ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري -1


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 14:53
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني     

وكانت جريدة الاخبار اللبنانية | العدد 5317 | 9-10-2024 قد أجرت مقابلة مع علي القادري قام بها خليل كوثراني، وكريم الأمين
يقول القادري: لولا العنف الإمبريالي لما كانت شعوب الجنوب في حالة الهزيمة الأيديولوجية التي هي عليها، وتواجد مئات القواعد العسكرية الأميركية مع الكيانات العسكرية المستنسخة من النموذج الغربي كي تكون حاملات طائرات عسكرية ثابتة كتايوان وإسرائيل.
هذه الفكرة أحادية الجانب وقاصرة، لأنه ليست العسكرة والترهيب وإظهار القدرة الحربية السافرة هي سر أوهام النخب العربية السياسية والثقافية التي همشتها النظم العربية القطرية، بل توجد أوهام أخطر من ذلك وهي الافتتان بأنماط الاستهلاك الغربي الرأسمالي، فالاستهلاك أضحى الأيديولوجية الوحيدة للرأسمالية الامبريالية، لقد باتت الاقتصادوية كعقلية مهيمنة عبر الاستهلاك هي موضع الفتنة. كما أنه ماتزال تسيطر على الكثير من النخب العربية خرافة "الديمقراطية الليبرالية". إن الترهيب عبر التلويح بالقوة لا يشكل نقطة في بحر الأوهام السالفة الذكر. ودليلنا على ذلك أن العربي ما أن يتسلح بأيديولوجية بديلة حتى يتحول إلى "جبل" شجاعة سواء أكانت أيديولوجية رجعية كالحركات الإسلامية السلفية التكفيرية الإرهابية الفاشية أم الإسلام السياسي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين والعراق واليمن.
يقول القادري: "ليست الصهيونية وحدها التي تحمل الفكر الاستيطاني، إنما "الشمال" يتقمص الفكر الاستيطاني كطريقة حياة. وهذه التشكيلات الاستيطانية لا تتحلّل بفعل ثوارها من الداخل، مثلها مثل الكيان الصهيوني، لا تفكك إلا بإخلال موازين القوى ضدها"
هذه الفكرة صحيحة لأن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين جزء عضوي من حركة الاستعمار الإمبريالي الغربي المستمرة بأشكال متعددة منذ الثلث الاخير للقرن التاسع عشر. ولولا ذلك لتلاشت دولة إسرائيل اليهودية العنصرية، كما أن الاعتماد على انتفاضات ثورية داخل الكيان ضد الصهيونية والامبريالية الأميركية وهم خرافي. لكن الخرافة في كلام القادري أن يوحد في رؤيته هذه بين دولة إسرائيل العنصرية و "الشمال" هكذا على التجريد، أي أنه يجمع بين مجتمع استيطاني وبين مجتمعات قومية أوروبية وأميركية تعيش في أوطانها وهذا عين الخطأ.
إن قول القادري أن الفرد هو تعبير اجتماعي أمر صحيح وصائب، لكن الامر غير الصائب قوله: " المقاومة هي الأساس في إعادة إنتاج الإنسان الاجتماعي " والالتباس في كلام القادري قائم في كلمة "المقاومة" هكذا على التجريد! دون أن يبحث في طبيعة هذه المقاومة الاجتماعية الطبقية. إن حركة حماس مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني في غزة والضفة الغربية، لكن بحكم طبيعتها البورجوازية الصغيرة، وبرنامجها السياسي الإسلامي لم تسطع توحيد جهود الفلسطينيين المقاوم بأشكاله المختلفة ضد الاحتلال. وهذا ما يفسر سلوكها في حكم غزة قبل المواجهات الحالية، هذا غير تمويلها من دولة قطر التي تشكل وكيل دبلوماسي للنظام الأميركي. إن الطبيعة الطائفية الدينية للمقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق واليمن تحد من قوتها الاجتماعية وتحرمها من الهيمنة على كامل المجتمع الذي توجد فيه وتقاتل الاحتلال انطلاقاً منه.
لهذا السبب أقول إن مقاومة قائمة على أساس أيديولوجية اشتراكية ماركسية مناهضة للإمبريالية بشكل جذري ومناهضة للمشروع الصهيوني مجسداً بدولة يهودية عنصرية، هي الأساس الحق في إعادة إنتاج الانسان الاجتماعي الذي تتركز فيه كل المهام الديمقراطية والاشتراكية، فيكون مقاوماً بجهده العسكري وبفكره المتنور والشامل لجميع أفراد المجتمع وبتنميته الاجتماعية الاقتصادية ومشروعه في التحديث الصناعي.
إن تعميماً كهذا لدى القادري يحمل ملمحاً ديماغوجياً، يشبه إلى حد بعيد ديماغوجيا البعث في العرق وسوريا من قبل وديماغوجيا الناصرية في مصر. والتي قادت إلى هزائم مريرة.
