استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--4


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8080 - 2024 / 8 / 25 - 12:29
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

القسم الرابع
تعليقات حول نظرية المعرفة في كتاب "مذهب نقد التجربة والمادية الديالكتيكية"
"نظرية المعرفة في مذهب نقد التجربة والمادية الديالكتيكية": هي الفصول الثلاثة الأولى من كتاب لينين "المادية والمذهب النقدي التجريبي " الذ ي كتبه سنة 1908 على أثر فشل ثورة 1905-1907 في روسيا القيصرية.
يكتب لينين: "إن الضمير غير النقي وحده (وربما الجهل بالمادية أيضاً؟) جعلت الماخيين الذين يودون أن يكونوا ماركسيين، يتركون بشكل مراوغ انجلز جانباً، ويتجاهلون فيورباخ تجاهلاً تاماً، ويأخذون بالدوران حول بليخانوف وقربه"
إذاً الماخيون يضمرون سوء النية تجاه الماركسية، وهو يعرفون المادية العلمية الطبيعية ممثلة بفيورباخ وانجلز، لكنهم يتجاهلون ذلك ويماحكون بليخانوف الروسي تلميذ انجلز الذي انتقل في العقد الأخير من القرن التاسع عشر من التيار الشعبوي الروسي البورجوازي الصغير إلى الماركسية. وله تنظيرات فلسفية في الماركسية وأبحاث في تاريخ المادية، خاصة مادية القرن الثامن عشر الفرنسية. وحسب لينين: هذا "تملّص من التحليل المباشر لنظرات المعلم". إنهم يريدون أن يكونوا ماركسيين مع بليخانوف وحده، ويستبعدون انجلز. ويقومون بمقارنات بين الماركسية والكانطية مثال ذلك مقالة ف. تشيرنوف: "الماركسية والفلسفة المتعالية" والمقصود "بالفلسفة المتعالية" فلسفة كانط. ويحاول فيها معارضة ماركس بأنجلز، معارضة المادية التاريخية لماركس بمادية انجلز العلمية الطبيعية الديالكتيكية. أي وضع كتاب انجلز "ديالكتيك الطبيعة " في مقابل "موضوعات عن فيورباخ" لماركس. ويتهم تشيرنوف مادية انجلز الطبيعية بأنها "عقائدية ساذجة" و "مادية عقائدية فظة جداً"
ونسي تشيرنوف قول ماركس في الأيديولوجية الألمانية: ""إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ. ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من طرفين، وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر. وعلى كل حال فالطرفان غير منفصلين: فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما بعضاً ما وجد البشر. وأن تاريخ الطبيعة المسمى العلوم الطبيعية، لا يعنينا هنا، لكنه لابد لنا أن ندرس تاريخ البشر، ما دامت الأيديولوجية بكاملها على وجه التقريب ترتد إما إلى تفسير خاطئ للتاريخ، وإما تؤدي إلى تعليقه كلياً" (الأيديولوجية الألمانية)"
لقد تبنى كانط الألماني وجهة نظر هيوم الإنكليزي "اللاغنوصية" أو اللاأدرية، لذلك يعلن السيد تشيرنوف أن محاكمة انجلز الموجهة ضد مفهوم "الشيء في ذاته" عند كانط، وضد خط هيوم الفلسفي مثال "كاف""
وكنت قد ناقشت فكرة انجلز بخصوص المسألة الأساسية في الفلسفة التي تقسم الفلسفة بشكل عام إلى فلسفة مادية وفلسفة مثالية في "مدخل نقدي إلى كتاب انجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية"
وفكرة انجلز تقول: "المسألة الأولى (الاساسية) في الفلسفة كلها، والسؤال الجوهري الأعظم في الفلسفة كلها، بالأخص الفلسفة الحديثة، هو علاقة التفكير بالوجود، علاقة الروح بالطبيعة"
وقلنا في المدخل أن المسألة الأساسية في كل فلسفة قديماً وحديثاً هي بين تيارين: تيار يقول بقدم العالم وأزليته وأنه غير محدث وغير مخلوق وتيار آخر يقول بخلق العالم أي بخلقه وحدوثه.
