الجباعي* يحْطِم ماركس
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8144 - 2024 / 10 / 28 - 12:25
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
(حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ
لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]
عند منقطع وادي مخطوطات ماركس؛ المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 يبرز جاد الكريم الجباعي في الجو ليحْطِم نُمُل ماركس بضربة واحدة دون أن يشعر.
لكن حتى لا تأخذنا الخيالات والتكهّنات دعونا نرى كيف فعل ذلك هذا الروح الهائم على وجهه.
في مقالة له في "جمعية الياس مرقص للثقافة والتنوير" بتاريخ 19-10-2024 بعنوان "عن الصراع الطبقي ومفارقاته" يأخذ الجباعي مقتطفه الرئيس من مخطوطات ماركس الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 الذي مفاده: "لقد انطلقنا من مقدمات الاقتصاد السياسي، وتقبلنا لغته وقوانينه، وافترضنا الملكية الخاصة، والانفصال بين العمل ورأس المال والأرض، وبين الأجور وربح رأس المال وريع الأرض، كما افترضنا تقسيم العمل، والمنافسة، ومفهوم القيمة التبادلية .. إلخ. وعلى أساس الاقتصاد السياسي وبعباراته ذاتها، أوضحنا أن العامل يهبط إلى مستوى السلعة، وأنه يصبح في الحقيقة أتعس أنواع السلع، وأن تعاسته تتناسب تناسباً عكسياً مع قوة وحجم إنتاجه، وأن النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في بضعة أيد، وبالتالي عودة الاحتكار في شكل أبشع، وأخيراً إن التمييز بين الرأسمالي وصاحب ريع الأرض، تماماً كالتمييز بين فالح الأرض وعامل المصنع يختفي، وينقسم المجتمع كله إلى طبقتين: الملاك والعمال، الذين لا يملكون شيئاً”. (مخطوطات، 67"
عبر هذا المقتطف سوف يدحض الجباعي ماركس ويمحق مقولة الصراع الطبقي بضربة واحدة، ولن يحتاج للاستشهاد من ماركس بعد هذا المقتطف لا النذر اليسير من المخطوطات ومن البيان الشيوعي.
والمخطوطات نص كتبه ماركس بعد الاطلاع النقدي على الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإنكليزي، وبعد قراءة منطق هيغل بشكل عام حيث يقدم نقدا أوليا لهذا المنطق في نهاية المخطوطات. وكان ما يزال متأثراً بأفكار فيورباخ بخصوص الاغتراب الانتروبولوجي للنوع الإنساني بغض النظر عن الشروط التاريخية العينية. ومع كل ذلك لننظر في حجج الجباعي إن كانت له حجج في إظهار ماركس ميتافيزيقياً مجرداً من الديالكتيك، وفي تجريد المجتمعات من الصراع الطبقي باعتباره مقولة ضالة.
يبدأ الجباعي منازلته بالقول: "افترض ماركس أن الفروق بين الرأسمالي ومالك الأرض تختفي، وتختفي معها بالضرورة المنطقية الصورية الفروقُ بين الفلاح وعامل المصنع، وينقسم المجتمع طبقتين متعارضتين. هذا الافتراض (النظري) يلغي الفروق الجوهرية بين منجزات الثورة الزراعية ومعطياتها، وبين منجزات الثورة الصناعية ومعطياتها، وبين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، ويظهر القاسم المشترك بينهما، وهو الاستغلال (السرقة، بلغة المخطوطات)"
يعتقد الجباعي حسب الفقرة السابقة أن المجتمع الأوربي بعد أن انتقل تاريخياً إلى المجتمع البورجوازي قد أبقى على الفروق بين الملاك العقاري للأرض وبين الرأسمالي كمالك للمصنع، والتالي أبقى الملاك العقاري للأرض إقطاعياً وجعل الرأسمالي مالك المصنع بورجوازياً، وبهذا الشكل يحافظ الجباعي بضربة واحدة على منجزات الثورة الزراعية بما فيها الاقطاعي كمالك للأرض وعلى منجزات الثورة الصناعية بما فيها البورجوازي مالك المصنع. وكل هذا بحكم " الضرورة المنطقية الصورية " التي يتمنطق بها الجباعي في مواجهة ديالكتيك ماركس. وهذه الضرورة الصورية هي التي سوف تحرم ماركس من نعمة الديالكتيك.
