رسالة في -رَسْمِ العقل- وأقوال
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8099 - 2024 / 9 / 13 - 22:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تحدّث الكندي "عن رسم قولٍ في العقل، موجز خبري" على رأي المحمودين من قدماء اليونان ومن أحمدهم أرسطاطاليس ومعلمه أفلاطُن الحكيم.
والخبريّ هنا ليس النقل عن فلان، عن فلان كما يحصل في العنعنة في كتب التاريخ الإسلامية القديمة وكتب الحديث والسيرة، بل هو إخبار عن جواهر القول تم تسلّمها وعقلها وتدبّرها وإعادة تذكّرها على طريقة أن الاخبار تكون لرسم الجواهر الخالدة الباقية (وهو عنوان كتاب البيروني: الآثار الباقية من القرون الخالية)، والنعت يكون للظواهر العرضية الدارسة.
على قول المتنبي:
ضَيفٌ أَلَمَّ بِرَأسي غَيرَ مُحتَشِمِ
وَالسَيفُ أَحسَنُ فِعلاً مِنهُ بِاللِمَمِ
فَما أَمُرُّ بِرَسمٍ لا أُسائِلُهُ
وَلا بِذاتِ خِمارٍ لا تُريقُ دَمي
وقول أبي نواس في الرد الاستباقي:
عـاج الـشقىُّ عـلى رسمٍ يسائلهُ
وعـجتُ اسـألُ عن خمّارة البلدِ
أمّا وقد انتهيت (أنا أبو نواس) عن مساءلة الرسوم، فَها أنا أشرب مُدامة "على ذكر الحبيب" المحمود على درب ابن الفارض:
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً
سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا
هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجمُ
ولولا شذَاها ما اهتدَيتُ لِحانِها
ولولا سَناها ما تصَوّرها الوَهْمُ
ولم يُبْقِ منها الدّهْرُ غيرَ حُشاشَةٍ
كأنّ خَفاها في صُدور النُّهى كتْمُ
ومِنْ بينِ أحشاء الدّنانِ تصاعدتْ
ولم يَبْقَ منها في الحقيقة إلاّ اسمُ
ولو نَظَرَ النُّدْمَانُ خَتمَ إنائِها
لأسكَرَهُمْ من دونِها ذلكَ الختم
ولو نَضحوا منها ثرَى قبرِ مَيّتٍ
لعادتْ اليه الرّوحُ وانتَعَشَ الجسم
ولو رَسَمَ الرّاقي حُرُوفَ اسمِها على
جَبينِ مُصابٍ جُنّ أبْرَأهُ الرسم
إذ كان حاصل قول أفلاطُن في ذلك قول تلميذه أرسطاطاليس، فلنقل في ذلك على السبيل الخبري، أي على سبيل التدبر لذكر الجواهر الخالدة فنقول: على رأي أرسطاطاليس العقل على أنواع
أربعة:
الأول منها: العقل الذي بالفعل أبداً (العقل الفعّال)
والثاني: العقل الذي بالقوة، وهو للنفس (الناطقة)
والثالث: العقل الذي خرج في النفس من القوة إلى الفعل (العقل بالفعل والعقل بالمَلَكَة)
والرابع: العقل الذي نسميه بياني (العقل الذي خرج بالحدس المباشر إلى الفعل، العقل الظاهر بالقيامة العملي، العقل الخارج إلى العمل)
وهو يمثل العقل بالحس. والصورة صورتان: إحداهما الهيولانية، وهي الواقعة تحت الحس، والأخرى فهي التي ليست بذات هيولى (مادة)، وهي الواقعة تحت العقل، وهي نوعية (من النوع) الأشياء وما فوقها (الجنس). والهيولى هي موضوع غير مُتعيّن، لكنه قابل للتعيين.
الصورة الهيولية هي التي بالفعل المحسوسة، لأنها لو لم تكن بالفعل محسوسة، لم تقع تحت الحس، ولما عبدتها الملل الوثنية. فإذا أفادتها النفس فهي في النفس، لأنها في النفس بالقوة أي توجد لدى النفس قوة لنسخها كصورة. فإذا باشرتها النفس تحولت في النفس من القوة إلى الفعل، لكن النفس ليست بجسم، لذلك وجود الشيء في النفس ليس كوجود الشيء في الوعاء، ولكنه كانعكاس الشيء في المرآة. صورة نفسية خيالية.