ويطرح انجلز المسألة الثانية: هل بإمكان تفكيرنا أن يعرف العالم الواقعي معرفة حقيقية؟ وقد انقسم الفلاسفة إلى قسمين:
الأول هو الغنوصي الذي يقول بأننا نستطيع معرفة العالم معرفة موضوعية أي على حقيقته، يوجد" الشيء في ذاته" لكن يمكننا معرفته معرفة حقيقية. هذا التيار يشمل فلسفات مثالية (هيغل) وأخرى مادية.
الثاني: اللاغنوصي أو اللاأدري الذي يشك في امكان معرفتنا بالعالم معرفة حقيقية، ومعارفنا هي معرفة بالظواهر فقط. هذا التيار يقول "بالشيء في ذاته" الذي لا يمكننا معرفته. (هيوم، كانط)
يقول انجلز: "توجد مجموعة من الفلاسفة الاخرين الذين يشككون في إمكانية معرفة العالم، أو على الأقل معرفته معرفة كاملة. من هؤلاء هيوم وكانط من الفلاسفة المحدثين. وقد لعبا دوراً هاماً جداً في التطور الفلسفي" (ماركس-انجلز مختارات في مجلدين، المجلد الثاني)
لقد ادعت الكنيسة الكاثوليكية الرسمية في العصور الوسطى أنها صاحبة الحقيقة ومحتكرتها، وأنها تعرف العالم معرفة حقيقية ونهائية لأنه مخلوق أوجده الخالق المسيحي وأعطى أسرار خلقه للكنيسة الرسمية المكرسة بأناجيلها الأربعة. جاء هيوم وبعده كانط وقالا بأنهما يشكان بإمكان البشر خاصة آباء الكنيسة، معرفة العالم معرفة حقيقية، خاصة وأن تقدم التاريخ جاء بالطبقة البورجوازية المعادية للإقطاع والكنيسة معاً والتي لا تعلم الكنيسة من أمرها إلا النذر اليسر.
إن الموقف السلبي لهيوم وكانط هو موقف اعتراض وتهكّم من جهل الكنيسة بالعالم الجديد البورجوازي. لهذا لعبا دوراً هاماً في التطور الفلسفي.
واضح من كلام لينين أن الفلسفة الأكثر تأثيراً على الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في بداية القرن العشرين هي الكانطية الجديدة التي تحاول بعث الحياة في فلسفة هيوم وكانط.
يقول لينين: "وبعد أن يشير انجلز إلى أن هيغل سبق وأورد حججاً "حاسمة" ضد هيوم وكانط وأن فيورباخ أكمل هذه الحجج بآراء ظريفة أكثر مما هي عميقة ، يتابع كلامه فيقول: الدحض الحاسم لهذه النزوات (الترهات) الفلسفية وغيرها يكمن في الممارسة ، وعلى وجه التحديد في التجربة العلمية وفي الصناعة."
يضيف لينين: "فإذا كنا نستطيع أن نبرهن على صحة ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، بأن نحدثها (نخلقها من جديد)، بأن نستحضرها من ظروفها، ونجعلها تخدم، إلى ذلك أهدافنا، تكون نهاية "الشيء في ذاته" الذي لا يُدرك بحسب كانط قد حُلّت. (الذي لا يُدرك): هذه الكلمة الهامة أسقطها كل من بليخانوف وتشيرنوف من ترجمته" هكذا أصبح الشيء في ذاته شيئاً من أجلنا.
بالأمس لم نكن نعلم شيئاً عن الاليزارين، هذا معناه أنه كان موجوداً بالقوة (ممكن) في قطران الفحم الحجري وقد أخرجه علم الكيمياء من القوة إلى الفعل. إن إحساساتنا هي صور للعالم الخارجي.
إن اللاأدري (اللاغنوصي) (الهيومي) ينطلق من الاحاسيس ولا يعترف بسواها مصدراً لمعارفنا. اللاأدري وضعي خالص"
وضعي لأنه ينكر عمليات النفي للانطباعات الحسية التي يقوم بها الذهن كي يعيد عبرها ترتيب عناصر الظاهرة بحيث يقبض عليها في حقيقتها عبر هذه المعالجة بالنفي والقلب وإعادة الترتيب. الوضعية لا تعترف بأي نفي.