لكن يبدو أن ديالكتيك الجباعي ليس أكثر من هذه الضرورة الصورية، ومن الفتات القليل الذي تركه له الياس مرقص وتناوله بغير تروي.
إن "المقولة البسيطة" و"المقولة العينية" لم تمر بخاطر الجباعي، فلو كان سمع بشي كهذا لعرف أن المصنع والمشغل بحاجة لأرض، والأرض يملكها الملاك العقاري فإذا أجّرها لصاحب المصنع كانت الآلات للرأسمالي والأرض للملاك العقاري. وعندما يبدأ المعمل بالإنتاج ويستولي رب العمل ومالك وسائل الإنتاج على فضل القيمة وعلى الربح عموماً، سوف يأخذ الملاك العقاري نصيبه من هذا الربح كأجر لأرضه. وماركس حين يتحدث عن الرأسمال الثابت يذكر الآلات والأرض والمواد الأولية الخام وغير ذلك، بحيث تكون الأرض داخلة عضوياً في مفهوم رأس المال. وبذلك تكون أجرة الأرض التي يأخذها الملاك العقاري هي حصته من الربح أي جوهرياً من فضل القيمة. وبهذا الشكل يدخل الملاك العقاري في مفهوم رأس المال مع البورجوازي، ويكون حديث الجباعي عن "الحفاظ على منجزات الثورة الزراعية" ضرب من الهراء الفارغ، ويبين لنا أأولاً بأول علامات فقره الديالكتيكي.
إذاً، ما أن يبدأ النظام الرأسمالي بالعمل حتى يجر إليه جميع قطاعات المجتمع لتصبح عناصر في آلية اشتغاله التاريخية، ويكون المجتمع لجهة "المقولة البسيطة" مقولة ربح الرأسمالي منقسم إلى طبقتين: الطبقة الرأسمالية مالكة وسائل الإنتاج، والطبقة البروليتارية المحرومة من هذه الملكية (العامل الصناعي والعامل الزراعي سيان) والتي هي مضطرة لبيع قوة عملها للرأسمالي لكي تستمر على قيد الحياة. إذاً على مستوى المقولة البسيطة المجردة: الرأسمالي يحقق ربحاً من سرقة قوة عمل العمال. أما المقولة العينية المحققة على أرض الواقع فتقول بعد المقولة البسيطة وبناء عليها كمقولة علمية ماهوية، بأن الربح يقسم فعلياً في الواقع على الرأسمالي صاحب الآلات وعلى الملاك العقاري صاحب الأرض وعلى التاجر الوسيط بين المنتج والمستهلك. إن المفارقة التي ظهرت للجباعي بحكم الضرورة المنطقية الصورية ومحقته هي المفارقة بين المقولة البسيطة العلمية المجردة والمقولة العينية في ديالكتيك ماركس المأخوذ هنا عن هيغل مباشرة. بحيث يمكننا القول إن ربح الرأسمالي والملاك العقاري والتاجر هي من حيث الماهية قوة عمل العمال التي استولى عليها الرأسمالي بحكم ملكيته الخاصة لوسائل الإنتاج الاجتماعية.
فلو كان الجباعي كلّف خاطره وتصفح رأس المال لعرف الفرق بين المقولة البسيطة والمقولة العينية، ولعفى نفسه عناء القول: "مفهوم الاستغلال لا يعيِّن أي فرق بين قوة العمل الصائرة ريعاً وقوة العمل الصائرة ربحاً."
يعتقد الجباعي بناء على "الضرورة المنطقية الصورية" الخرافية القائلة بأن المجتمع الصناعي وطبقتيه البورجوازية والبروليتاريا يعمل وكأنه كيان مفصول عن باقي المجتمع وفئاته، وكأن الجباعي لم يسمع بمقولة الهيمنة أو الطبقة المهيمنة والتي تجرّ جميع فئات المجتمع وطبقاته إلى طاحونتها التاريخية.