كذلك فالقوة الحاسّة ليست شيئاً آخر غير النفس، هي النفس وهي الحاسّ، فإذن المحسوس في النفس هو الحاسّ، أما الهيولى أو المادة فإن محسوسها غير النفس الحاسة، فإذن من جهة الهيولى (العالم خارج الرأس) المحسوس ليس هو الحاس.
والنفس إذا باشرت العقل، أعني الصور التي لا هيولى لها ولا فنتازيا (خيال)، اتحدت هذه الصور بالنفس، أي باتت موجودة في النفس بالفعل (من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل)، هذه الصورة النفسية عبدتها بعض النصرانية على شكل أيقونة icon
هذه الصورة التي لا هيولى لها ولا خيال (فنتازيا) هي العقل المستفاد للنفس من العقل الأول (الفعّال) الذي هو نوعية الأشياء التي هي بالفعل أبداً. كالشرط والشخص.
وإنما صار العقل الفعّال مفيداً والنفس مستفيدة، لأن النفس بالقوة عاقلة، والعقل الأول (الفعّال) عاقل بالفعل.
هذا العقل الأول لدى الكندي هو ذاته العقل العاشر لدى الفارابي أوالعقل الفعّال لدى الفارابي والافروديسي.
وكنا قد لاحظنا أن العقل المُستفاد يرتب صور الأشياء على طريقة العقل الفعّال، وبهذا الشكل يتصل به ويغدو خالداً غير مائت.
أقول لك: كل ما كان لشيء بالقوة فليس يخرج إلى الفعل بذاته، لأنه لو كان يخرج بذاته لكان أبداً بالفعل، لأن ذاته له أبداً ما كان موجوداً. فإذن كل ما كان بالقوة فإنما يخرج إلى الفعل بآخر هو ذلك الشيء بالفعل. إذاً النفس الناطقة عاقلة بالقوة وخارجة بالعقل الأول (الفعال)-إذا باشرته-إلى أن تكون عاقلة بالفعل. فإذا اتحدت الصورة العقلية بها لم تكن هي والصورة العقلية متغايرة، فإذا اتحدت بها الصورة العقلية فهي والعقل بالفعل شيء واحد. هي عاقلة ومعقولة. فإذن العقل والمعقول شيء واحد من جهة النفس. أما العقل الذي بالفعل أبداً (العقل الفعّال)، المُخْرج النفس من حد القوة إلى حد الفعل، أي تصير عاقلة بالفعل بعد أن كانت عاقلة بالقوة، فليس هو وعاقله (الشيء الذي يعقله) بشيء واحد. إذن المعقول في النفس لجهة النفس غيره المعقول في النفس لجهل العقل الأول (الفعّال). أما من جهة النفس: فالعقل والمعقول شيء واحد، أما من جهة العقل الأول (الفعّال العاشر) فالعاقل غير المعقول لجهة اختلاف ترتيب الصور، وإعادة التوجيه من جديد. العقل الذي فيه العقل والمعقول واحد هو العقل البسيط الاشبه بالنفس. وهذا غير مفارق وغير خالد، لأنه حتى يكون كذلك يجب أن يخضع لإعادة الترتيب والتوجيه بشكل مغاير. ومتى حصل ذلك أصبح العقل بالفعل عقلاً مستفاداً واتصل بالعقل الأول الفعّال لجهة فعله، العاشر لجهة ترتيبه في سلسلة الفيض أو الصدور.
العقل الأول هو علّة لجميع المعقولات والعقول الثواني، والعقل الثاني هو العقل بالقوة للنفس مالم تكن النفس عاقلة بالفعل. والثالث هو العقل بالفعل للنفس قد اقتنته وصار لها موجوداً متى شاءت استعملته وأظهرته (وأبانته) لوجود غيرها منها، أي أخرجته إلى العمل والممارسة العملية. كالكتابة في الكاتب فهي له ملكة معدة ممكنة الفعل العملي. قد اقتناها وثبتت في نفسه، فهو يخرجها ويستعملها متى شاء، فكان موجوداً لغيرها (للعمل والاستعمال) منها بالفعل. وهذا هو العقل بالمَلَكَة؛ نهاية العلم وبدء العمل والممارسة العملية في الطريق الهابط أو النازل.
والعقل الرابع: هو العقل العملي أو عقل الممارسة العملية.
