وأنهم وحدهم القادرون على قول المأثورات. وهؤلاء هم الحكماء كما جاء ذكرهم في المحاورة:
"طاليس من ملطية، بيتاقوس Pittacus من ميتيلين، بياس من بريين، وسولون الخاص بنا (من أثينا)، كليوبولوس من لندس بجزيرة رودوس، وميسون من خيناي".
تقوم حكمتهم على عبارات مأثورة قصيرة (أقوال Logia) كثيراً ما ينطقون بها. ثم أنهم اجتمعوا وأهدوا إلى معبد أبولون في دلفي أول ثمار حكمتهم، وهي تلك المدونة على باب المعبد، والتي بلغ من شهرتها أن جرت على كل لسان: "اعرفْ نفسك!" "وخير الأمور الوسط". وقد شاهد المسعودي في رحلته إلى حرّان الفرات نفس العبارة "اعرف نفسك!" مدونة على باب المعبد اليوناني هناك.
ثم نضيف سقراط إلى من سبق ذكرهم وهم ستة فيكون سابعهم.
يقول الاهواني: ثم يضيف سقراط إلى ما سبق أنه استطرد هذا الاستطراد ليبين أن "الايجاز" (في الاقوال) الخاص بأمثال الحكماء هو أسلوب الفلسفة القديم في الزمان"
وأن سقراط السابع بينهم منتهى الأسلوب القديم وبداية الأسلوب الجديد الذي كرّسه أفلاطون. بهذا الشكل يكون سقراط "برزخ" الفلسفة اليونانية، والوسيط بين أسلوبها الموجز القديم في الحكم المأثورة وأسلوبها الجديد في المحاورات. فكان من الفلاسفة ما قبله وما بعده، وكان هو رسولاً إلى العالمين. باب الفلسفة اليونانية وحجابها الأكبر وحادثها الأعظم. وكان الوسيط بين الخلود والفناء والحياة والموت وسيّد القياس عند أرسطو وأصل الانسان، وهو القابلة التي تولِّد النتيجة من المقدمتين الكبرى والصغرى:
كل إنسان فان
سقراط إنسان
سقراط فان
هو سلسلة الأسباب بين السماء والأرض، وبين اللاهوت والناسوت. هو سلمان ثالث السماويين وسادس الارضيين، فصل ووصل للفلسفة ما قبله بالفلسفة ما بعده؛ هو باب وحجاب. وهو مؤسس الروح العلمي الذي يقوم عليه الوجود العيني. حيث يتحدث ابن عربي عن الوجود العلمي المنقبض والوجود العيني المنبسط. والادراك ثلاثة: إدراك حسي عن طريق الحواس، وإدراك علمي عن طريق التجريد العقلي، وإدراك عيني يجمع الادراكين السابقين في كلية واحدة فهو عقلي وحسي فعلي في آن واحد. يقول ابن عربي في خطبة الفتوحات المكية: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه"
ومحمد إنسان رسول مثله مثل سقراط. جاء في القرآن الكريم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]
يُعتبر رأي أفلاطون في الحكماء هو الاوثق لقرب عهده بهم ولأنه الوارث الأعظم للفلسفة التي قبله عبر سقراط. حيث تشير محاورة "بروتاجوراس" إلى أن أقدم صور الفلسفة كانت "الحكم المأثورة الموجزة" التي تهدف إلى إرشاد الناس في سلوكهم نحو الخير. أو هي الحكمة العملية التي تفيد الناس في حياتهم وأمور معاشهم، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269]، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17]
إن أساس فلسفة سقراط يقوم على تلك الحكمة المأثورة "اعرفْ نفسك!" ,
يضاف إلى ذلك أن الحكمة الثانية التي ذكرها أفلاطون "خير الأمور الوسط" كانت أساس فلسفة الكثير من القدماء، وقد سموها "الاعتدال" (وقد يكون العدل مشتق منها)، سواء في التوسط بين قوى النفس كما نجد عند أفلاطون، أو الفضيلة عند أرسطو التي يعرفها بأنها ملكة الوسط العدل بين حدين إفراط وتفريط. (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الانعام: 61]
والتفريط: التقصير والتأخير عن الحد، والافراط: فهو مجاوزة الحد والتعدّي عنه.
وفي سورة بني إسرائيل قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الاسراء: 29] وفي حديث عليٍّ: (لا يُرى الجاهل إلا مفرِّطاً أو مُفْرِطاً)، وهو بالتخفيف المسرف في العمل، وبالتشديد المقصِّر فيه.
[24]
الحكماء السبعة
رأي المتأخرين
اختلف المتأخرون في أسماء الحكماء السبعة، فهذا ديوجين لايرتوس يستبدل برياندر (625-585 ق.م) طاغية كورنثة بميسون الذي ذكره أفلاطون. ويرجع إغفال ذكر أفلاطون لبرياندر حسب ديوجين لأنه كان يكره الطغاة. من المؤرخين من يجعل فيثاغورس، أو أرفيوس أو أنكساجوراس أو بستراتوس من الحكماء السبعة. ومنهم من يجعل العدد عشرين.
على أن الاجماع بين المؤرخين، على اختلافهم في قوائمهم، انعقد على أربعة: طاليس وبياس وبيتاقوس وسولون، وأن طاليس هو أولهم بلا منازع. ويحدثنا فلوطرخس أنهم اجتمعوا في كورنثة بدعوة من برياندر الطاغية حيث دار بينهم حوار طويل.