ولذلك نراه يتكلم عن ترّهات من نمط "وإن مفهوم “المجتمع الصناعي” مفهوم خاص، لا يطابق مفهوم المجتمع بدون أي وصف، ولا يطابق مفهوم المجتمع المدني (البورجوازي)، بما هو أعمال خاصة (صناعية وغير صناعية) وقوانين عامة، وفضاء عام (نوعي، إنساني) من الحرية، نواته المواطن الحر المستقل والمواطِنة الحرة المستقلة. وغني عن القول إن المواطن والمواطنة من طبيعة الدولة الحديثة، دولة المواطنة المتساوية، أو المجتمع السياسي، بصفته الوجه القانوني – السياسي – الأخلاقي للمجتمع المدني. المواطن يمكن أن يكون بورجوازياً أو عاملاً صناعياً أو تاجراً أو نادلاً أو معلماً أو طبيباً … إلخ، وبالتأنيث [الطبيبة، النادلة، الخ]" (واضح أن لدى الجباعي حرصاً دينياً أشبه بالورع على حضور الانثى والتأنيث). وكأن التاجر يعمل في العصور الوسطى والطبيب في الغابة، والجباعي كأنه ابن الثورة الفرنسية التي تتحدث عن المساواة والحرية والاخاء.
وحتى يزيد الطين بلة يتواضع الجباعي قليلا ويعترف بهيمنة الصناعة على باقي قطاعات المجتمع البورجوازي، حيث يقول: "من دون أن ننفي أن الصناعة هي المركبة التي تقود جميع العربات."
وكان ماركس قد تجاوز هذا الهراء البورجوازي في مناسبتين: الأولى مقدمة نقد فلسفة الحقوق عند هيغل، والثانية "في المسألة اليهودية". وفحوى التجاوز أن المساواة السياسية التي طرحتها البورجوازية أبقت على اللامساواة في المجتمع المدني البورجوازي حيث قلة تملك وسائل الإنتاج الاجتماعية وأخرى لا تملك إلا قوة عملها. والثانية أن ماركس انتقد هيغل في كتابه "أصول فلسفة الحق" حين اعتبر هيغل بشكل مقلوب أن أساس المجتمع المدني البورجوازي هو الدولة، بينما بيّن ماركس على العكس أن الدولة ليست سوى وسيلة بيد البورجوازية المسيطرة لإخضاع الطبقات الهامشية وتسوية المنازعات، ومن هنا يكون الصراع العاتي على سلطة الدولة بين البورجوازية والبروليتاريا هو الصراع الحاسم تاريخياً.
إن نقاش الجباعي مع فكر ماركس في المخطوطات يقوم على افتراض أن ماركس يعمم فكرته حول النمط الرأسمالي على ما قبله من النظم، مع أن ماركس يحاول تلمس القانون الذي يحكم النظام البورجوازي الجديد، ويشير صراحة إلى أنه المجتمع البورجوازي لا يستطيع الحكم على النظم السابقة عليه إلا بنقد نفسه نقداً جذرياً. من هنا نفهم قول الجباعي: "ثم افترض ماركس أن “العامل يزداد فقراً كلما ازدادت الثروة، التي ينتجها، وكلما ازداد إنتاجه قوة ودرجة؛ يصبح سلعة أكثر رخصاً كلما زاد عدد السلع التي يخلقها؛ فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة البشر”. (مخطوطات 68) وهذا، في نظرنا (النظر للجباعي)، افتراض غير واقعي، سواء في زمن ماركس أو في الأزمنة اللاحقة، لأنه لا يقوم على دليل مستنبط من مقارنة أوضاع غير المالكين في زمن الإقطاع بأوضاعهم في زمن العمل الأجير، في المصانع"
وباعتبار أن النظم والازمنة تحضر متزامنة لدى الجباعي كما لو كُنّا في الحلم، وتحضر قطاعات المجتمع متوازية دون أن تخضع لشرط النمط السائد والنظام الاجتماعي السائد، لذلك افترض أن ماركس في المخطوطات يتحدث عن جميع النظم الاجتماعية. وباعتبار آلية الحلم في الاحضار والمزامنة هي الضرورة المنطقية الوحيدة الذي تعمل في رأس الجباعي فإننا لن نندهش ولن نستغرب إحضاره العمل غير الاجير إلى جانب العمل الاجير، أي استحضار موضعة العمل في منتوج أو في شيء بجانب العمل الاجير المغترب لصالح رب العمل. وبهذا الاستحضار يدحض "تجريدات " ماركس واختزالاته للمجتمع ""الحديث".