والعقل بالفعل الذي غدا مستفاداً يكون على حالين: إما وقت قنيته أولاً كعقل بالملكة لديه ملكة الحكم على التوجهات العملية، وهنا يكون ما يزال بالملكة والقنية، وإما وقت ظهوره ثانياً متى استعملته النفس فخرج وبان. ولذلك سماه الكندي بالعقل البياني أو البائن والمبين، أو العقل الظاهر Demonstrationem
إذن العقل الثالث هو الذي للنفس "قنية" و "مَلَكَة" قد تقدمت ومتى شاءت كان موجوداً فيها، وأما الرابع البياني فهو الظاهر في النفس متى قرأ ظهر بالتبشير والعمل الفعلي أو الممارسة العملية التاريخية كعقل تبشيري أخلاقي. والعقل الثالث المستفاد روحاني، برزخ ما بين النظرية والممارسة العملية. وهذه السمة الروحانية للعقل هي ما يرفضه أصحاب النزعة الطبيعية الذين "يعدّون الطبيعة العلّة الوحيدة الكافية لتفسير كل شيء".
وكان كانط قد ترك لنا ثلاثة تأليفات تحت عناوين ملفتة لجهة موضوع العقل وهي: "نقد العقل الخالص (المحض)" و"نقد ملكة الحكم" و "نقد العقل العملي". وكان أرسطو من قبل قسم العقل بالذات (Nous) إلى عقل نظري (theoria) وعقل عملي ممارس (Praktika).
وهذه نهاية القول المرسل الخبري أو آراء الحكماء الاولين المحمودين في العقل فاسعد بذلك. و"الحمد لله ربّ العالمين" في بداية فاتحة القرآن.
مراجع للقراءة معتمدة في الرسالة:
1-رسائل فلسفية للكندي والفارابي وابن باجة وابن عديّ، حققها وقدم لها الدكتور عبد الرحمن بدوي، دار الاندلس بيروت 1997. وتبدأ ب "رسالة أبي يوسف يعقوب بن اسحق الكندي: في العقل"
2-الآثار الباقية من القرون الخالية: تأليف أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة الطبعة الأولى 2008
3-أرسطوطاليس: في النفس، راجعها على أصولها اليونانية وشرحها وحققها وقدّم لها عبد الرحمن بدوي. طبعة مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1954
4-ديوان المتنبي
5-ديوان أبي نُوَاس
6-ديوان ابن الفارض
7-إمانويل كانت: نقد ملكة الحكم، ترجمة د. غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2005
8-إيمانويل كانْت: نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى بيروت 2008
9-عمانوئيل كانط: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي بيروت 1988
الفارابي أبو نصر محمد بن محمد: رسالة في العقل، تحرير الاب لويس بويج، المطبعة الكاثوليكية بيروت 1938
أقوال
1-"الحس هو انفعال وقبول الأثر، وإدراكه قبول الأثر. أما العقل فإنه فاعل للمعقولات، لأنه من شأنه إذا كان يعقل أكثر الأشياء، فإنه معاً يكون فاعلها كما يعقلها"
"العقل قوة تجريد تنتزع الصور من المادة وتدرك المعاني الكلية"
الحس منفعل والعقل فاعل لأنه يجعل الأشياء المحسوسة معقولة، والفاعلية تكون عبر الترتيب أو إعادة ترتيب عناصر الظاهرة.
المشترك للحس والعقل هو أخذ الصور، ذلك بينهما ليس على مثال واحد
2-اعلم أن أنكساغوراس (500-428 ق.م) قد أسبغ على العقل دوراً جديداً وخصائص جديدة. هذا الاسطقس (غير العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب) مفارق للمادة، ومعطي الوجود للكائنات. هذا العقل خالص، عليم بكل شيء، قدير على كل شيء، متحرك بذاته. فكان أنكساغوراس أول من نادى بوجود عقل مفكر مدبِّر للعالم.
على أن بعض الباحثين اعتبروا أن أنكساغوراس لم يفطن لخصب الفكرة التي قال بها بشأن العقل، ولم يوفق إلى استغلالها، حيث لم يضف أي أثر للعقل الذي قال به كعلّة مُحرّكة، بحيث يمكن وصف مذهبه بأنه آلية (مادية طبيعية)، فهو يفسر الكون تفسيراً آلياً، وأنه عاد كسابقيه، إلى القول بالعلل المادية العمياء، دون اعتبار لقدرة العقل وتدخله في الكون.
