مدخل نقدي إلى كتاب انجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية-القسم الثاني
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8015 - 2024 / 6 / 21 - 12:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
3--فيورباخ
"إن مثالية فيورباخ الحقيقية تنكشف حالما ننتقل إلى فلسفته في الدين والاخلاق. إن فيورباخ لا يريد أن يلغي الدين (بعكس بوير)، بل يريد أن يحسّنه. والفلسفة ذاتها ينبغي أن تذوب في الدين."
إذن لدينا مثالية "مزيفة" لدى فيورباخ ألا وهي "ماديته الطبيعية التأملية"، و"مثالية حقيقية" تتكشف في فلسفته عن الاخلاق والدين.
أما أن يكون مادياً في الطبيعة ومثالياً في الاخلاق والدين فهذا ليس في أصل التصنيف، وهو يشير إلى مفارقة التصنيف ذاته إلى فلسفة مثالية وأخرى مادية. لكن ذلك قد يشير إلى عدم تناسق في فكر فيورباخ. حيث فيورباخ يقر بالمادية كشكل للوجود لا كمحتوى علمي، يقول: المادية بالنسبة لي هي أساس بناء الكُنْه الإنساني، وأساس المعرفة الإنسانية، لكنها ليست بالنسبة لي ما هي بالنسبة للعالم في الفسيولوجيا والعالم في الطبيعيات. أي ليست هي بالنسبة لي البناء نفسه"، المادية هنا شكل وليست محتوى، مجرد منهج للبحث.
أي هي الطريقة إلى البناء، هي المنهج وليست هي محتوى العلم، وعلم العالم كل في اختصاصه. بمعنى آخر، يغيب عند فيورباخ ديالكتيك المنهج أو الطريقة ومحتوى العلم التاريخي، ديالكتيك تحول المحتوى إلى طريقة في التحليل اللاحق.
يعلق انجلز: فيورباخ يخلط هنا بين المادية كمفهوم عام عن العالم يقوم على فهم معين للعلاقة بين المادة والروح، وبين ذلك الشكل الخاص الذي وجد فيه هذا المفهوم عن العالم تعبيراً عنه في مرحلة تاريخية معينة، هي القرن الثامن عشر.
بالنسبة لفيورباخ، ليست المادة نتاج الروح، بل الروح نفسه ليس سوى أعلى نتاج للمادة"
يعلق انجلز: هذه طبعاً مادية بحتة " وأقول: هذه مادية في أفقر أشكالها، وهي مادية ضيقة "بيولوجية" لا تستطيع تفسير سوى القليل من الظواهر، كالمادية الميكانيكية قبلها، هذه تهيمن عليها البيولوجيا كعلم، وتلك تهيمن عليها الميكانيكا كعلم.
إذا كان بوير وشترنر قد صرحا في فلسفتهما المثالية بأن الأفكار تحرّك العالم، والفلاسفة بالتالي هم قادة العالم، فإن فيورباخ أعطى القلب والعاطفة هذا الشرف، وباتت العاطفة الدينية هي التي تحرّك العالم، والقادة هم رجال الدين. وذهب أبعد من ذلك حين نصب الحب الجنسي الفردي أعلى مرتبة في هذه العاطفة، وجعل من الحب الجنسي الفردي دينه الجديد كما سيفعل فرويد بعد ذلك بنصف قرن.
وعلى هذا الأساس يغدو التاريخ بالنسبة لبوير وشترنر هو نفسه تاريخ الأفكار في الدين والفلسفة، وعند فيورباخ هو تاريخ الدين والعاطفة الدينية. ويمرحل التاريخ بناء على ذلك لا على أساس أنماط الإنتاج كما هو حال التاريخ عند ماركس، بل حسب الانقلابات الأخلاقية الكبرى الدينية. يقول فيورباخ: "إن مراحل الإنسانية لا تتميز الواحدة عن الأخرى إلا بالتبدلات الدينية. فالحركة التاريخية المعنية لا تبلغ أساسها إلا بعد أن تدخل عميقاً في قلب الانسان. القلب ليس شكلاً للدين، هكذا على الدين أن يوجد أيضاً في القلب؛ فالقلب هو ماهية (جوهر) الدين" (نقلا عن شتاركه)
القلب (العاطفة الدينية) حسب وجهة نظر فيورباخ ليس شكلاً للدين، بل هو ماهية الدين وجوهره.
The periods of humanity are distinguished only by religious changes. A historical movement is fundamental only when it is rooted in the hearts of men. The heart is not a form of religion, so that the latter should exist also in the heart the heart is the essence of religion.” (Quoted by Starcke, p.168.
بالطبع يوجد التباس كبير في ترجمة الفقرة المذكورة على الشكل التالي: "القلب ليس شكلاً للدين، ولذلك لا يجوز القول أن الدين يجب أن يكون في القلب أيضاً، فهو جوهر الدين" ومع المقارنة مع العبارة الإنكليزية يتبين عدم وجود مثل هذه الزيادة في الترجمة التي قلبت كيان العبارة.
يقول انجلز: إن مثالية فيورباخ تتلخص هنا في أنه لا يعتبر جميع علاقات الناس القائمة على الميل المتبادل، أي الحب الجنسي، والصداقة، والشفقة، ونكران الذات، الخ..، كما هي بذاتها، دون ربط هذه العلاقات بأي دين خاص، يرجع هو نفسه حسب رأيه إلى الماضي"
فهو فيورباخ "يدعي أن هذه العلاقات لا تبلغ كل قيمتها إلا بعد تقديسها بكلمة الدين.. وهو لا يعترف بقيمتها الكاملة إلا حين تطبع بخاتم الدين"
إن كلمة Religion (الدين) تتحدر من فعل religare (يربط ويصل) ويقصد (يقصد معنى).
