استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--3
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8079 - 2024 / 8 / 24 - 14:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
القسم الثالث
1-مفهوم المادّة
لقد ظهر لنا أثناء البحث أن المادة لها تاريخ هو تاريخ تجلّيها وانكشافها وظهورها للعقل البشري المثابر. وهذا التعريف للطبيعة والمادة هو عين تعريف أرسطو حين أشار إلى أن الطبيعة ظهور في طبقات للمعنى والمعرفة في حالة تعمق دائم. إن معرفتنا بالطبيعة تتعمق باستمرار منتقلين من صورة آفلة إلى صورة جديدة لتصور الطبيعة والمادة. "فقد توصل بعض الفيزيائيين ارتباطاً باكتشاف أشعة روتنجن (1895) والنشاط الاشعاعي (1896) والالكترون (1897) ووضع النظرية الكوانتية /كوانتوم (1900) والنظرية النسبية (1905) والاكتشافات الأخرى التي طبعت ذلك العصر، إلى أن المادة "تتلاشى" وتحطمت صورة العالم المادية، التي كان يتمسك بها كل عالم طبيعي بشكل تقليدي وعضوي." (تلخيص كتاب)
وأقول لكم: إن الذي تحطم ليس العالم المادي، بل صورة من صوره المكتشفة والمتجلية من قبل، وهي الصورة التي أسس لها علم الميكانيك الذي تأسس رسمياً وتكرس على يد نيوتن في القرن السابع عشر (1642) والذي سبقته أعمال أخرى بداية القرن نفسه (أعمال غاليليو غاليلي)
يقول لينين: ليست صورة العالم المادية هي التي تحطمت، بل تفسيرها الميكانيكي"
وأقول: نعم، ليس العالم المادي هو الذي تحطم، بل صورته الميكانيكية، وقد تم الكشف عن صورة أوسع وأعمق من هذه الصورة الميكانيكية. لأن التفسير الجديد هو تصور جديد للعالم بفعل الاكتشافات الجديدة لنهاية القرن التاسع عشر. بعد مائتي عام جاء الوقت ليغير الانسان تصوره عن العالم المادي بتصور جديد. "إن المادية الميكانيكية غير قادرة على تعميم النتائج الأكثر حداثة للعلم"، وكذلك يكون شأن المادية البيولوجية-الفيزيولوجية أيضاً. ليست المادة هي التي تتلاشى، بل التصورات القديمة البالية حول المادة" زوال الحد التاريخي الذي كنا نرد المادة إليه وقت التعريف بها.
أما ممثلو التحريفية الفلسفية في ألمانيا والنمسا وروسيا (وهي جميعها بلدان متأخرة في ذلك الوقت) فقد أعلنوا بناء على ذلك: لا يوجد أي معنى في افتراض وجود واقعية موضوعية خارج الوعي الإنساني، وعلى المرء أن يربط وجود العالم الخارجي بالإحساسات، بالإدراكات، بالتجربة الفردية القابلة للفحص إيجابياً (وضعياً)" (تلخيص كتاب)
إن المادة مقولة فلسفية أو تصور يتعمق باستمرار مع تعمق كشفنا للطبيعة، كشفنا لهذا المعطى الملقى أمامنا، والذي هو في قسم منه من صنع أيدينا.