وليس أدل على عدم وضوح نظرية أنكساغوراس حول العقل من ناحية تحديد السبب الأصلي لحركة الأشياء في الكون، ليس أدل على عدم وضوح ذلك من أن أرسطو نفسه قد وجه انتقاداته إلى أنكساغوراس في هذا الشأن، معتبراً أن أنكساغوراس لم يكن يستخدم العقل في تفسيره للأحداث وللظاهر في العالم الطبيعي إلا حينما كان يعجز عن تفسيرها بمبادئ مادية بديلة للعقل.
إذا كان المعشوق هو سبب حركة العاشق، فالمعشوق يُحرِّك العاشق من دون أن يتحرك هو. ذلك أنه إن كان المعشوق هو سبب حركة العاشق، فإن الشيء الذي ذاته متشوِّقة هو يتحرك بذاته، والمعشوق هو الخير المقصود.
3-العقل البشري عند الفارابي يمر بمراحل متدرجة، فهو في أول الامر عقل بالقوّة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل، وقد يتسع مدى نظره ويحيط بأغلب الكليات فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الانسان وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والالهام ويضحى على اتصال بالعقل العاشر (العقل الفعّال)
إذاً التدرج يكون: عقل هيولاني بالقوة (استعداد)-عقل بالفعل، عقل مستفاد يتقدم ويتصل بالعقل العاشر (الفعّال)
4-في التلمذة (العلاقة بين معلم ومريد) يفيض العقل الفعّال بمعلوماته على العقل الهيولاني (العقل بالقوة؛ قوة النفس الناطقة) فيصير عقلاً بالفعل.
5-أقول: "العقل الهيولاني" عند الافروديسي هو نفسه "العقل بالقوّة" قوّة النفس الناطقة عند الفارابي، وهو يمثل "هيئة" العقل قبل أن ترد عليه المعارف، قبل أن يعرف. وأن "العقل بالمَلَكَة" عند الافروديسي هو ما دعاه الفارابي "العقل بالفعل". وأن فائدة تصنيف الأفروديسي في جمعه العقل بالفعل والعقل بالمَلَكَة أن العقل بالفعل الذي كان تذكر ما عقل، والعقل بالملكة قد نسي ما عقله بالفعل على قول القرآن الكريم: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 15]
العقل بالملكة عقل عرف وعقل بالفعل لكنه نسي ما عقله وتعلمه. هو يعلم أنه قادر على أن يعقل لكنه ترك ما عقل بالفعل. ولا يكون العقل بالفعل مرة أخرى إلا بتوبة روحية وتذكر من جديد.
(فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37] أي حالة العقل بالملكة وقد وردت إليه المعارف من جديد من العقل الفعّال (كوسيط ورسول بينه وبين ربّه) فصار من جديد عقل بالفعل مستفاد بعد نكوسه إلى حالة العقل بالقوة.
يضيف الفارابي إلى العقول الثلاثة عند الافروديسي (الهيولاني-العقل بالملكة-العقل الفعّال) عقلاً رابعاً هو العقل المُستفاد. وهذا الإضافة أخذ بها ابن سينا عن الفارابي.
الافروديسي جعل من العقل الفعال إلهاً، بينما جعله الفارابي وسيطاً (لوغوس) أو رسولاً بين الله والعالم. وعند الفارابي المتأثر بنظرية الفيض الأفلوطينية يكون العقل الفعّال هو العقل العاشر في سلسلة الفيوض الصادرة عن الله. أي أنه العقل الإلهي الذي يفيض على العقول البشرية. والعقول تأخذ في التراث الديني شكل الملائكة، فيكون العقل الفعال هو الروح القُدُس أو الملاك جبريل. بالتالي لا يعتبره الفارابي إلها بل ملاكاً هو ملاك الوحي والتلقين (أسقليبيوس). عند الفارابي ليس هو الله، لكنه يصدر عن الله.