وعليه –على هذا الأساس اللغوي- أن كل صلة متبادلة بين شخصين هي دين.
Religion is derived from religare [“to bind”] and meant, originally, a bond. Therefore, every bond between two people is a religion
إن فيورباخ يخلط بشكل مبتسر بين رابطة الحب الجنسي الفردي، أو أي رابطة بين اثنين من البشر، وبين "الأخوية الدينية" التي تربط بين الافراد عبر دعوة عقائدية، أو الرفاقية الحزبية في منظمة ثورية تربط بينهم نظرية ثورية.
لا شك توجد عاطفة تربط الافراد في الأخوية الدينية، كما توجد عقائد تجمع بينهم في رابطة متينة.
لم يسعف فيورباخ الاعتماد على الأصل اللغوي لكلمة (الدين) لأنه وكما يعلق انجلز: "من الممكن أن تختفي الأديان كلياً منذ الغد، دون أن يطرأ أقل تبديل على الحب (الجنسي) والصداقة. فالدين المسيحي قد اختفى في فرنسا حقاً بين الأعوام 1793-1798، ومع ذلك لم تظهر خلال هذه المدة من الزمن، أي حاجة إلى الاستعاضة عنه بنوع الدين الجديد الذي أعلنه فيورباخ"
إضافة إلى ذلك، أن فكرة فيورباخ في الربط بين الحب الجنسي الفردي والدين من نوع ما تعني حرمان الملحدين الذين لا يؤمنون بأي دين من هذا الحب، كما هو حرمان لهم من الصداقة والشفقة ونكران الذات.
يقول انجلز: هذه التلاعبات في أصل الكلمات تؤلف آخر مخرج للفلسفة المثالية. ينسب إلى الكلمات لا المعنى الذي اكتسبته خلال التطور التاريخي لاستخدامها الفعلي، بل المعنى الذي كان ينبغي أن تأخذه تبعاً لأصلها اللغوي"
يقول انجلز: حين سعى فيورباخ إلى إقامة الدين الحقيقي على أساس مفهوم عن الطبيعة مادي في جذوره، أشبه ذاك الذي اعتبر الكيمياء الحديثة إنما هي كيمياء الحجر الفلسفي الحقيقية. وإذا كان الدين يستطيع أن يستغني عن إله، فإن كيمياء الحجر الفلسفي تستطيع أيضاً أن تتخلى عن حجر الفلاسفة. وعلاوة على ذلك توجد صلة وثيقة بين كيمياء الحجر الفلسفي والدين"
بقول آخر: فيورباخ يريد إقامة دين جديد؛ دين الحب من دون إله، دين قائم على الانسان وحده، كما قامت الكيمياء الحديثة من دون أي عون من "الحجر الفلسفي" أو "الاكسير"
هذا الدين لم تقم له قيامة لأن فيورباخ حاول إقامته على " أساس مفهوم عن الطبيعة مادي في جذوره "، أي حاول إقامته على أساس مادية علمية طبيعية. وهذه المادية الطبيعية أضيق من أن يقام عليها دين جديد من دون إله سوى الانسان العارف ذاته. إن هذا "الدين الجديد" (وهنا أستخدم الدين بالمعنى الذي طرحه كيركيجور) سوف يقيمه ماركس نفسه الذي انتقد مادية فيورباخ الطبيعية وأشار إلى عيبها الأساسي ونواقصها في الموضوعة الأولى عن فيورباخ. و"الدين الجديد" الذي أقامه ماركس من دون إله وبالاعتماد على "الأمير الجديث" أو الحزب الاشتراكي الماركسي الثوري "التاريخي" الحديث، والذي سيشكل "ذات التاريخ" الخالقة للمجتمع الجديد. لقد قامت الدعوة الماركسية إلى الاشتراكية الماركسية كدعوة تاريخية هذه المرة، ليس على أساس مفهوم عن الطبيعة ولكن على أساس مفهوم عن التاريخ البشري ديالكتيكي مادي في جذوره وطريقته. الماركسية بهذا المعنى الاستعاري هي الوارث النقدي للدين التاريخي (الإسلام المحمدي على الخصوص).