المادة لا تنضب، ولا توجد أية حدود مطلقة للطبيعة. هذا ما توصل إليه لينين في بحثه. ومع أن الصياغات لم تكن محكمة بسبب الاستعجال، إلا أن نتيجة بحثه في الكتاب (المادية والنقد التجريبي) راحت تشير إلى ذلك بشكل واضح بما يخص "ثورة علوم الفيزياء" نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن القضية تحسم اليوم بخصوص صورة العالم العلمية الطبيعية من قبل معظم العلماء، علماء الطبيعة. أما المعركة فتدور على أرض الأيديولوجية والفلسفة والعلوم الاجتماعية، حيث تحاول النخب البورجوازية ابعاد الصورة الجديدة للعالم عن الاتصال بالديالكتيك المادي. واستبدال ذلك بـ "التعددية المذهبية" التي تعبر عنها فلسفات الانحطاط، والفلسفات المناهضة للعقل في العصر الامبريالي. (راجع جورج لوكاش: تحطيم العقل)
إن التقسيم السوفياتي للمادية إلى مادية ديالكتيكية (ديالكتيك الطبيعة لانجلز)، ومادية تاريخية (ماركس) تقسيم فاسد، لأنه يجعل التاريخ في تبعية للطبيعة ويجمد الديالكتيك ويحبس التاريخ. وهذا بعكس فهم ماركس في الأيديولوجية الألمانية الذي مفاده أن التاريخ نوعان: تاريخ البشر وتاريخ الطبيعة الذي هو حركة تطور العلوم الطبيعية. يكتب ماركس: " "إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ. ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من طرفين، وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر. وعلى كل حال فالطرفان غير منفصلين: فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما بعضاً ما وجد البشر. وأن تاريخ الطبيعة المسمى العلوم الطبيعية، لا يعنينا هنا، لكنه لابد لنا أن ندرس تاريخ البشر، ما دامت الأيديولوجية بكاملها على وجه التقريب ترتد إما إلى تفسير خاطئ للتاريخ، وإما تؤدي إلى تعليقه كلياً" (الأيديولوجية الألمانية 22)
ويقول انجلس: "ليس الذنب ذنب فيورباخ إذا كان المفهوم التاريخي عن الطبيعة الذي غدا الان ممكناً والذي قضى على كل ما اتسمت به المادية الفرنسية من ضيق، قد بقي في غير متناوله" (لودفيغ فيورباخ).
ويقول ماركس: "إن فيورباخ في حدود كونه مادياً، لا يجعل التاريخ يتدخل قط، وفي حدود إدخاله التاريخ في حسابه، فهو ليس بمادي. إن التاريخ والمادية منفصلان كلياً عنده" (الأيديولوجية الألمانية 37)
وقد انقضت ستة أعوام حتى عاد لينين لقراءة تاريخ الفلسفة من جديد وخاصة منطق هيغل، لكي يخرج الفلسفة المادية من ضيق النزعة العلمية الطبيعية إلى رحابة المادية التاريخية، هذه الأخيرة التي تشكل رأس عمل ماركس ورأس الديالكتيك المادي الماركسي.
يكتب لينين في "دفاتر الفلسفة" (1914-1915) في الفصل "حول المنطق الهيغلي" المجلد 38: "إن وعي الانسان لا يعكس العالم الموضوعي فقط، بل يخلقه" وهنا يؤكد لينين على الطابع الحاسم للمادية التاريخية التي تقول بخلق العالم. إن الانسان بنشاطه العملي يساهم في تغيير الظروف وخلق ظروف جديدة تماماً للمحيط الخارجي الطبيعي والاجتماعي. هنا يظهر الانسان الفاعل خالقاً وتظهر الطبيعة والمجتمع من خلق الانسان.
وفي نقد ذاتي لمحدودية الفكر الفلسفي في كتاب "المادية والنقد التجريبي" يقول لينين: المسألة مطروحة "فقط في حدود المسألة العرفانية (الغنوصية) الأساسية المتعلقة بما يصح اعتباره الاولي وما يصح اعتباره الثانوي. وأنه لمن الخطأ الفادح اللجوء فيما وراء هذه الحدود إلى التضاد بين المادة والروح، بين الفيزياوي والنفسي، بوصفه تضاداً مطلقاً"