هذا الالتباس لدى الافروديسي سببه أنه خلط بين العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب النفس والذي دعاه الافروديسي بالعقل الفعّال، وبين العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب "ما بعد الطبيعة" (الميتافيزيقا) المحرك الذي لا يتحرك، الذي هو الرب المقصود وغاية الغايات وواجب الوجود، واعتبره الافروديسي عين العقل الذي ذُكر في كتاب "النفس". أما الفارابي فاعتبر العقل الفعّال واهب الصور ومنتزعها ومجردها من الهيولى ووسيط بين الله والانسان، وأنه يصدر أو يفيض عن الله تعالى واجب الوجود بذاته، بالتالي فرّق بينه وبين المحرِّك الذي لا يتحرك الذي هو المعشوق.
ومن اسهامات الفارابي الفذة التي تجاوز فيها الافروديسي اهتمامه بالحديث عن اختلاف ترتيب صور الموجودات في العقل الفعال التي هي خالدة عن ترتيبها في العقل بالفعل والتي هي غير خالدة وزائلة. إن ترتيب صور الموجودات في العقل الفعّال هو غير ترتيبها في العقل بالفعل، ومتى أعيد ترتيبها في العقل بالفعل على شاكلة ترتيب العقل الفعال بات العقل بالفعل عقلاً مستفاداً فتقدم واتصل بالعقل الفعال وبات خالداً لا يموت. إن ترتيب العقل بالفعل هو من الظاهر إلى الباطن، بينما ترتيب العقل المستفاد ومعه العقل الفعال هو بالمقلوب من الباطن نحو الظاهر. هذا القلب للترتيب يسمح للعقل المستفاد بالقبض على حقيقة الظاهرة أو الشيء. وهذا القلب وإعادة الترتيب في العقل العلمي المستفاد هو الذي ذكره ماركس في مقدمات الرأسمال بخصوص مسألة "التحويل في الرأس". "ليس المثالي (الفكري الروحي) سوى انعكاس وترجمة (تحويل) للعالم المادي في الدماغ البشري" (رأس المال-1: 38)
جاء في سورة سبأ قوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: 18]
قال ماركس: "إن الشرط الأول لكل تاريخ بشري، إنما هو وجود كائنات بشرية حية. فأول حقيقة يجب تقريرها هي إذن، جبلة هؤلاء الافراد الجسدية والعلاقات التي تخلقها لهم هذه الجبلة مع بقية الطبيعة" (الأيديولوجية الألمانية-طبعة الفارابي ص 32)
وعند ابن رشد أن وضع العقل الهيولاني مزدوج: فهو من حيث أنه شبيه بالعقل الفعال (شرط وجود أفراد بشريين أحياء) هو غير فاسد، كما قال ثامسطيوس، ومن حيث أنه يتصل بالأشخاص لقبول الصور النوعية، (عقل بالفعل لم يصل إلى حال الاستفادة) فإنه فاسد. وفي هذا يتفق مع الاسكندر الافروديسي" (في النفس: مقدمة بدوي ص 12)
قال ماركس: ليست المقدمات التي ننطلق منها أسساً اعتباطية، أو معتقدات، بل هي أسس واقعية لا يمكن التجرد منها إلا في الخيال. أولئك هم الافراد الفعليون، نشاطهم وشروط وجودهم المادية، سواء الشروط التي يجدونها قائمة أم تلك الشروط التي يخلقونها بفعل نشاطهم بالذات. وهكذا يمكن التحقق من هذه الأسس بطريقة تجريبية صرفه. (طبعة الفارابي ص 32)
والعقل الفعّال كشرط يشمل شروط الافراد المادية التي يجدونها قائمة تاريخياً، وجبلة هؤلاء الافراد الجسدية، فقوة النفس الناطقة شرط كما الشروط المادية الأخرى.
ملاحظة أخيرة:
ورد فِعلُ العقل في القرآن الكريم في تسعةٍ وأربعين موضعًا (49=13) أي كوناً كاملاً، منها (34=7) في الآيات المكية، و(15=6) في الآيات المدنية ولم يَرِدْ "العقل" هكذا بشكلِ مصدر مطلقًا، وكل أفعال العقل في القرآن تدلُّ على عملية الإدراك والتفكير والتدبر والتذكر والفهم والاعتبار. العقل -حسب القرآن الكريم-صادر عن الأول في سلسلة الفيض (كما هو اللام صادر عن الالف في إلّ التعريف أو إلّ العهد)، خلقه الأول من نور ذاته، وجعله باب كونه النوراني (الكون المحمديّ).
ولك أيها الانسان أن تعتبر وتفهم وتسعد. فالإنسان يسعد بوجود السعيد