قد يعتقد القارئ أن انجلز بقوله السابق " وعلاوة على ذلك توجد صلة وثيقة بين كيمياء الحجر الفلسفي والدين " أنه يشير إلى ما قصدناه، لكنه للأسف لا يقصد ذلك، بل يحاول إقامة مقارنة طبيعية بين خصائص الحجر الفلسفي وبين صفات الاله. يقول: "إن الحجر الفلسفي ينطوي على كثرة من الخصائص تشبه خصائص إله. وقد أسهم الكيماويون الاغريق والمصريون، خلال القرنين الاولين للميلاد في وضع المذهب المسيحي، كما تثبت ذلك المعطيات التي قدمها كوب وبيرتلو"
وهذا معناه أن "المادية العلمية الطبيعية" ما يزال لها الغلبة في تفكير انجلز وهو ينتقد فيورباخ ويصفي معه الحساب "الاخير"
إن عبارة انجلز التي تقول: " وعلاوة على ذلك توجد صلة وثيقة بين كيمياء الحجر الفلسفي والدين " لها ما يبررها فعلاً في تاريخ المسيحية المبكر خاصة في القرنين الاولين للميلاد. فالكيمياء كانت تعني "خيمي" أو "كيمي" أي الوحي النازل من عند الله. وهي عين الكيمياء الصوفية أو الخيمياء التي قال بها جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري، والتي كانت تعني لديه أنها دعوة سرية لدين توحيدي باطني، وأن الكيمياء الصوفية والصباغ والحجر أو الاكسير تعني فن صناعة الدُّعاة لهذا الدين الباطني التوحيدي. وهو نفس الامر الذي نجده لدى كيميائي صوفي من أخميم بصعيد مصر في القرن الثالث الميلادي هو زوسيموس. وإذا استعرنا عبارة الكيمياء الصوفية إلى حقل الحزب الثوري الحديث، كانت الكيمياء الصوفية هي فن وعلم صناعة الكوادر التاريخية للحزب الثوري الحديث وصبغ هذه الكوادر بالنظرية الثورية للحزب. الكيمياء الصوفية علم ديني تاريخي في أساسه وليس علم طبيعة إلا بمقدار محاولته تحويل نفس المريد من رصاص أو نحاس إلى ذهب أصفر فاقع لونه يسر الناظرين. (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة: 69] والبقرة أولى سور القرآن الكريم وأطولها، خصص لها التلمود (المثنا أو المشنا وشروحه الجمارا) باب خاص هو (بارا) أو بقرة، وبارا هي النفس. (راجع مقالتنا: الكيمياء الصوفية وصناعة الدعاة ضمن كتاب: ثلاث رسائل)
يقول انجلز: إن تأكيد فيورباخ بأن مراحل الإنسانية "لا تتميز الواحدة عن الأخرى إلا بالتبدلات الدينية " هو خطأ محض. فإن انعطافات تاريخية كبيرة قد حدثت دون أن تكون مصحوبة بتبدلات دينية إلا بمقدار ما تؤخذ بالحسبان أديان العالم الثلاثة القائمة الان: البوذية والمسيحية والإسلام."
والملفت في كلام انجلز أنه يستبعد الدين اليهودي من القائمة كونه دين عنصري أقوامي غير تبشيري وعنصري. مع أنه دين تاريخي قائم على وجود أنبياء وآباء ودعاة، كالإسلام والمسيحية. وهو دين كان ما يزال قائماً في أوروبا، وخلق مشكل أوروبي سمي ب "المسألة اليهودية" أو "المشكل اليهودي" Judenfrage : الشعور بأن وجود اليهود في ألمانيا يكون مشكلة للدولة الألمانية (راجع كراس بوير- ماركس: المسألة اليهودية)
"إن فيورباخ لا يريد مطلقاً أن يلغي الدين، إنما يريد أن يُحسّنه"، بينما ماركس يريد أن يلغي الشروط التاريخية التي تولد التدين والاغتراب الديني، يريد الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبعدها الغاء التوزيع البورجوازي، والحق البورجوازي، بحيث نصل إلى وضع تاريخي يقوم فيه الافراد المتحدون بالاشراف على عمليتي الإنتاج والتوزيع دون تدخل أي سلطة إكراه (دولة) من أي نوع.
أما الفلسفة، خاصة فلسفة هيغل فقد تخلص منها فيورباخ بضربة واحدة عبر تعليقها، خاصة تعليق واستبعاد الطريقة الديالكتيكية، وما تبقّى من ميتافيزيقا مادية طبيعية تأملية فقد قرر أن يذيبها في الدين، بينما أخذ ماركس طريقة هيغل الديالكتيكية وأعاد توجيه مقولاتها وفق متطلبات طريقته المادية التاريخية، وهكذا اندسّ الديالكتيك في كتاب الرأسمال لماركس كما اندسّ جبريل في الخمسة الالهيين أصحاب الكساء حتى قيل في الحديث: " أفضل من تحت الفلك خمسة رهط وملك" أي تحت فلك القمر أو فلك الكساء. (الثعالبي: ثمار القلوب)
ليس ماركس فيلسوفاً، أي فيلوسوفوس محب الحكمة حسب الكلمة اليونانية، لكنه بات السيد الذي يحكم الفلسفة، أي الرجل الحكيم، وكذلك النبي محمد بعد هبوط جبريل صاحب الوحي والتنزيل، فقد بات النبي محمد السيد الذي يحكم الوحي والرجل الحكيم، وبات جبريل عبداً كما باتت الفلسفة الديالكتيكية عبداً بالنسبة لماركس. والطريق عبد، والغاية والقصد رب.
لهذا يغدو قول انجلز بخصوص الأديان العالمية، خاصة المسيحية والإسلام بحاجة إلى تعديل. يقول انجلز: فيما يخص هذه الأديان العالمية وحسب، والتي نشأت بصورة اصطناعية إلى هذا الحد أو ذاك، ولا سيما فيما يخص المسيحية والإسلام يمكن القول أن الحركات التاريخية العامة تصطبغ بصبغة دينية."