عند المواجهة بين المادة والوعي يغض النظر بتعمد تام عن التفاعل بين المادي والمثالي، ففي الممارسة الاجتماعية يتشابك المادي والمثالي بوثوق" (عرض كالب المادية)
2-نظرية الانعكاس الماركسية
إن الحديث عن الانعكاس ذو أهمية أولية فحسب، بعدها يتوجب الحديث عن التوسطات، التوسطات العقلية وصور الفكر الموجودة مسبفاً. والانعكاس هو "صلة مباشرة فعلاً للإدراك مع العالم الخارجي، هو تحول طاقة (قوّة) الاثارة الخارجية إلى واقع إدراك" (المادية والنقد)
يكتب هيغل: "إن الانتقال من الفكرة الذاتية إلى الوجود (العيني) تتضمن توسطاً واضحاً " (موسوعة العلوم الفلسفية) ويضيف: "إن الفهم المجرد الشائع هو وحده الذي يأخذ حدي المباشرة والتوسّط، كل حد بذاته، على أنهما منفصلان انفصالاً مطلقاً" (موسوعة العلوم)
وطاقة أو قوة الاثارة الخارجية تعني أن الأشياء المعطاة لنا في الخارج ممكنة الوجود، كما أن العقل المعطى لنا بالملكة ممكن الاستفادة بتوسط العقل الفعّال، قادر على تحويل الممكنات في الوجود إلى موجودات بالفعل. قال أرسطو: " فالعلم بالقوة والاحساس بالقوة يقابلان الأشياء بالقوة، والعلم بالفعل والاحساس بالفعل يقابلان الأشياء بالفعل. وفي النفس قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما، أحدهما المعقول بالقوة والآخر المحسوس بالقوة." (كتاب النفس)
إن كلمة "طافة" تعني "القوة" أي أن الأشياء موجودة بالقوة يخرجها العقل الفعّال إلى الوجود بالفعل. كما يجعلنا ضوء الشمس نرى الأشياء المضاءة.
إن الفرق الأساسي بين المادي من جهة ونصير الفلسفة المثالية من جهة أخرى، يتجسد في اعتبار إحساس الانسان، ادراكه، تصوره، ووعيه على العموم صورة عن الواقع الموضوعي" هذا ما يقوله لينين. بالطبع الالتباس هنا يكمن في كلمة "الواقع الموضوعي" والمقصود به العالم المعطى لنا من خارجنا. وهو ما يسميه هيغل بـ "الواقعة الحادثية" في مقابل "الواقعة الحقيقية" (قراءة في مقدمة العقل والثورة) يكتب لينين: "إن الوعي الإنساني يعكس العالم الخارجي الفعلي موضوعياً" وموضوعياً هنا تعني أن الوعي الإنساني ةالعقل الإنساني قادر على معرفة ماهية الأشياء معرفة حقيقية، أي تحويلها من واقعة حادثية إلى واقعة حقيقية، أي من موضوع خارجي فعلي إلى موضوع داخلي أو مفهوم في الذهن، مفهوم يقبض على حقيقة الشيء. وهذا القبض لا يكون إلا عبر توسط فاعلية الذات التي تسعى لمعرفة الشيء معرفة عينية، أي الانتقال من المقولة البسيطة إلى المقولة العينية وتنوع أشكال ظهور الشيء فعلياً. ففائض القيمة له شكل بسيط يعبر عنه رياضياً، لكن أشكاله العينية متعددة كالريع العقاري وربح الرأسمالي وريح التاجر الوسيط.
يقول ماركس: "ليس المثالي سوى انعكاس وترجمة للعالم المادي في الدماغ البشري" (رأس المال، تعقيب ماركس على الطبعة الألمانية الثانية)
إن الحديث عن الانعكاس فقط، دون ذكر الترجمة والتحويل في الرأس كلام قاصر، لأن الترجمة والتحويل في الرأس هو ما يدعوه هيغل "بالتوسطات" العقلية أو فاعلية الذات التي تتخذ هدفاً في الانتقال من البسيط إلى العيني أو المعرفة الحقيقية.