إن طرح خط المادية بهذه الصيغة (صيغة الانعكاس) فيه الكثير من الاختزال الضار بالمسألة، لنستمع ما يقوله لينين: "الخط الأول هو أن مشاعرنا (أحاسيسنا) تعطينا صوراً أمينة للأشياء، وأننا نعرف هذه الأشياء نفسها (كما هي في ذاتها)، وأن العالم الخارجي يؤثر على حواسنا"
في هذه العبارات لا يوجد أي حديث عن توسطات العقل وفاعلية الذات ولا عن النفي والقلب والتحويل الذي تخضع له الصور الأولية الانطباعية حتى نصل إلى حقيقة الشيء في ذاته.
إن عبارة بليخانوف القائلة: لا يمكن العثور على الوجود الواقعي إلا خارج كل ما هو معطى مباشرة" يمكن إرجاعها إلى عبارة هيغل القائلة: "إن الانتقال من الفكرة الذاتية إلى الوجود (العيني) تتضمن توسطاً واضحاً " (موسوعة العلوم الفلسفية) ويضيف: "إن الفهم المجرد الشائع هو وحده الذي يأخذ حدي المباشرة والتوسّط، كل حد بذاته، على أنهما منفصلان انفصالاً مطلقاً" (موسوعة العلوم) لا يمكن العبور من المعطى المباشر إلى حقيقة الواقعي إلا بالتوسط العقلي الذي يتضمن التحويل بالنفي وإعادة الترتيب والتوجيه. ومع ذلك فعبارة بليخانوف تحمل سوء صياغة وتشويش. انجلز يقول: إن الوجود الواقعي بالنسبة للمادي يقع وراء حدود ادراكات الانسان الحسية، ووراء انطباعاته. أما هيغل فيميز بين "الواقعة الحادثية" كمعطى مباشر وبين "الواقعة الحقيقية " الناتجة عن التوسطات العقلية.
المعطى المباشر هو المعطى الخارجي، وأحاسيسنا هي صورة انطباعية عنه.
يقول كانط إن الانتقال من الظاهرة، أو إذا شئت من احساسنا (صورة الظاهرة)، من إدراكنا إلى الشيء في ذاته تعال، وهذا التعالي مباح لأجل الايمان لا لأجل المعرفة. وهيوم يقول إن التعالي غير مسموح به بتاتاً. والكانطيون كالهيوميين يدعون الماديين واقعيين متعالين ميتافيزيقيين يقومون بانتقال غير مشروع من مجال (الاحساسات) إلى مجال أخر متميز عنه مبدئياً، مجال العيني (معرفة أعيان الاشياء).
إن الماركسيين يتبعون هيغل في هذا الانتقال من الحسي (الادراكات الحسية) إلى العيني، وهذا الانتقال له وسائط فكرية عبر فعالية الذهن. هذه التوسطات هي برازخ تسمح بالانتقال في الرأس البشري والتحويل من الحسي إلى المجرد إلى العيني.
ننقل هذه الفقرة الملفتة لانجلز في "ضد دوهرنغ". يقول انجلز: "وحدة العالم لا تقوم في وجوده، مع أن وجوده مقدمة لوحدته، ذلك أن العالم يجب أن يوجد أولاً قبل أن يتمكن من أن يكون واحداً “
العالم يجب أن يوجد أولاً تعني أن العالم مخلوق ولا يمكن الحديث عن وجوده قبل خلقه، وعندما يتم خلقه يتم إيجاده كعالم واحد، ككون واحد لا أكوان بجانبه. قبل تكوين الكون لا يمكن الحديث عن وحدة الكون أو العالم. أما مذهب وحدة الوجود فيقول إن الله والعالم في وحدة أزلية وأن العالم لم يخلقه أي إله، وأن الاله هو مبدأ ترابط العالم، وأن العالم نار دائمة الاتقاد تشتعل بقدر وتنطفئ بقدر. يقول هيراقليطس في المقطوعة (30) بلهجته الرصينة جداً: "هذا العالم، هو نفسه بالنسبة للجميع، لم يخلقه أي إله أو بشر، ولكنه كان دائماً وهو موجود الآن وسيبقى، ناراً حيّة دائماً تشتعل باعتدال وتنطفئ باعتدال" (جذور المادية الديالكتيكية-هيراقليطس)
يطرح فيورباخ فكرة يركز فيها الانتباه على مسألة "الشيء في ذاته". لننقل الاقتباس: "توجه الروحانية الفلسفية المعاصرة، التي تسمي نفسها المثالية، للمادية اللوم التالي الساحق الماحق في رأيها، المادية عقائدية، أي انها تنطلق من العالم الحسي بوصفه حقيقة موضوعية لا تقبل الجدل، وتعتبرها عالماً بذاته، أي عالماً موجوداً بدوننا، مع أن العالم في حقيقة الامر ليس إلا نتاج الروح"
ماذا يريد أن يقول فيورباخ؟ يريد القول أن العالم المعطى لنا في مباشرته والذي يظهر خارجاً عنا، موجود "في ذاته" في الخارج. معطى لنا من الخارج. هذه لحظة تجريدية، لحظة أولى.