يقول الجباعي بعد أن يلخّص شيئاً من فكرة ماركس في اغتراب العمل: "حين ينتج العمل الأجير سلعاً لرب العمل، يكون العمل المتبلور في السلع قد تحول إلى ثروة، يتمتع بها رب العمل، أو رأسمال (عمل متراكم) يستثمره. ويكون العمل الأجير قد تحول، في الوقت نفسه، إلى سلطة يمارسها رب العمل على العاملين والعاملات. أي إن العمل المتبلور في السلع يغترب، أو يصير غريباً عن العاملين والعاملات، ويصير قوة خارجية (سلطة) تتحكم فيهم/ـن (لاحظ الحرص على التأنيث). لكن ماذا عن العمل غير الأجير، كالعمل التطوعي والعمل التعاوني، على سبيل المثال، أو العمل لأجل الاكتفاء الذاتي والاستهلاك النهائي، لا لأجل التبادل والربح ومراكمة الثروة، وماذا عن العمل الذي لا ينتج قيمة تبادلية، كالعمل المنزلي وعمل المعلمين والقضاة والمحامين وأمثالهم؟ نعتقد أن النتائج السلبية التي تمخضت عنها الماركسية في الواقع المعيش نجمت عن مثل هذه الأحكام المطلقة، التي شكلت وعي الشيوعيين، حين تحققت الماركسية نفسها أو تموضعت، سياسةً عامة، أو سلطة اشتراكية أو شيوعية."
بالطبع، حسب رأي الجباعي، هذا الفكر الاختزالي التجريدي ينسحب على مسألة وجود طبقتين واحدة مستغلة وأخرى مستغلة بالفتح. وهذا النجاح النقدي الفذّ للجباعي آت أساساً من أنه لم يميز بين المقولة البسيطة بخصوص الطبقات والمقولة العينية. وكان ابن عربي (مع أنه لم ينتم إلى لجان إحياء المجتمع المدني)، ولا يعرف الديمقراطية الليبرالية، ولا نظرية العقد الاجتماعي ولا الحريات السياسية، ولا فكر النهضة العربية) قد قال بنوعين من الوجود: الوجود العلمي الماهوي للشيء، والوجود العيني التأويلي (التحقيقي) للشيء. والجباعي رغم غنى انتماءاته السابقة لم يسمع بذلك لا من مرقص ولا من ياسين الحافظ ولا من جمال الاتاسي معلمه الاول. بالطبع بعد أن نبين علمياً وجود طبقتين أساسيتين في المجتمع البورجوازي الحديث، نتقدم لتعيين باقي الطبقات في العلاقة مع الطبقتين الرئيسيتين.
وبدل أن ينتقد الجباعي التجربة السوفياتية، والماركسية السوفياتية المصابة بالمرض البيروقراطي، قرر حَطْم ماركس (مرة واحدة) بالاعتماد على المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، وهكذا يتخلّص من الشيوعية دفعة واحدة وإلى الابد.
وباعتبار الجباعي بورجوازي صغير مفتون بالديمقراطية الليبرالية الآفلة، فهو يطالب بحقوق الطبقات الهامشية الأخرى غير البروليتارية في صنع التاريخ، يقول: ""من جانب آخر، التعارض بين طبقتين فقط، (البروليتاريا والبورجوازية)، وفق هذه الافتراضات، هو (وحده) محرّك التاريخ، أو هو معنى “المادية التاريخية”، وهو معنى اختزالي، يلغي أدوار فئات اجتماعية أخرى تملأ الفضاء الاجتماعي الفاصل بين هاتين الطبقتين الحديثتين، حداثةَ الثورة الصناعية والمجتمع الصناعي. نعني الفئات الموصوفة بالبورجوازية الصغيرة، (العاملة في مختلف المهن التجارية والزراعية والخدمية والعلمية والتعليمية والإدارية .. إلخ)، وهي أكثرية أي مجتمع حديث، وهي المنتجة الرئيسة للمعرفة والثقافة والسياسة". بالطبع لا يمكن معالجة وضع هذه الطبقات الهامشية قبل دراسة وضع الطبقتين الرئيسيتين وفقاً لديالكتيك المقولة البسيطة المجردة والمقولة العينية.