"في البدء، لا يهم فيما إذا كان الامر يتعلق بانعكاس صحيح أم خاطئ، فعندما يتوصل الناس في المجتمع الاستغلالي إلى تصورات خاطئة، مشوهة خيالية أو مقلوبة، فالأمر يتعلق في آخر المطاف بالعلاقات المادية التي يعيش الناس في ظلها، العلاقات التي تشرط هذه التخيلات، والتي هي ذاتها مشوهة" (تلخيص كتاب المادية)
هذه التصورات المقلوبة أو الوهمية أو المشوهة لدى البشر "هي نتيجة أسلوب نشاطهم المادي المحدد، ونتيجة لعلاقاتهم الاجتماعية المحددة الناتجة عن ذلك" (الأيديولوجية الالمانية)
إن النسبية نسبية معرفنا ترتبط لدى ماركس بالشرطية التاريخية لمدى اقتراب معارفنا من الحقيقة، إن هذا الاشتراط التاريخي لا يعني أن معارفنا ليست موضوعية وتتبدل كل ثانية، لدرجة أن ما نقوله هذه اللحظة كحقيقة يغدو ضلالاً ما أن نغادر مكاننا في الدقيقة الثانية. هذه النسبية المميتة المنكرة لكل معرفة حقيقة قارة لوقت اشتهر فيها تلامذة هيراقليطس عبر اعتمادهم على مقولته الشهيرة "لا يمكنك أن تستحم في النهر مرتين" لأن النهر يتجدد باستمرار. وقد تم الرد على ذلك بأن الكيف لا يتغير إلى كيف آخر إلا بعد وقت تأخذه التراكمات الكمية. النسبية "المطلقة" لا تأخذ بالحسبان وجود مقولتي الكم والكيف. (جذور الديالكتيك)
إن نظرية المعرفة حسب لينين ترتبط بالمقدمات التالية:
1-المادية الفلسفية، بمعنى أن المثالي ليس سوى المادي منعكساً في الدماغ ومحولاً فيه بقوة فاعلية الذات، بقوة العقل الفعّال.
2-نظرية التطور الديالكتيكية أي أن الأشياء تتطور ليس كمياً فحسب، بل كيفياً عبر قفزات وثورات، ليس بشكل متواصل بل عبر انقطاعات.
3-مقياس الحقيقة الموضوعية هي الممارسة، بالتالي أخذ الممارسة (المادية التاريخية) كأساس لمجمل عملية المعرفة، خاصة فاعلية الذات التاريخية في الطبيعة والمجتمع. وعلى الممارسة أن تكون من جنس العلم النظري أو النظرية. لا يعتد بممارسة تاريخية سياسية لم تستوعب النظرية.
إن انقسام الفلسفة إلى بورجوازية وماركسية تعني أن الفلسفة شأن حزبي تاريخي وهي منخرطة كأيديولوجيا وشكل وعي في الصراع الاجتماعي الطبقي. لكن الحزبية تعتبر لاحقة لنتاج العلم التاريخي
تظهر الأبحاث القطاعية المتخصصة على أنها محايدة في الصراع الاجتماعي ولكنها بعملية الفصل هذه تحجب كلية المجتمع وطابعه الرأسمالي الاستغلالي، بالتالي ليست محايدة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن الاستفادة منها كمعلومات بالنسبة للباحث الماركسي. من هنا يكون حد العلم هو الذي يساعد الماركسي على التمييز بين العلم التاريخي الحق وبين التضليل البورجوازي. إن تحزب ماركس للبروليتاريا وقضيتها التاريخية العادلة لم يجعله يغفل أن البحث العلمي النزيه والمجرد عن كل مصلحة أنانية هو الأساس لبناء نظرية حقيقية للتغيير التاريخي وهي التي تعزز نضال العمال التاريخي بشكل حقيقي وفعال. وليس الحزبية الزائفة. ومن الملفت أن النبي محمد وصف خصومه من المشركين بالأحزاب لأنهم ينكرون الحقيقة التاريخية والحق. قال النبي: "وهزم الأحزاب وحده"، وجاء في القرآن الكريم: " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا" [الأحزاب: 25]
إن الحزب التاريخي الثوري يفترض الموضوعية العلمية الصارمة التي يشكل خرقها خرقاً لوصية الحزبية التاريخية في نفس الوقت. إن الموضوعية العلمية الصارمة والحزبية التاريخية الثورية تشكلان وحدة واحدة. وبتخلي الحزب التاريخي الثوري عن العلمية الصارمة وتفكيك الوحدة يتحول إلى حزب بيروقراطي تبريري يخدم أوضاع قائمة فاسدة.
إن الطبقة المستغِلة مهتمة بالحقيقة العلمية إلى ذلك الحد وذلك البعد الذي تكون فيه نافعة لمصالحها الطبقية الانانية. . أما فيما يتعلق بفلسفة الطبقات الأخرى الهامشية، نستطيع أن نقول إنها ترتبط بمصير الطبقة المستغلة.