من الملفت للنظر أن قادة المقاومة الإسلامية في لبنان يعرفون حدود الأيديولوجية التي يتبنونها بدعم إيراني عضوي ودائم. ولهذا نرى أحد الناطقين السياسيين باسم حزب الله، وهو مسؤول ملف الموارد والحدود نواف الموسوي يصرح في لقاء على الميادين منذ أيام بأن انتصار حزب الله في المواجهة القائمة لن يغير من حياد حزب الله تجاه التركيبة السياسية الطائفية القائمة في لبنان والتي هي نتيجة اتفاق الطائف وعلى أثر الحرب الاهلية اللبنانية. خاصة وأن القادري يعود ويقول: " لكن المحاصصة بين العمل ورأس المال، أي بين الأجور والربح، يتحدّد بقوة العمل السياسي في الصراع الطبقي". إن الصراع الطبقي بالمعنى الماركسي غائب للأسف عن البرنامج السياسي للمقاومة الوطنية الإسلامية في لبنان وفلسطين وفي العراق واليمن أيضاً. " في ظل علاقة رأس المال، أي العلاقة المهيمنة على كل العلاقات الاجتماعية " كما يقول القادري نفسه.
إن ممارسة العنف من قبل الامبريالية على الشعوب الهامشية المظلومة يخفف من تكاليف الإنتاج ويقلل من حصة هذه البلدان من ناتج قوى العمل. أقول: صحيح أن الإرهاب الامبريالي والتهديد والعنف يقلل من تكاليف الإنتاج ويقود إلى "فائض إنتاج". ولكن فائض الإنتاج ليس مصدره الوحيد النهب الامبريالي لبلدان أطراف النظام، بل هناك مصدر آخر لا يقل أهمية، بل هو الأساس في قدرة النظم الامبريالية على نهب البلدان المتخلفة، وهو زيادة إنتاجية قوة العمل في داخل المراكز الامبريالية بعد الحرب العالمية الثانية بفعل التقدم التقني الهائل والذي حفزته الحرب والصراع المسلح. إن التقدم التقني وحده مجرداً عن عامل القوة السافرة والنهب يسهم في اختلال حدود التبادل بين المراكز الامبريالية وهوامش النظام، كما أن التقدم التقني يفرض تفوقه في المجال العسكري بحيث يجعل الحروب ضد الامبريالية غير متكافئة ومتفاوتة. وهذا ما يظهر الفرق بين قصف حزب الله لحيفا وقصف إسرائيل المدججة بالسلاح الأميركي المتطور لبيروت.
يقول القادري: "" إن أزمة فائض الإنتاج هي الأزمة الثابتة والملازمة لرأس المال" وكان عليه أن يضيف كلمة "الاحتكاري" لأن سمة "فيض الانتاج" المتزامنة مع غلاء الأسعار والتضخم الدائم هي سمة ملازمة لرأس المال الاحتكاري (اعتبارا من 1876-1880 حتى يومنا هذا)
إن تركيز القادري على دور العنف والاكراه والترهيب بالقوة المفرطة كمفسر وحيد لتخفيض تكاليف الإنتاج الرأسمالي يوقعه في عيب سياسوي وإرادوي، متغافلاً تماماً عن الاليات الاحتكارية والتسعير الاحتكاري، وعن التقدم التقني الهائل وزيادة إنتاجية قوة العمل في المراكز الرأسمالية على أثر الحرب العالمية الثانية، وما تلا ذلك من ازدهار اقتصادي حتى عام 1973.
يصوغ القادري هذا العيب في النظر بقوله: " أي منتِج عليه أن يخفض التكاليف وقدرات المنتجين المباشرين، السياسة هي التي تتكفل بذلك، عبر العنف الممارس الذي يسلب المجتمع إرادته "
وهذا القول تدحضه التجربة الصينية في التصنيع وتخفيض كلف الإنتاج، وهو سر الصعود الصيني، وما ولده من المخاوف الأميركية بالمعنى الاستراتيجي. الصين لا تمارس الاكراه والعنف ضد الدول الأخرى والمنتجين الاخرين، ومع ذلك فهي تخفض كلف الإنتاج وسعر المنتجات. وهذا سر النجاح الصيني في المباراة الاقتصادية والتجارية العالمية.
يعود القادري ليرمم وجهة نظره بالقول: " والقدرات هذه ليست محصورة بالعنف، مع أن العنف وإعادة ممارسة العنف هما الكفيلان بإعادة صياغة القوى الفكرية التي تسلب المجتمع روحه الثورية " ومع ذلك يحبط ترميه السالف الذكر عبر إرجاع الروح الانهزامية في المجتمع إلى الاكراه والعنف الذي يمارسه النظام الامبريالي!