أما الفتح المكي الأكبر للجباعي فهو الفهم الجديد المحدث الذي يقدمه بخصوص الملكية الخاصة. وحتى نفهم وجهة نظره يتوجب قليل من التمهيد: قوة العمل ملكية سلبية، أي هي الخالقة للقيم والثروة. وباعتبار أن الجباعي يستحضر موضعة أو تشيئ قوة العمل (تحول العمل إلى شيء ملموس) بالتزامن والتجاور مع اغتراب قوة العمل، فإنه بهذا القياس يستنتج أن كل عمل ينتج ملكية خاصة" في حقله، فالعمل الزراعي ينتج ملكية خاصة زراعية، والعمل الصناعي ينتج ملكية خاصة رأسمالية صناعية، إلى آخر هذا التخريف. يقول: "ولما كان كل عمل ينتج ملكية خاصة، فإن الملكيات الخاصة مختلفة وكذلك الحقوق المتعلقة بكل منها، وهذه مترجمة إلى قوانين مدنية مختلفة.”. إن الجباعي يخلط بين انتاج القيم والثروة في المجتمع الحديث، وبين ملكية هذه القيم وهذه الثروة، أي حق التصرف بها. فالعامل الزراعي والصناعي والتجاري ينتج الثروة لكن رب العمل هو صاحب الحق بالتصرف بها، بالتالي هو مالكها. ولو كانت مقولة الجباعي الخرافية السالفة الذكر، لكان البورجوازي من دون ملكية لأن العمل وقوة العمل ملك العامل لا البورجوازي.
يعزز الجباعي بحثه السالف الذكر بخصوص الملكية الخاصة بعبارة مأثورة يأخذها نكاية من ماركس مفادها: "لعل تأكيد ماركس أن الملكية الخاصة بنت العمل يغني عن البحث العبثي في “طبيعة الملكية الخاصة” وجوهرها، وتمحُّل افتراضات بسيكولوجية، كالأنانية والتعطش إلى الثروة، لتفسير ظاهرة تاريخية، لولاها ما كان الإنسان إنساناً. " وبهذه المماهاة بين القيمة والثروة من جهة وملكية هذه الثروة وهذه القيم من الجهة الأخرى يخرج الجباعي بتعريف خرافي للملكية الخاصة التي أرهقت العقول في تعريفها، يقول: "الملكية الخاصة هي تحقق العمل، وتموضعه في مادة فيزيقية؛ هذا تعريف آخر لماهية الملكية الخاصة وجوهرها أو طبيعتها" يخلط فيها القيم وإنتاج الثروة مع ملكيتها ويخلط العمل كخالق للموضوعات (الموضعة أوالمحايثة للعمل في أشياء موضوعية) مع العمل المغترب لأن هذا الأخير هو وحده الذي ينتج قيماً تبادلية يمكن بيعها وشراءها. ومع ذلك يتواضع ويقول أنه يمكن لقوة عمل العامل أن تتبلور في منتجات تقف أمامه وهي غريبة عنه، لا بل تقهره.
لكن لا تقهره هذه القيم المنتجة والثروة التي أنتجها بقوة عمله إلا حين يتملّكها مالك وسائل الإنتاج الاجتماعية ويكون له وحده حق التصرف بها. يقول: "هذا لا ينفي أن الأشياء، التي ينتجها العاملون والعاملات، أنها يمكن أن تغترب عنهم، حين تصير ثروة لغيرهم فتواجههم بصفتها قوة مستقلة عنهم وغريبة عنهم".
لولا العمل لما كان الانسان إنساناً، ولولا بنت العمل (الملكة الملكية) لما كان الانسان إنساناً متوحشاً.
لاحظوا كيف يعمل ديالكتيك الجباعي: الملكية بنت العمل، وهي التي جعلت من الانسان إنساناً، كالرأسمالية حين تخلصت من الامبريالية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وباتت ذات نزعة عسكرية إنسانية حسب أقوال سابقة للجباعي أيام نقاش العولمة الحامي بداية القرن الحادي والعشرين.
ويعود الجباعي إلى الاعتراف بأقوال ماركس بعد أن أنكرها بخصوص مقولة: كلما زادت قيمة الثروة التي ينتجها العمل الاجير كلما قلت قيمة العامل نفسه. يقول: "في حال العمل المغترب يمكن القول: كلما أنفق العامل الأجير من نفسه، من قواه العضلية والنفسية والذهنية، يزداد العالم الموضوعي غنى وثراء وقوة، ويزداد عالمه الداخلي فقراً، ويقل ما ينتمي إليه من أشياء العالم الموضوعي"
أما في العمل غير المغترب فالعكس هو الصحيح.