بالطبع يجب التفريق بين فلسفة البورجوازية فترة الصعود التاريخي حتى ثورات 1848 الديمقراطية في أوروبا، وبعد ذلك بدأت فترة من الانحدار والانحطاط التاريخي للبورجوازية. وقد أضحت الفلسفة بعد فشل هذه الثورات تبريرية وانتهازية نفعية بشكل مباشر. يقول ماركس: "الامر لا يتعلق فيما إذا كانت هذه النظرية أو تلك حقيقة، بل فيما إذا كانت نافعة أم ضارة لرأس المال، مريحة أن مزعجة، غير ملائمة للشرطة أم لا. بدلاً عن البحث النزيه (العفيف) ظهر الكتاب المرتزق، وبدلاً عن البحث العلمي غير المتحزب دخل الضمير الخبيث والهدف السيء للمبررين" (رأس المال، المجلد الاول) وهذا الكلام لا يسري على الاقتصاد السياسي فحسب، بل على الفلسفة البورجوازية في مرحلة الانحطاط.
ليس لدى الطبقة البروليتارية شيئاً تخسره من الكشف عن كامل الحقيقة التاريخية غير شقائها وبؤسها. أما البورجوازية فلديها الكثير لتخسره. والبروليتاريا بحاجة ماسة للعلم من أجل تأدية مهمتها التاريخية بنجاح واقتدار. "وهي الطبقة الوحيدة في التاريخ التي لا تضع أية عراقيل أمام اكتساب المعرفة العلمية" (تلخيص كتاب المادية). إن للبروليتاريا مصلحة في الحقيقة الكاملة من أجل إقامة المجتمع الخالي من الطبقات والاستغلال، المجتمع الاشتراكي. يقول انجلز: "لا يهتمون بمنصب أو بربح، ولا بحماية رحيمة من الأعلى، بل على العكس، فبقدر ما يتقدم العلم ببسالة واقدام، بقدر ما يجد نفسه مع مصالح وأهداف البروليتاريا" (لودفيغ فيورباخ)
يقول نارسكي: "إن الحزبية الشيوعية تعترف بصراحة بالطبيعة الطبقية للفلسفة ولا يمكن فصلها عن الموضوعية العلمية، أما الحزبية البورجوازية فكاذبة ومنافقة، وتخرق دائماً العلمية، من حيث أنها تقلل من حزبيتها وتحاول خلق الغموض ". أما هيغل فيتحدث عن أن نتائج العلم عينية تاريخية أي أنها تصب في النهاية في مصلحة طبقة ضد مصالح طبقات أخرى.
في فترة صعود البورجوازية وصراعها مع الاقطاع والكنيسة الكاثوليكية لعب العلم الطبيعي خاصة الفيزياء دوراً كفاحياً، يعتبر غاليليو نموذجياً في هذا السياق. لقد دخلت فيزياء غاليليو في صراع مع الكنيسة كمحتكر للحقيقة لأنها حاولت التعبير هي نفسها عن حقيقة علمية أخرى تناقض الحقيقة الزائفة للكنيسة الرسمية التي مهمتها الدفاع عن الامتيازات الموروثة فحسب.
مع ظهور البروليتاريا السياسي اعتبارا من ثورة 1848 بات العلم الطبيعي محايداً في الصراع الأيديولوجي والفلسفي بين البروليتاريا والبورجوازية، وانتقل الصراع إلى حقل آخر هو حقل الاقتصاد السياسي الذي حدد مهمته الرئيسية بالكشف عن التنظيم الاقتصادي للمجتمع وتحديد الطبقات المستفيدة من هذا الشكل للتنظيم. لذلك انقسم الاقتصاد السياسي إلى ماركسي وبورجوازي. من هنا يمكن الحديث عن حزبية الاقتصاد السياسي.
الطبقة العاملة بحاجة إلى الحقيقة، إنها ذات مصلحة كبيرة بالحقيقة، استناداً إلى موقعها الاجتماعي في العملية الإنتاجية تكون مؤهلة للوصول إليها ووضعها بلا حدود لخدمة التقدم الاجتماعي.