أولاً لم تنشأ هذه الأديان بصورة مصطنعة، خاصة وأن المسيحية عاشت ثلاثة فرون قبل أن تتبناها الإمبراطورية الرومانية الشرقية زمن قسطنطين (325 م). لقد شكلت آسيا الصغرى والشرق الأدنى بما فيه سوريا ووادي النيل والإسكندرية ووادي الرافدين مع قبرص واليونان وحتى روما في الغرب مسرحاً هائلاً لولادة المسيحية في القرون الثلاثة الأولى للميلاد. وقد قامت على أدمغة آلاف المناضلين الغنوصيين الرسميين والمهرطقين من آريوس إلى نسطوروس ومن فيلون الاسكندري إلى أوريجين إلى يوحنا فم الذهب وأوغسطين. كانت هذه البقاع الأرض التاريخية التي اختمرت فيه هذه الأفكار العظيمة وهذه الدعوات التاريخية لمواجهة ظلم الامبراطوريات المتوالية على المنطقة نفسها. أما الإسلام فقد جاء كتتمة "طبيعية" تاريخية ليحسم الجدل المسيحي والسجال العظيم لصالح التيارات المهرطقة والمحرومة خاصة الآريوسية "الليبية" أو المصرية الغربية ومعها لاحقاً النسطورية الانطاكية السورية. لقد شكل الإسلام، بعد ثلاثة قرون من تبني الإمبراطورية الغربية للمسيحية، الرد التاريخي العظيم المهرطق" على الكاثوليكية الارثوذكسية "القويمة" الرد على المسيحية المُكّرسة بقوة الإمبراطورية الرومانية وقانون الايمان القويم (أرثوذوكس).
إن حديث انجلز عن اصطباغ الحركات التاريخية العامة بصبغة دينية يحجب الامر الأهم وهو أن الإسلام دين تاريخي بامتياز، دين علم وعمل، دين أنبياء وآباء مؤسسين، وأنبياء قائمين بالدعوة التاريخية خارجين على الامبراطوريات الظالمة. وكذلك المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى. إلى أن تحولت إلى عقيدة فارّة من التاريخ بفعل تبنيها من قبل الإمبراطورية وتحويلها إلى دين دولة كما حدث قبل ذلك مع الزرادشتية وعلاقتها بالإمبراطورية الفارسية.
الإسلام هو الدين التاريخي بامتياز، فهو الدين الذي لم يخضع لأي امبراطورية قائمة، بل صنع هو بذاته امبراطورته العربية الخاصة. فقد وحّد النبي محمد في شخصه الدين والدنيا والنبوة والمُلك، أي العقيدة والسياسة. لقد استطاع الإسلام عبر دعوة تاريخية مناضلة نقل العرب في فترة وجيزة من نظام القبائل المتعددة إلى نظام الدولة المركزية الواحدة الإمبراطورية. (خليل عبد الكريم: قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية)
كانت الحاجة إلى مواجهة الدين من قبل البورجوازية الصاعدة في القرن الثامن عشر ناجمة عن وحدة مصالح الاقطاع والكنيسة الرسمية الكاثوليكية. انجلز يجادل فيورباخ بخصوص الصبغة الدينية لانتفاضات البورجوازية المُبْكرة في الحقبة الممتدة من القرن الثالث عشر حتى القرن السابع عشر. يقول انجلز: "لا تصطبغ الثورات التي لها أهمية عامة حقاً إلا في المراحل الأولى من نضال البورجوازية لأجل تحررها في الحقبة الممتدة من القرن الثالث عشر حتى القرن السابع عشر ضمناً. وهذا لا يفسر، كما يعتقد فيورباخ بصفات قلب الانسان وحاجته إلى الدين، بل يفسر بكل تاريخ القرون الوسطى التي لم تعرف سوى شكل واحد من الأيديولوجية: الدين واللاهوت. ولكن في القرن الثامن عشر، حين بلغت البورجوازية من القوة ما يكفي لكي تكوّن إيديولوجية خاصة بها، مناسبة لوضعها الطبقي، قامت بثورتها الكبرى والكاملة، الثورة الفرنسية، مستعينة بالأفكار الحقوقية والسياسية فقط، غير مهتمة بالدين إلا بقدر ما يعيق طريقها".
إذن لعب الدين كأيديولوجيا رئيسية مهيمنة حتى القرن الثامن عشر. هذا القرن الذي سوف يشكل قطيعة جذرية مع العصور الوسطى والقديمة، وسوف يطلق على الزمن الجديد اسم "الأزمنة الحديثة" وعلى الحركة الفكرية الجديدة اسم الحداثة، وعلى بناء المؤسسات الجديدة في الاقتصاد والإدارة وتنظيم الحياة الاجتماعية اسم التحديث.
لقد حررت البورجوازية الانسان الحديث تحريراً سلبيا، حيث حرمته من عطف الاله وحمايته ولكنها سلبته قوته الاقتصادية وغرّبته (سلخته) عنها، وحصرت هذه القوة المتراكمة في أيدي قلة أوليغارشية. لقد عمدت البورجوازية إلى نقل صلاحيات الآلهة إلى الانسان الحديث، لكن تم ذلك بشكل سلبي، وكان لا بد من الاشتراكية الماركسية كأيديولوجيا بديلة للدين الذي سيطر في العصور السابقة لإتمام هذه الخطوة بشكل إيجابي. من هنا يمكن تفسير موجة الالحاد التي غمرت القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر (حتى فشل ثورة 1848). ومن هنا قلنا في كراس "الماركسية والدين" أن الاشتراكية الماركسية هي الوارث النقدي للأديان التاريخية أو ديانات الأنبياء.