لكن الجباعي وعلى طريقة البورجوازي الصغير، يحاول مديح النظام الرأسمالي بعد أن انتقد مقولة الاغتراب التي تفقر الانسان باستمرار وتعلي من شأن عالم البضائع في تناقض سافر مع نفسه، خالطاً العمل المغترب مع مقولة العمل الإبداعي للإنسان في تجسيد قوة عمله في أشياء جميلة ونافعة. يقول: "جانب إيجابي لاغتراب العمل، الذي بمنزلة الضرورة التاريخية، لا يجوز إغفال آثاره غير المباشرة؛ فهو يؤنسن الطبيعة، فيؤنسن العالم، عالم الإنسان، الذي هو من إنتاجه، نعني المجتمع الدولة، ويثري المعرفة والثقافة. أجل الاغتراب الموضوعي يؤنسن الطبيعة، ويمنحها حياة، ويؤنسن العالم، ويثري المعرفة والثقافة. المؤسف أن الماركسيين أغفلوا هذا الجانب، ولم يهتموا إلا بالمعنى السلبي لاغتراب العمل ممثلاً في “استغلال الإنسان للإنسان”، وقصروه على النظام الرأسمالي ضاربين عُرضَ الحائط بظاهرة الاختلاف والتفاوت الوجودية، التي لا يمكن إنكارها، ولا يمكن رفعها أو حذفها، وهي التي تجعل الاستغلال ممكناً" وهكذا بعد أن أفقر العمل الاجير الانسان العامل في النظام البورجوازي عكس الجباعي الاتجاه وبات هذا العمل إثراء له وللمعرفة والثقافة. وهو الذي لا يجد الوقت ولا الراحة ليثرى ثقافياً وروحياً. كما أنه بهذه البهلوانيات والشقلبات من أسفل إلى أعلى يبرر الاستغلال الرأسمالي البشع بفكرة الاختلاف والتفاوت الوجودية الموجودة بين العمال أنفسهم وبين البورجوازيين أنفسهم. كما يحول موضعة العمل الإنساني إلى اغتراب موضوعي ينتج أشياء موضوعية في مزامنة شيطانية وحضور شيطاني للعمل المغترب والموضعة.
وبهذا الخلط البهلواني بين موضعة العمل الإنساني أي تحول قوة عمل الانسان إلى أشياء نافعة وجميلة من جهة والتي تفترض القضاء على كل عمل مغترب، وبين اغتراب العمل الإنساني التاريخي في النظام الرأسمالي بحكم تملك وسائل الإنتاج الاجتماعية من قبل حفنة من الطفيليين، يتوصل معلم المدرسة إلى الموضوعة العبقرية التالية: "كل عمل هو تملك، بل كل فعل هو فعل تملك، ونقل ملكية أو نزع ملكية" فعندما يفكر الجباعي في نظريته للملكية الخاصة فهو مالك الملك، وحين لا يفكر بتاتاً فهو منزوع الملكية، وهو حاله طوال الوقت.
وهكذا يكون قد وسّع فكرة ماركس "كل إنتاج هو تملك" توسيعاً خارقاً أدى إلى خرابها، حيث استبدل الجباعي كلمة الإنتاج بكلمة العمل وجرى على هذا الأساس توسيع ماركس بعدها. فإذا كان الإنتاج الرأسمالي بالنسبة لماركس يفترض عملاً اجيراً واستغلالاً للعامل ونهب فائض القيمة، فإن مقولة العمل الجباعية لا تفترض كل ذلك، لكن العمل كمقولة مرسلة مجردة عند الجباعي يذكرنا بالعمل الاجير في النظام الرأسمالي كمقولة تاريخية عينية مقيدة.
وبناء على هذا الخلط بين مقولة الإنتاج ومقولة العمل وقوة العمل يصل الجباعي إلى مفهوم "الاغتراب الموضوعي" حيث يوسّع اغتراب ماركس المعين في النظام الرأسمالي ، بمقولة الاغتراب العامة الشاملة لكل تاريخ الانسان ، على أرضية أن كل موضعة أو محايثة أو خلق لشيء بواسطة العمل الانساني هو اغتراب، بكلام آخر كل تحويل لقوة عمل العامل الذاتية إلى شيء موضوعي هو "اغتراب موضوعي" بهذا الشكل يوسّع الجباعي ماركس بأن يحوله من مادي تاريخي إلى مادي طبيعي فيورباخي يتحدث عن اغتراب انتروبولوجي خاص بالنوع الإنساني وتاريخه بصرف النظر عن شرط النظام الاجتماعي القائم. يقول الجباعي: "هذه، على ما نزعم، صيغة موسَّعة لقول ماركس: “كل إنتاج هو تملك”. الصيغة الموسعة، التي نقترحها تحيل على الاغتراب الموضوعي الكلي والتغريب الكلي، في العالم وفي التاريخ. أما صيغة “كل إنتاج هو تملك”، في ترسيمة ماركس، فتحيل على الاغتراب والتغريب في النظام الرأسمالي."