وبعد أن يلف ويدور حول فكرة الطابع العالمي لقيمة قوة العمل، يعود لاختزال إنتاج فضل القيمة الذي تمتلكه القوى الرأسمالية الامبريالية بعملية النهب الامبريالي للأطراف الرأسمالية، متناسياً الإنتاجية المتعاظمة لقوة العمل في المراكز نفسها بفعل التقدم التقني. يقول: " فعملية الإنتاج عملية مترابطة كونياً تشارك فيها كل المجتمعات .. لكن تشكيل تقسيم العمل الدولي على أسس إمبريالية في الشمال والجنوب يعني أن مجتمع الشمال يمتص رأس المال بالريوع الإمبريالية " . هذا الفهم السياسوي-التجاري للإمبريالية يحرم القارئ العربي من رؤية باقي المشهد وهو الرأسمالي العربي والمقاول العربي الذي يستولي على جزء من الربح، وكذلك العامل في المراكز الرأسمالية الذي يذهب جزء مهم من قوة عمله إلى الرأسمالي الامبريالي، وأيضاً دافع الضرائب في هذه البلدان، حيث تشتري الحكومة عبر ميزانية الدولة الأسلحة من شركان التصنيع العسكري، بحيث تكون الميزانية أداة مالية هائلة لدعم الشركات الاحتكارية المنتجة للسلاح وإعادة توزيع الثروة القومية لصالح هذه الشركات.
يقول القادري: " فأي عملية إنتاج تبدأ باستخراج المواد الأولية وليست هناك مواد أولية في أرض من دون شعب. ولتخفيض سعر المواد الأولية يجب تقليص إرادة المجتمعات التي تسكن فوق الأراضي التي تحتوي على هذه المواد الأولية. من هنا، عملية استخراج المواد الأولية تعني كذلك في الوقت نفسه التقليل من حصة المجتمعات والتقليص من حيوات هذه المجتمعات. " هنا يعود القادري لفكرته السالفة الذكر والتي مفادها أن الإرهاب الامبريالي بالعنف يخفض من سعر المواد الأولية للدول المتخلفة، متناسياً كل الاليات الاقتصادية التي تعمل اقتصادياً من دون إكراه. إلا إذا احتلت الامبريالية البلد المعني. لكن هذا لا يعني أن أية مقاومة محلية سوف تنجز مشروع التنمية الوطنية وتطرح مشكلة التقسيم الدولي الامبريالي للعمل وحصة هذا المجتمعات من ثرواتها، لن تدخل بالضرورة في مواجهة عنيفة مع الامبريالية، كما هو حال فنزويلا والصراع على الثروة النفطية.
ثم يعود القادري ليقول: " إنّ مقاومة رأس المال هي المدماك الأوّل لإعادة إنتاج المجتمعات بشكل أفضل “نعم هذا حق "مقاومة رأس المال" وطنياً هي التي تقود إلى مواجهة مع الامبريالية وآلتها العسكرية، مع أن الحرب كما يقول القادري: " عملية صناعية ذات سمة اقتصادية، أي تستعمل فيها التكنولوجيا العالية التي تخفض سعر المنتج مع زيادة الإنتاج "
إن تجريد كلمة "المقاومة" من رأس المال، أي عدم تعيينها بمقاومة رأس المال التي تتضمن بالضرورة مواجهة عنيفة مع الامبريالية، يجعلها مقولة غوغائية فارغة، إلا في حالة واحدة يمكن فيها التغاضي عن هذا التجريد، وهو وجود احتلال استعماري إمبريالي للبلد المعني. هنا يمكن غض النظر قليلًا عن التفاوتات الطبقية في سبيل مواجهة المحتل. ومع ذلك تلعب طبيعة الطبقة التي تقود الصراع دوراً حاسماً على مستوى الحزم في مواجهة الامبريالية.
نأخذ هنا قول ماو تسي تونغ: "إذا نظرنا إلى عملية الثورة الديمقراطية البورجوازية في الصين، التي بدأت بثورة 1911 (بقيادة صُون يات صن)، وجدنا لها أيضاً مراحل خاصة متعددة. فالثورة في فترة قيادة البورجوازية لها والثورة في فترة قيادة البروليتاريا لها تتمايزان على الأخص، كمرحلتين تاريخيتين مختلفتين اختلافاً كبيراً. ذلك أن القيادة التي مارستها البروليتاريا غيرت وجه الثورة بصورة جذرية، وأدت إلى ترتيب جديد في العلاقات الطبقية، وإلى انطلاق عظيم في ثورة الفلاحين، ومنحت الثورة الموجهة ضد الامبريالية والاقطاعية صفة الحزم الذي لا يعرف المهادنة، وجعلت من الممكن الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية. وما كان يمكن أن تحدث هذه الأشياء كلها عندما كانت الثورة (الديمقراطية) بقيادة البورجوازية." (في التناقض)
و"صون يات صن" الزعيم الصيني التاريخي الديمقراطي سلف ماو تسي تونغ هو نفسه الذي سميت باسمه الجامعة التي يعمل الأستاذ علي القادري فيها حالياً في جمهورية الصين الشعبية الاشتراكية.