الأزمنة الحديثة وجدت ضماناتها في ذاتها، وهي ليست بحاجة إلى ضمانات من خارجها، لكن افلاس البورجوازية التاريخي السريع وانحطاط ديمقراطيتها ومذهبها الإنساني بعد فشل ثورة 1848 والتي شاركت فيها البروليتاريا لأول مرة كطبقة جديدة، خلق ارباكاً هائلاً في إيديولوجيا الحداثة وفكرها. وكان لابد للاشتراكية الماركسية أن تظهر وتصعد تاريخياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
يكتب يورغن هبرماس: "كان هيغل أول من وضع في مسألة فلسفية، قطيعة الحداثة مع الايحاءات المعيارية للماضي الغريب عنها. إن فلسفة الأزمنة الحديثة، من السكولائية (المدرسية الكلامية) المتأخرة وصولاً إلى كانط، تعبر عن فكرة الحداثة ذاتها وذلك بالتأكيد، في إطار نقد للتراث يدمج تجارب الإصلاح والنهضة، وأثناء استجاباته لبدايات العلم الحديث. إلا أن الحداثة لم تطرح على نفسها مسألة "العثور" على ضماناتها الخاصة في ذاتها إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وتبلغ هذه المسألة من الحدة بحيث يمكن لهيغل أن يتناولها بوصفها مسألة فلسفية، لا بل يجعل منها "المسألة الاساسية" لفلسفته " (القول الفلسفي للحداثة 29)
"وفي الحقيقة إن العتبة التاريخية التي تقع في حوالي العام 1500 لم يتم ادراكها كتجديد إلا في القرن الثامن عشر" (في القول الفلسفي للحداثة 13-14)
ويتابع هبرماس: "إن الواقع الذي يضطر الحداثة، ونظراً للافتقار إلى النماذج، أن تجد توازنها انطلاقاً من الانشقاقات التي أحدثتها هي نفسها. ويولد قلقاً يرى فيه هيغل "منبع الحاجة إلى الفلسفة" وبمقدار ما تستفيق الحداثة على وعيها ذاتها، يلاحظ حاجة إلى عثورها في ذاتها على ضماناتها الخاصة يفسرها هيغل بوصفها جاجة إلى الفلسفة. ومنذئذ ترى الفلسفة نفسها في رأيه، مكلفة بترجمة الزمان "الذي هو زمنها" بتعبير آخر "الأزمنة الحديثة" إلى أفكار." (القول الفلسفي 30)
إن دعوة فيورباخ إلى انحلال الفلسفة والتي مرت بنا أعلاه، جعلته يستشعر انحطاط البورجوازية السريع (وهو ما حصل بعد فشل ثورة 1848)، ويخترع ديناً حسياً جديداً من دون إله بواسطة قلب الانسان، وأن يجعل منه محلولاً مذيباً يذيب الفلسفة فيه. وهذه كما قلنا علامة على الإفلاس التاريخ السريع للبورجوازية وميلها للتحالف مع الطبقات القديمة التي حاربتها بالأمس، ونكوصها نحو الضمانات الأيديولوجية القديمة بما فيها الدينية لحداثتها مع أول اطلالة طبقية سياسية للبروليتاريا في ثورة 1848.
كان على ماركس أن يدرك تماماً هذا الإفلاس المُبْكر للبورجوازية في كتابه "النضالات الطبقية في فرنسا 1848-1850 " وأن يعد العدة لتأسيس الأيديولوجية العضوية الجديدة الضامنة لفكره، ودعوته الاشتراكية الماركسية الجديدة التي سوف تشكل السيد الذي يحكم الفلسفة الهيغلية. وبدلا من كتابة ملازم قليلة لتلخيص "منطق" هيغل، فقد اكتفى ماركس بتضمين كتابه العظيم "رأس المال" الطريقة الديالكتيكية لهيغل بعد أن أعاد توجيهها توجيهاً مادياً لمصلحة الطبقة البروليتارية الجديدة. لقد اندسّ الديالكتيك في الرأسمال كما اندسّ جبريل في الخمسة الالهيين أصحاب الكساء، حينها قال النبي: "سلمان منا آل البيت".
مع افلاس البورجوازية التاريخي لم تعد الفلسفة المنعزلة ضمانة الأزمنة الحديثة، وباتت الفلسفة بحاجة لقيادة الاشتراكية الماركسية والمادية التاريخية كسيد عليها. بهذا المعنى يمكن الحديث عن نهاية الفلسفة. أما فلول الفلسفة البورجوازية في القرن العشرين فسوف تبحث عن ملجأ لها في الدين والانطولوجيا الدينية العامة وفي العلوم الإنسانية والطبيعية وفي فقه اللغة واللسانيات، وسوف تبحث عن حقيقة الانسان الحديث البورجوازي في كل مكان ما عدا المحل الذي توجد فيه، وهو التنظيم الاقتصادي للمجتمع الحديث البورجوازي. إن هايدغر الذي تحدث "عن نهاية الفلسفة ومهمة التفكير" وهو عنوان واحد من كتبه كان يشير إلى أهمية وجود أنطولوجيا عامة كالأنطولوجيا الدينية القديمة، ترشد العلوم الحديثة كل في حقله الخاص (فيزياء، كيمياء، بيولوجيا، الخ.)، وتخصّبه. إن العالِم المطّلع على تاريخ الفلسفة مثل عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرغ صاحب نظرية "الارتياب" (1901-1976) أكثر عبقرية ودراية في دراسته للفيزياء الحديثة من عالم آخر يأخذ تفلسفه المبتذل من عوام الناس. لم تعد دراسة الطبيعة في حقولها الخاصة بحاجة لفلسفة طبيعة، لكنها بحاجة لتخصيب الخيال الفيزيائي الحديث بالفلسفة وتاريخها والانطولوجيا العامة.