وبهذه الطريقة العلمية البهلوانية استطاع الجباعي تملك العالم معرفياً، وبالتالي توسيع ماركس، ومن ثم دحضه والتخلص منه دفعة واحدة، يقول: "لننظر في المفارقة الآتية، التي تكشف عدمية “الصراع الطبقي” وتعري جذور “المادية التاريخية” وطابعها الاختزالي، (اختزال التاريخ في صراع الطبقات)": تعبّر قوانين الاقتصاد السياسي عن اغتراب العامل في موضوع عمله بالطريقة الآتية: كلما زاد ما ينتجه العامل قل ما يستهلكه؛ وكلما زادت القيم، التي ينتجها، أصبح أكثر تفاهة وقلة شأن. وكلما تحسن شكل ناتجه زاد العامل تشوهاً؛ وكلما زادت مدنية موضوعه أصبح العامل أكثر وحشية؛ وكلما زادت قدرة العمل أصبح العامل أكثر عجزاً؛ وكلما زاد إبداع العمل أصبح العامل أكثر غباء، وزادت عبوديته للطبيعة.”"
فبعد أن يهادن الجباعي ماركس ينقضُّ عليه فجأة فيحْطم كل ما قدمه من "المادية التاريخية" و"صراع الطبقات" بين البورجوازية والبروليتاريا. فالجباعي يستنكر فكرة ماركس التي توكل للبروليتاريا مهمة قلب نظام حكم البورجوازية وهي التي يصفها ماركس بالفقر والبؤس والغباوة وغير ذلك من الاوصاف الشائنة. وينسى الجباعي قول ماركس من أن الفقر لا يولد البؤس والانحطاط فقط، بل ويولّد التمرد والثورة.
طبعاً وبعد جدال مرير مع ماركس يصل الجباعي إلى مقولة المقولات والتي مفادها: "الصراع الطبقي، في نظرنا، مجاف للديالكتيك، فهو كما عبر عنه البيان الشيوعي صراع بين طبقتين ينتهي إما بغلبة إحداهما على الأخرى، وإما بانهيار الطبقتين معاً. لهذا وصفناه بالصراع التعادمي". طبعاً أخرجه من صف الديالكتيك باعتباره معلم مدرسة لأنه تعادمي نتيجته دمار الطبقتين، وهو بطبعه مسالم ويريد الفوز والربح لجميع الطبقات تحت شعار: "الكل رابح"!
الديالكتيك الجباعي ذو طابع ليبرالي تنافسي يعتمد صناديق الاقتراع. يقول منتشياً بعد أن أعلن فوزه على ماركس بالضربة القاضية: "نزعم أن البورجوازية غيَّرت مفهوم السياسة تغييراً جذرياً حين أقرّت حق الاقتراع العام، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. وقد نوه ماركس بهذا المُحرَز التاريخي، وترجمه إلى ما سمّاه “الانعتاق السياسي”، الذي قوامه إلغاء الملكية الخاصة والدين سياسياً، سياسياً فقط، على أن تتاح للملكية الخاصة والدين شروط النمو والازدهار في المجتمع المدني." وهنا لدينا ملكية خاصة سياسية ودينية واقتصادية، كما كان لدينا من قبل ملكية خاصة زراعية، وأخرى صناعية وثالثة تجارية. بالطبع تدخل السياسية والدينية ضمن ما يسمى بالبنية الفوقية.
والمؤسف أن يكذب الجباعي ويضع على لسان ماركس مالم يليق به أن يقوله: " الانعتاق السياسي”، الذي قوامه إلغاء الملكية الخاصة والدين سياسياً، سياسياً فقط، على أن تتاح للملكية الخاصة والدين شروط النمو والازدهار في المجتمع المدني."
وكان ماركس "في المسألة اليهودية" قد سخر من "الانعتاق السياسي"، لأنه انعتاق شكلي منافق، يساوي بين أناس غير متساوين في المجتمع المدني البورجوازي. لذلك طالب بالثورة على المجتمع المدني البورجوازي ونادى صراحة بتحطيم الملكية الخاصة البورجوازية وتحويلها إلى ملكية عامة. إن الجباعي يفتري على ماركس وكأن مستمعيه من التلاميذ في المرحلة الابتدائية لا علم لهم بماركس وتراثه.