اللحظة الثانية أن العالم مخلوق ومبدأ وحدته في خلقه ككون واحد. الشيء في ذاته تجريد ناقص لا يكتمل إلا بإعادة خلقه كعالم واحد. وهذا الخلق من عمل الروح الإنساني. لينين يركز على لحظة "الخارج عنا" إن اختصار الشيء في ذاته على أنه خارجنا يتحول إلى مادية دوغمائية عقائدية، لأنه مع معرفتنا بالشيء في ذاته يكون العالم في وحدته قد وجد عن عدم (نفي) وعدمه (نفي هذا النفي): من الحسي إلى المجرد نفي أول، ومن المجرد إلى العيني وظهور العالم نفي للنفي. كالحلم لا يكتمل إلا بتفسيره.
العالم في ذاته ليس هو العالم الموجود بدوننا، لكنه العالم الموجود خارجنا، ولا يكتمل وجوده إلا بمعرفته. أي حين يغدو لنا. الاعتراف بالموضوعات بذاتها، الموجودة خارج وعينا هي مادية طبيعية تأملية، مادية بدائية. دوغمائية. عند كانط تجريد فحسب، أما عند فيورباخ فهو واقع جرى تجريده بصورة انطباعية.
إن هيغل يفصّل الامر أفضل حين يقسم الواقعة إلى "واقعة حادثية" هي تجريد، وإلى "واقعة حقيقية" هي تعيين ككلية أي كلية عيانية، بعد توسطات العقل. الشيء في ذاته يختلف عن الشيء لأجلنا على هذا الأساس.
حسب فيورباخ: الإحساس هو نتيجة تأثير الشيء في ذاته الموجود موضوعياً خارجنا، على حواسنا. الإحساس صورة ذاتية للعالم الموضوعي، للعالم بذاته.
حين نتحدث عن التحول الجلي للشيء في ذاته إلى ظاهرة، إلى شيء لأجلنا، نحن نتحدث عن باطن وظاهر الشيء، أي تجلي الشيء وظهوره لنا بقوة العلم المتراكم، بقوة العقل الفعّال. هو معرفة بالشيء. فالباطن بالنسبة لنا غيب. والظاهر معلوم معروف.
إن الانتقال من المعطى المباشر الحسي إلى العيني هو انتقال من المعطى الجزئي المجرد الذي يفتقد إلى الضرورة والشمول إلى الكلية العيانية أي إلى الشيء في ترابطه الضروري مع الأشياء الأخرى. من العزلة الفردية إلى حياة الجماعة.
إن انجلز أكثر صواباً من فيورباخ وديتسغن حين "يعارضان بحزم الفرق "المبدئي" بين الشيء في ذاته والظاهرة (بين الباطن والظاهر)، ويتكلم هو "عن تحول "الأشياء في ذاتها"، إلى "أشياء لأجلنا""
نحن نركز انتباهنا على "الشيء في ذاته" ونهمل الامر الحاسم هنا وهو فعل التحويل الذي يقوم به الذهن البشري، والذي هو فعل خلق تظهر عبره الأشياء الباطنة وتتجلى لنا كأشياء ظاهرة معروفة على حقيقتها. هو الذي خلق الأشياء عن عدم وعدمه، قال ابن عربي: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه" (الفتوحات المكية، السفر الأول ص 41)
يقول بوغدانوف: "إن موضوعية الاجسام الفيزيائية، التي نصادفها في تجربتنا، تتأكد في النهاية على أساس التحقيق المتبادل لأقوال مختلف الناس وتنسيقها، فالعالم الفيزيائي هو بوجه عام، تجربة منسقة اجتماعياً، متسقة اجتماعياً، وبكلمة واحدة، تجربة منظمة اجتماعياً"
هذا الكلام يحيلنا إلى رواة الحديث وقولهم عن الحديث النبوي: "متفق عليه" فهو صحيح لأنه متفق عليه، على قياس إذا صوتت الأغلبية على أمر كان صحيحاً!؟ لكن المسيح عيسى كان لوحده حين كان على حق، وكان الجميع على باطل.