إن إمكانية إبراز المشاعر الإنسانية البحتة في مجتمع تمزقه الانقسامات الطبقية والنضال الطبقي أمر خارق لدرجة أنه يمكن رفع هذه المشاعر إلى مرتبة دينية. وعلى الحزب الاشتراكي الماركسي الحديث الاعتناء بهذه المسألة الاخلاقية التربوية.
إن فيورباخ الذي يرى في التحولات الأخلاقية الدينية الكبرى أساس التاريخ الإنساني يلتحق بالمؤرخين الألمان الذين تحدث عنهم انجلز بالقول: "غمّص علينا علم التاريخ الدارج، ولا سيما في ألمانيا، فهم المعارك الطبقية التاريخية الكبرى، ولسنا في حاجة لجعل هذا الفهم مستحيلاً تماماً بتحويل تاريخ هذا النضال إلى ملحق بسيط لتاريخ الكنيسة"
في هذا النكوص نحو ضمانات أيديولوجية قديمة ودينية للحداثة "نرى كيف ابتعدنا اليوم عن فيورباخ. إن مقاطع مؤلفاته (الجميلة) التي تمجد الدين الجديد، دين الحب الجنسي، تستحيل اليوم حتى قراءتها"
يقول انجلز: الدين الوحيد الذي يدرسه فيورباخ هو الدين المسيحي، الدين العالمي للغرب، القائم على التوحيد"
لا يستطيع انجلز فهم جوهر الدين المسيحي العالمي بالاستناد إلى مادية فيورباخ الطبيعية التأملية، وإلى كتابه "جوهر المسيحية" لذلك نجده يقول على لسان فيورباخ دون أن يتقدم خطوة إضافية عن جوهر الدين المسيحي: "وهو (أي فيورباخ) أن الاله المسيحي ليس سوى الانعكاس الخيالي للإنسان، بيد أن هذا الاله هو نتاج حركة طويلة من التجريد، والخلاصة المكثفة لعدد كبير من الآلهة القدامى عند القبائل والأمم. كذلك الانسان الذي هذا الاله انعكاس له، ليس انساناً حقيقياً، إنه انسان مجرد، بالتالي صورة فكرية أيضاً “
ليس لدى فيورباخ سوى عدة عمل الفلسفة الطبيعية التأملية التي هي: التجريد، والانعكاس الفكري والخيالي، والصورة الفكرية، ولا شيء إطلاقاً عن فعالية الانسان والبشر في التاريخ!
يعلق انجلز: فيورباخ نفسه الذي يبشر في كل صفحة بالانغماس في الشهوات الجسدية، ويدعونا إلى الاستغراق في العالم الملموس والواقع، يسقط في التجريد الكامل، حين يضطر إلى الحديث عن العلاقات بين الناس، غير العلاقات الجنسية"
هذا التجريد الكامل هو ضرب من المثالية لدى فيورباخ. وهنا مفارقة التصنيف الفلسفي بين مادي ومثالي، حيث ظهر لنا من دراسة فلسفة فيورباخ أن ماديته الطبيعية التأملية التجريدية (الطبيعة مجردة عن التاريخ) انتهت إلى ضرب من الفلسفة المثالية. يكتب لينين في مقالته "حول الديالكتيك": "إن المثالية الفلسفية ليست سوى ضرب من الحماقة من وجهة نظر مادية فظة مبسطة ميتافيزيقية، ولكن المثالية الفلسفية هي بالعكس من وجهة نظر المادية الديالكتيكية تطوير وحيد الطرف (تجريد) مبالغ فيه، تكبير، تضخيم، لإحدى الميزات الصغيرة في المعرفة، لأحد جوانبها، لأحد وجوهها إلى مطلق (مجرد)" (لينين: المختارات المجلد 4 ص 472)
إن التجريد الفيورباخي يُغيّب أي ذكر عن فعالية الانسان في الطبيعة والتاريخ، وأقول أن الاله ليس تجريداً للإنسان لكنه تغريب لفعالية البشر في التاريخ، حين يقومون بتحطيم العالم القديم وبناء العالم الجديد. هذه الفعالية الذاتية للبشر في صنع التاريخ هي الغائب الأكبر في "مثالية" فيورباخ المجردة.