والطريف أنه رغم ما غيرته البورجوازية من مفهوم السياسة تغييراً جذرياً، حين أقرّت حق الاقتراع العام، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، فقد قامت ضدها ثورتان اشتراكيتان عظيمات في روسيا والصين وثورات اشتراكية في بلدان أخرى.
ومرة أخرى يخلط الجباعي مقولة الصراع الطبقي الماركسية بالصراع الطبقي في الترسيمة الستالينية التي انتقدها مرقص. وهذه مناسبة ليشطب الصراع الطبقي حتى ترتاح نفسه المُعذّبة. ولا يكتفي بشطب الصراع الطبقي بل يخرجه من قاموس الديالكتيك ليدخله في مقولة الميتافيزيقا التعادمية. يقول: " الديالكتيك، بما هو منطق النمو والتقدم، منطق النتوج والصَّيْر، ومنطق الحياة، ليس نفياً متبادلاً بين حدي التعارض أو التناقض أو الصراع، بل هو انتفاء كل منهما معاً انتفاء إيجابياً، يسفر عن وضع جديد، أفضل أو أسوأ، بحسب طبيعة كل من الحدين المتعارضين وممكناته والشروط التاريخية التي تكتنفهما، وتكتنف الصراع. وكان الياس مرقص قد أشار، في سياق نقده للصراع الطبقي في الترسيمة الستالينية، إلى أن صراع البقاء بين الحيوانات، الذي نراه على الشاشات، لا يسفر عن ولادة نوع جديد، بل هو صراع تعادمي وحشي إلى النهاية. "
وهكذا يعلن الجباعي بقلبه البورجوازي الصغير الرقيق الذي بهرته الديمقراطية الليبرالية الآفلة المنحطة والمتحولة إلى نزعة عسكرية إنسانية مفرطة في العدوانية ، يعلن انتصاره الكامل على ديالكتيك ماركس في الصراع الطبقي والثورة ويصل إلى النتيجة الحاسمة التالية: " للتنافس في المجتمع المدني الديمقراطي (الليبرالي) معنى مختلف جذرياً عن معنى الصراع الطبقي، مفاده أن ربح أي طرف من الأطراف المتنافسة هو ربح صاف للمجتمع كله، وخسارة أي طرف من الأطراف هي ربح صاف للمجتمع كله؛ الربح الأول هو جني المكاسب، والربح الثاني هو درء الخسائر أو تلافيها "
*-جاد الكريم شرف الجباعي مواليد 1-1-1945. كاتب وباحث سياسي من سوريا. تخرّج جاد الكريم الجباعي في دار المعلمين العامة بالسويداء، جنوبي سورية، عام 1965، وتابع دراسته الجامعية في جامعة دمشق، وتخرّج في علوم اللغة العربية وآدابها عام 1968 -1969. عمل معلماً، ثم مدرّساً في مدارس وثانويات القنيطرة واللاذقية والسويداء ودمشق حتى عام 1982، إذ استقال من مهنة التعليم، وعمل مدققاً لغوياً ومحرراً في هيئة الموسوعة العربية بدمشق من عام 1988 حتى عام 2003، ثم تفرغ للبحث والتأليف.
"كانت السياسة عنده مرتبطة بالثقافة الحديثة والفكر النظري، النقدي المؤسس على مبادئ الليبرالية وقيمها ومناهجها، بصفتها النسغ الحي "للماركسية"، ماركسية الجباعي، التي عارض بها الماركسية السوفييتية وماركسية الأحزاب الشيوعية"، وأخيراً ماركسية ماركس.
فكان من مؤسسي لجان إحياء المجتمع المدني ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، وجمعية حقوق الإنسان في سورية، وكان واحداً ممن صاغوا الرؤى الفكرية ـ السياسية لهذه الأطر والتعبيرات.
ارتبطت تجربته الثقافية بتجربته السياسية، بدءً بانخراطه في حركة الوحدويين الاشتراكيين الناصرية، إثر انفصال سورية عن مصر، ثم في الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان يقوده الراحل الدكتور جمال الاتاسي، ثم في حزب العمال الثوري العربي من عام 1972 حتى عام 1996، هذا الحزب الصغير الذي أسسه ياسين الحافظ سنة 1968. في هذه الأثناء تعرّف بالمفكرين النقديين الياس مرقص وياسين الحافظ وتأثر بأفكارهما، كما تأثر بالمفكر المغربي عبد الله العرويّ.