إن تعريف بوغدانوف للحقيقة "بأنها شكل أيديولوجي، الشكل المنظم للتجربة الإنسانية، خاصة "التجربة الجماعية" (الكنيسة الكاثوليكية الرسمية، كمثال)" يحيلنا إلى أن الحقيقة مسألة انتخابية وصناديق اقتراع، حيث تكون الحقيقة بجانب الأغلبية الشعبوية.
الوضعية الجديدة والكانطية الجديدة تربط الحقيقة بالرابطة السائدة (العلاقة المهيمنة)، والبراغماتية فهي تماثل الحقيقة بالفائدة. "الحقيقي هو النافع"
فقط الممارسة بتطورها تكون محكاً للنظرية. لا يمكن اختبار مصداقية النظرية الماركسية عبر تنظيم قاصر يعتمد المجالس العمالية أو النزعة النقابية أو العفوية في التنظيم. وقد أشار لينين "إلى أن محك الممارسة لا يسعه أبداً، من حيث جوهر الامر، أن يؤكد أو يدحض كلياً أي تصور بشري كان" ولو كان الامر عكس ذلك لكان فشل ثورة 1905 دليلا على كذب النظرية الاشتراكية الماركسية. كما حاول "النقد التجريبي " اثباته. لكن فشلها يعني فشل فكر ثوري محدد قاصر في روسيا في ذلك الوقت.
يقول لينين في مجال النظرية لا يوجد "تعايش سلمي" لا أكاذيب ولا مساومات. التطور الدائم للنظرية المتماشي مع تطور ممارسة البروليتاريا السياسي هي سمة الحزب الاشتراكي الثوري. والحزب الانتهازي هو الذي يساوم على مستوى النظرية بحجة بناء التحالفات.
يصبح الشيوعيون قادة الجماهير عندما يتم ربط العمل النظري بالنشاط السياسي العملي، عندما تخدم النظرية الممارسة، وتحل القضايا التي تطرحها الحياة، والاجابات تجتاز اختبار الممارسة. أما التصرف الديماغوجي الجامد تجاه النظرية فيجعل الجماهير عبيد الحزب.
"الديماغوجي هو الذي يحصر نفسه بنصوص بحيث عندما يظهر تركيب جديد لا يوجد في أي كتاب يرتبك ويأخذ النص الذي لا يتوافق مع الموضوع". إن مستوى العمل النظري يقود إلى نجاح سياسات الحزب، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي. الماركسية تعاليم ثورية سائرة إلى الامام، تعاليم دينامية مرتبطة بالحياة.
مراجع القسم الثالث
1-هاينرش أوبتنر: المادية والنقد التجريبي، عرض وقراءة لكتاب لينين، ترجمة عيسى عبد الرضا. دار ابن خلدون 1981 الطبعة الألمانية دار ديتز 1975)
2-انجلز: لزدفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، مع ملحق كارل ماركس: موضوعات عن فيورباخ.
3-نايف سلوم: قراءة في مقدمة العقل والثورة لماركوزه. الحوار المتمدن
4-كارل ماركس: رأس المال، المجلد الأول، ترجمة د. فالح عبد الجبار، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2013
5-أوسكار لانكه: الاقتصاد السياسي، الجوء الأول-القضايا العامة، ترجمة وتقديم الدكتور محمد سلمان حسن. جار الطليعة بيروت 1976.
6-ثيوكاريس كيسيديس: جذور المادية الديالكتيكية-هيراقليطس، ترجمة حاتم سلمان. دار الفارابي 1987
7-ماركس-انجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب، دار دمشق 1976
8-هيجل: موسوعة العلوم الفلسفية (المجلد الأول)، ترجمة وتقديم وتعليق: د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير بيروت، الطبعة الثالثة 2007
9-لينين: دفاتر عن الديالكتيك، ترجمه وقدم له: الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت 1971
10-لينين: المادية ومذهب النقد التجريبي، دار التقدم 1981
11-كتاب النفس لأرسطوطاليس: ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، مراجعة الاب جورج شحاتة قنواتي، تصدير ودراسة: مصطفى النشار. المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الثانية 2015