وهنا وفي هذا المقام يستحضر انجلز المقارنة بين فيورباخ وهيغل حيث يقول: "إن فيورباخ لا يرى في هذه العلاقات (بين الناس) غير جانب واحد –الاخلاق. وهنا يذهلنا من جديد فقر فيورباخ المدهش بالمقارنة مع هيغل (بخصوص علم الاخلاق)"
لقد تحدث ماركس في موضوعات عن فيورباخ الموضوعة 1، كيف طورت المثالية الموضوعية (هيغل) الجانب العملي وإن بشكل مثالي وصوفي، بالتقابل مع المادية السابقة-بما فيها مادية فيورباخ. يقول ماركس: "إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها، بما فيها مادية فيورباخ، هي أن الشيء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط انساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية (فعالية الذات). ونجم عن ذلك أن الجانب العملي، بخلاف المادية، إنما طورته المثالية، ولكن فقط بشكل تجريدي، لأن المثالية لا تعرف بطبيعة الحال النشاط الواقعي الحسي كما هو"
ويضيف ماركس في الموضوعة رقم 8 عن فيورباخ: "إن الحياة الاجتماعية هي بالأساس حياة عملية. وكل الاسرار التي تجرّ النظرية نحو الصوفية (كما هو الحال في فلسفة هيغل النظرية، والحال عند المتصوفة المسلمين)، تجد حلولها العقلية في نشاط الانسان العملي وفي فهم هذا النشاط"
إن علم الاخلاق أو النظريته الأخلاقية عند هيغل والتي يعرضها في "أصول فلسفة الحق"، يتسم الشكل هنا بالمثالية بمقدار ما يكون المحتوى واقعياً. أما عند فيورباخ فالأمر بالعكس تماماً. فهو من ناحية الشكل واقعي، إذ يتخذ نقطة الانطلاق الانسان، ولكنه لا ينبس ببنت شفة عن العالم الذي يعيش فيه هذا الانسان، ولهذا يظل الانسان عند فيورباخ دوماً نفس الانسان المجرد الذي يتمثل في فلسفة الدين."
يقول انجلز منتقداً "تجريدية" فيورباخ: "في فلسفة الدين نميز على الأقل بين الرجل والمرأة، ولكن هذا الفرق الأخير يختفي في (فلسفة) الاخلاق"
يورد فيورباخ عبارة طريفة وملفتة تقول: "يجب أن تصبح السياسة ديننا" وقد عمل ماركس بهذه الوصية عبر انضاجه نظرية المادية التاريخية وفلسفة الممارسة. وكنت قد أشرت في كراس "الماركسية والدين" إلى وراثة الاشتراكية الماركسية للدين التاريخي خاصة المسيحية والإسلام وراثة تاريخية نقدية. "قلنا إن الفلسفة عبد، أي هي واسطة ووسيلة يمكن أن تكون في خدمة الدين والوحي كما كانت في العصور القديمة والوسطى، ويمكن أن تكون في خدمة الحركة الاجتماعية التاريخية الثورية (الماركسية). وإذا أخذت مجردة لوحدها زادت في مرض الأمة المريضة كما قال الفيلسوف الألماني المتهكم نيتشه. وإذا اخذت مجردة من دون اعتبار لحياة المجتمع وتناقضاته وصراعاته التاريخية الفعلية، كانت شيطاناً أخرس: تعرف الحق وتجحده بتغطيته بعد كشفه، وتتحول إلى فكر مداهن للوضع الرأسمالي القائم" (الماركسية والدين ص42)
وقلنا أيضاً: "والماركسية في ظهورها التاريخي هي الوارث النقدي للدين التاريخي بكل أشكاله، وتتجلى ماديتها ليس في نزعة الإلحاد التي هي ضرب من العدمية التاريخية الاجتماعية، بل في تسلّمها النقدي للتراث القومي ومنه الديني، ورفع الحصيلة الإيجابية لذلك النقد إلى مستوى العمل الاشتراكي والمهمات الديمقراطية للحزب الثوري" (الماركسية والدين ص 70)
لكن فيورباخ –حسب انجلز-"لا يدري مطلقاً كيف يستعمل هذه الموضوعات، فهي عنده مجرد تعبيرات." ويضيف انجلز: "بنفس القدر يبدو لنا فيورباخ سطحياً بالمقارنة مع هيغل فيما يتعلق بمعالجة التضاد بين الخير والشر" الشر عند هيغل هو قوة سلب (نفي)، هو الشكل الذي تتجلى فيه القوة المحركة للتطور التاريخي. إن فيورباخ لا تخطر حتى في باله دراسة الدور التاريخي للشر الأخلاقي. فالميدان التاريخي بالنسبة له غير لائق ولا مريح على وجه العموم كما هو حال حضن الامّ؛ حضن الطبيعة.
يقول انجلز: إن قواعد الاخلاق الأساسية عند فيورباخ، التي تنجم عنها جميع القواعد الأخرى، هي إذن التضييق العقلاني بالنسبة لأنفسنا. والحب؛ الحب دائماً في العلاقات مع الاخرين. ولا نستطيع إخفاء حقارة وتفاهة هاتين الموضوعتين."