إن "المتفق عليه" أو "الاجماع" هو إيديولوجيا الطبقة السائدة وشبكة المصالح المرتبطة بها. إن "التجربة المنظمة اجتماعياً" قد تكون هي الأيديولوجيا السائدة والتي كلها تضليل.
يعلن هيغل أن المادية "هي النظام المتماسك للتجريبية " الشيء الخارجي هو بشكل عام، الشيء الحقيقي بالنسبة للتجريبية، وإذا ما سلمت التجريبية بشيء ما فوق الإحساس، فإنها تنفي إمكانية معرفته، وتعتبر أنه من الضروري التمسك فقط بما يعود للإدراك" هذه المقدمة الاساسية أعطت في تطورها المتماسك ما سمي فيما بعد بالمادية. والمادة بالنسبة لهذه المادية هي الشيء الموضوعي حقاً (موسوعة العلوم الفلسفية) وموضوعي هنا يعني أنه معطى للوعي من الخارج. لكن للموضوعية معان أخرى يشرحها هيغل.
المعارف كلها من التجربة، من الاحساسات، من الادراكات. وهذا صحيح. لكننا نتساءل هل يعود الواقع الموضوعي إلى الادراك، أي هل هو مصدر الادراك؟ إذا كان الجواب نعم أنت مادي!
لينين لا يشير هنا إلى أن المشكل هو في كلمة موضوعي.
يقول: عدم تماسك فلسفتك التجريبية تقوم على نفيك المحتوى الموضوعي في التجربة، الحقيقة الموضوعية في المعرفة التجريبية.
المادة مقولة فلسفية تدل على واقع موضوعي معطى للإنسان في حواسه، وهذه الحواس تنسخ هذا الواقع وتصوره كعدسة كاميرا.
وإذا قلنا أن المادة "واقع موضوعي معطى للإنسان في حواسه" ماذا يحدث؟
أمامنا قضية المادية القائلة إن الحسي وحده موجود، ولا وجود إلا الوجود المادي" هذا القول لألبيرت تفيغلر قول مبتذل ويبلّد العقل الإنساني ويدمغه بالغباوة
المعرفة التي لها حق مطلق في الحقيقة هي الحقائق المتراكمة على مر التاريخ التي تتحقق تماماً في استمرار الحياة الإنسانية إلى ما لانهاية. هذا التراكم التاريخي للعقل المستفاد كقوة انتاج فكرية هو الذي يستحق لقب الحقيقة المطلقة والتي تسمى "العقل الفعّال" إن موقعه من عقولنا الفردية كموقع ضوء الشمس من الموجودات، فهو يخرجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، كذلك العقل الفعال يخرج العقول الهيولانية الفردية (العقول الموجودة بالقوة، يخرجها إلى الفعل) حين يفيض عليها ويمنّ: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ) [طه: 37]
نلحظ هنا التناقض بين طابع التفكير الإنساني الذي يبدو لنا مطلقاً بحكم تراكمه اللانهائي ومفارقته للأفراد، وبين تحققه في أناس تاريخيين يعيشون في زمن معين ويفكرون بشكل نسبي ومحدود. هذا التراكم لقوة المعرفة المتراكمة في علاقتها بالفترات والازمنة التاريخية هو ما نسميه بديالكتيك المطلق والنسبي. أو ديالكتيك العقل الفعال-العقل المستفاد. وما أن يفارق العقل المستفاد حتى ينضاف كقوة انتاج عقلية إلى العقل المتراكم الفعال.