والحكمة صفة تضاف إلى الالهة، ولا يمكن أن يبلغها إلا المتألّه، وهذا معنى قول فيثاغورس: لست حكيماً Sophos ولكني محب للحكمة (فيلسوف) أو صديق لها philsophos. أما الحكيم فهو النبي الرسول الملك صاحب الملك والشريعة، وهو ما ينطبق على النبي محمد. النبي يجمع العلم والعمل والفيلسوف يكتفي بالعلم والمعرفة النظرية.
جمع ستوبايوس بعض المأثورات التي تنسب للحكماء وهي تدور حول الفضائل المختلفة مثل ضبط النفس، والأمانة والحث على العمل والصدق واحترام الإباء وطاعة القوانين. فقد كانت ثقافة معظم الحكماء قانونية. ولهذه الحكم غرضان: الأول أخلاقي والثاني سياسي. ذلك لأن معظم الحكماء السبعة كانوا من الساسة الذين كانوا حكاماً بالفعل للمدن الاغريقية أو كانوا مشرعين مثل سولون، كما كان موسى صاحب شريعة.
يقول الاهواني: ومما يلاحظ أن كل مدينة كانت تفخر بوجود حكيم يدبر أمورها، وأن اجتماعهم إنما يدل على وحدة كلمة المدن الاغريقية في القرن السادس قبل الميلاد، على الرغم من تفرق المدن في غرب آسيا الصغرى أو في شبه جزيرة البلوبونيز.
لكن ما أن نصل إلى عصر سقراط حتى تكون المدينة الاغريقية قد دخلت في أزمة تاريخية عميقة، وسوف يأتي الاسكندر ليبني إمبراطوريته العالمية على أنقاضها.
[25]
الحكماء السبعة
رأي العرب
انتقلت قصة الحكماء السبعة إلى العرب مشوهة، فالشهرستاني يذكر في "الملل والنحل" أسماءهم كالتالي: طاليس، أنكساجوراس، إنكسامانس، إنبذاقليس، فيثاغورس، سقراط، وأفلاطون. ويضيف: وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم وذكر مقالتهم إلا نكتة شاذة نادرة" أما القفطي في "أخبار الحكماء"، والشهرزوري في "تاريخ الحكماء" فقد جعلا أساطين الحكمة خمسة هم: إنباذقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.
يقول الاهواني: وهذا يدل على تخبط المؤرخين كلما ابتعدوا عن المصادر الأولى، ويدل في الوقت نفسه على علو شأن (الحكمة) والحكماء السبعة إلى الحد الذي جعل المؤرخين العرب يضيفون إليهم سقراط وأفلاطون، بل وأرسطو، فقصروا بذلك الحكماء على الفلاسفة فقط، وهذا خطأ بمقتضى تعريف من هو الحكيم، خاصة وأن الصورة الأولى لهم تبين إلى أنهم كانوا أدنى إلى الحكمة العملية وإلى السياسة منه إلى الحكمة النظرية.
مراجع استعراض نقدي -2
1-الدكتور أحمد فؤاد الاهوانيّ: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009
2-نايف سلوم: المُعْجزة-الشذرات والنُكت في السيرة المحمدية؛ مقدمة جديدة 2022 (نسخة الكترونية)
3-ماركس-انجلز: رسائل مختارة، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب دار دمشق 1976
4-معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 هـ) تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر
5-نايف سلوم: نقيع البتلات-هكذا قرأت اسم الوردة، منشورات (فاعل) 2024
6-برتولد بريشت: حياة غاليلي –مسرحية ترجمة بكر الشرقاوي، دار الفارابي 1981
7-عصام نجادي: مفهوم فلسفة العلماء العفوية عند ألتوسير-مقالة
8-الأُصيفر لمحمد بن شعبة الحرّاني، إعداد وتحقيق كتيبة محمد بن نصير العقائدية.
9-نايف سلوم: مقالات في نقد الادب 2022 (كتاب الكتروني)
10-وليم شكسبير: مأساة هاملت أمير الدانمارك، عربها وقدم لها جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الخامسة 1979
11-كتاب المائدة للحسين بن حمدان الخصيبي (الجنبلاني)، شرح وتعليق أحمد علي رجب، مكتبة اليمان الثقافية.
12-كارل ماركس: موضوعات عن فيورباخ –الموضوعة (الموضوعة 1،3)
13-نايف سلوم: الاعمال والأيام في الخلق، منشورات (فاعل) 2024
14-أرسطوطاليس: في النفس، الآراء الطبيعية المنسوبة إلى فلوطرخس، الحاس والمحسوس لابن رشد، النبات المنسوب لأرسطوطاليس، راجعها على أصولها اليونانية وشرحها وحققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1954
15-أبو نواس الحسن بن هاني: الديوان-باب المجون
16-يمليخا: فيثاغورس (حياته، أعماله) ترجمة زياد الملا، دار الينابيع 2003
17-لينين: مقالة حول الديالكتيك 1915
18-أمالي الزجاجي أبي القاسم عبد الرحمن ابن اسحق الزجّاجي، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الجيل بيروت الطبعة الثانية 1987
19-بحار الانوار للعلامة المجلسي ج2، مصادر الحديث الشيعية، المكتبة الشيعية القسم العام الطبعة الثانية المصححة 1983
20-القرآن الكريم