ويضيف: أياً كانت رغبات فيورباخ ونواياه، فإن أخلاقه تبدو أنها فصّلت على قياس المجتمع الرأسمالي الحالي"
إن الاخلاق الفيورباخية تعيد ترديد اللازمة: أحبوا بعضكم بعضاً، فهي تصلح لجميع الأزمنة، ولجميع الشعوب، ولجميع الأوضاع، ولهذا السبب بالذات فهي غير صالحة للتطبيق في أي وقت وأي مكان. وتظل عاجزة إزاء العالم الواقعي مثل الحكم القاطع عند كانط " إن الشيء الأساسي في بناء كانط للقانون الأخلاقي هو الواجب القاطع، الذي ينطبق على جميع الناس بغض النظر عن اهتماماتهم أو رغباتهم (أو ظروفهم). وهذا الامر يماثل المساواة في الحقوق الشرعية للفرد أولاً في نطاق الحقوق الخاصة (حقوق الانسان البورجوازي في المجتمع المدني) ومن ثم إقرارها بالتدريج في ميدان حقوق الدولة (الحقوق السياسية أو حقوق المواطن). مع أن فيرباخ افلتت منه مرة العبارة التي تقول: "في القصور يفكرون غير ما يفكرون في الاكواخ". خاصة وأن الإنتاج الرأسمالي، يحرص ألا يكون للأغلبية الساحقة من الافراد المتساوين في الحقوق إلا الشيء القليل (النزر اليسير) الضروري لحياة بائسة جداً"
والواقع أن لكل طبقة ولكل مهنة أخلاقها الخاصة بها وهي فضلاً عن ذلك تخالفها كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا دون أن تتعرض للعقاب"
إن فشل فيورباخ يتجلى في كونه "لم يجد الطريق الذي يقود من ملكوت التجريد الذي كان يكرهه فيورباخ نفسه حتى الموت، نحو العالم الحقيقي الحيّ. فهو يتمسك بكل قواه بالطبيعة وبالإنسان. ولكن الطبيعة والانسان يظلان بالنسبة له كلمتين فقط (كلمتين مجردتين). إنه لا يستطيع أن يقول شيئاً واضحاً عن الطبيعة الحقيقية ولا عن الانسان الحقيقي. هذا التجريد لمقولة الانسان ولمقولة الطبيعة هو ما يسميه انجلز في (أنتي-دزهرنع) بالميتافيزيقا في مقابلة مع الديالكتيك، وهذه الميتافيزيقا (المقولات المجردة المعزولة عن بعضها البعض) تنسى أن الانسان في جزء أساسي منه، في جسمه، هو طبيعة. جاء في سورة الرحمن: (خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ) [الرحمن: 14].
هنا لدينا تصنيف للفلسفة يتقابل فيه الديالكتيك مع الميتافيزيقا.
إن تجريد المقولات وعزلها عن بعضهاً كما يعزل فيورباخ مقولة "الطبيعة" عن تاريخ الانسان وفعاليته في هذا التاريخ وهذه الطبيعة تجعله يبالغ في التجريد ويضخم مقولة "الطبيعة" لدرجة النفور من التاريخ واضمحلال مقولته. ما يجعل فلسفة فيورباخ تدخل في صميم عبارة لينين السالفة الذكر، من أن هذا التضخيم أحادي الجانب لجانب من جوانب المعرفة الإنسانية هو عين المثالية الفلسفية بالنسبة للعقل الديالكتيكي. وهكذا تغدو المادية الطبيعية ضرب من المثالية الفلسفية ومن الميتافيزيقا معاً. وهذه مفارقة في القول تشير إلى قصور التصنيف في الفلسفة إلى مثالية ومادية!
وللانتقال من الانسان المجرّد كما يتصوره فيورباخ إلى الناس (الافراد) الحقيقيين الاحياء، كان لا بد من دراسة هؤلاء الناس في أفعالهم التاريخية. وهو ما أنجزه ماركس في نقده لفيورباخ وعبر إنشائه "المادية التاريخية" أو الفهم المادي للتاريخ. هنا يبدو فيورباخ مثالي! لقد تبين لاحقاً أن ماديته التجريدية التأملية ليست سوى ضرب من المثالية الفلسفية. وهذا يظهر مرة أخرى، عدم جدارة التصنيف في الفلسفة إلى مثالية ومادية.
يقول انجلز: إن الخطوة التي لم يخطها فيورباخ كان لابد مع ذلك من خطوها. فإن عبادة الانسان المجرد التي تؤلف نواة الدين الفيورباخي الجديد، كان يجب الاستعاضة عنها بالعلم عن الناس الحقيقيين وعن تطورهم التاريخي. وهذا التطوير اللاحق لوجهة نظر فيورباخ، والذي يتجاوز نطاق فلسفة فيورباخ، إنما بدأه ماركس عام 1845 في كتابه "العائلة المقدسة"، (وأكمله تباعاً في كتاب "الأيديولوجية الالمانية" 1845-1846)
مراجع القسم الثاني
1-انجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية
2-ماركس: موضوعات عن فيورباخ: الموضوعة-1، والموضوعة-8
3-ماركس: النضالات الطبقية في فرنسا 1848-1850 دار التقدم
4-يورغن هبرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة د. فاطمة الجيّوشي، منشورات وزارة الثقافة-دمشق 1995
5-مارتن هايدغر: نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، ترجمة عن الألمانية، وعد علي الرحية، تقديم ومراجعة د. محمد علي أسبر، دار التكوين-دمشق، ط1 2016
6-لينين: المختارات المجلد 4 دار التقدم، مقالة "حول الديالكتيك"
7-نايف سلوم: الكيمياء الصوفية وصناعة الدعاة، ضمن كراس (ثلاث رسائل)، منشورات "فاعل"، 2024
8-نايف سلوم: "الماركسية والدين" منشورات "فاعل" 2024
9-بوير-ماركس: حول المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت
10-الثعالبي (350-429 هـ): ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة
11- Frederick Engels : Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy
First Published: 1886, in Die Neue Zeit
12-فريدريك نيتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي، تقديم ميشيل فوكو، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ، ط 2 1983
13-القرآن الكريم
كتب ذكرت في القسم الثاني:
أ) هيغل: أصول فلسفة الحق
ب) ماركس-انجلز: الاسرة المقدسة (نقد النقد النقدي)
ج) ماركس –انجلز: الأيديولوجية الألمانية (نقد الأيديولوجية الألمانية في أشخاص ممثليها: فيورباخ، بوير، شترنر)
د) فيورباخ: جوهر المسيحية
هـ) انجلز: أنتي –دوهرنغ (ثورة الهر دوهرنغ في العلوم)، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن. دار التقدم، 1984