بهذا المعنى، التفكير الإنساني مستقل، والادق مفارق بقدر ما هو تابع، والادق ملازم. وملكة المعرفة لامحدودة أو مطلقة (عابرة للمراحل التاريخية) بقدر ما هي محدودة ونسبية وتاريخية مشروطة بمرحلة معينة. "العقل الفعّال" مفارق (مستقل) ولا محدود من حيث طبيعته (مطلق) وهو نتاج أجيال إنسانية متعاقبة لا نهائية. الحقيقة المطلقة أو "العقل الفعال" هو تراكم لا نهائي للحقائق النسبية التاريخية. يمكن أيضاً الحديث عن حقيقة موضوعية ضمن شروط صارمة ومحصورة تماماً. فنظرية المثلث القائم الفيثاغورية صحيحة تماماً في شرط المثلث القائم ما أن نتوسع في الزاوية قليلاً ويحدث انفراج بسيط حتى يتحول الصحيح إلى خاطئ.
التفكير الإنساني قادر إذن من حيث طبيعته في المراكمة والمفارقة للأفراد أن يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من تراكم حقائق تاريخية نسبية. وكل مرحلة من تطور العلم تضيف وتراكم بذور جديدة إلى مجموع الحقيقة المطلقة هذا، لكن حدود كل حقيقة تاريخية، كل موضوعة علمية نسبية.
إن الشرطية التاريخية لمعارفنا تجعلها صحيحة وحقيقية، فضمن الشرط والحصر هي حقيقة (المثلث القائم) ومع تقدم الشرط وبداية تحوله تتحول معارفنا إلى نسبية ونشعر بقصورها عن الشروط الجديدة. لكن تراكم الحقائق التي ينتجها العقل البشري يقود إلى قوة انتاج فكرية هائلة مطلقة تفيض على العقول الفردية فتحولها من القوة إلى الفعل.
"فنحن نبصر ما هو أكثر عينية في ضوء ما هو أكثر تجريداً" كما قال ماك انتاير (ماركوز)
(مقالة في العقل الفعال) وهذا الجهد جهد بشري تراكمي؛ إنه "ثروة تمثيل العالم. ليس فقط الكلي المجرد، بل الكلي الذي يتضمن في ذاته ثروة الخاص" إنه العقل الفعّال، "ليس مجردا، ميتاً، ساكناً، بل عياني" هذا هو روح وجوهر الديالكتيك" (دفاتر عن الديالكتيك) (رسالة في العقل الفعال)
على النظرية أن تكون من جنس العمل حتى تستطيع الممارسة أو العمل الحكم على النظرية أو العلم. إذا لم تكن الممارسة من جنس النظرية لا تستطيع الحكم عليها.
إن ممارسة البيروقراطية السوفياتية لا تستطيع الحكم على صوابية أو خطأ نظرية ماركس لأن ممارسة البيروقراطية السوفياتية تمت وفق معطيات نظرية منحرفة بقوة عن الماركسية.
بالنسبة لماخ النظرية شيء والممارسة شيء آخر ليس من جنسه، إنهما متجاوران فحسب.
إن على النظرية البحث منهجياً في ممارستها، أي على النظرية الماركسية القائمة على العلم التاريخي أن تنظر في قضايا التنظيم وتخضع قضية الممارسة للبحث العلمي التاريخي. حتى يكون العلم والعمل من جنس واحد، فحروف الكلمتين واحدة (ع-ل-م) أو (ع-م-ل) [ع-م-س]
علينا ألا ننسى أن مقياس الممارسة لا يستطيع بطبيعته أن يؤكد أو يدحض تماماً أي تصور إنساني مهما كان
مراجع القسم الرابع
1-ف.لينين: نظرية المعرفة في مذهب نقد التجربة والمادية الديالكتيكية، ترجمة يوسف حلاق. دار الفارابي بيروت، دار الجماهير الشعبية دمشق 1982
2-هاينرش أوبتنر: المادية والنقد التجريبي، عرض وقراءة لكتاب لينين، ترجمة عيسى عبد الرضا. دار ابن خلدون 1981 الطبعة الألمانية دار ديتز 1975)
3-ثيوكاريس كيسيديس: جذور المادية الديالكتيكية-هيراقليطس، ترجمة حاتم سلمان. دار الفارابي 1987
4-ماركس-انجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب، دار دمشق 1976
5-نايف سلوم: ثلاث رسائل-رسالة في العقل الفعّال، منشورات "فاعل"
6-لينين: دفاتر عن الديالكتيك، ترجمه وقدم له: الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت 1971
7-محي الدين بن عربي: الفتوحات المكية-السفر الأول، تحقيق وتقديم د. يحي عثمان، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور الهيئة المصرية للكتاب 1985