استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--2
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8078 - 2024 / 8 / 23 - 16:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
القسم الثاني
في التحضير للكتاب، وفيما يتعلق بالفلسفة، فقد انشغل لينين باهتمام بالغ ليس فقط بالفلسفة، بل أيضاً بالمؤلفات العلمية الطبيعية، التي كانت متوفرة آنذاك. "لقد أنجز عملاً علمياً هائلاً، درس مئات المصادر الفلسفية والعلمية، خاصة الفيزياء باللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية والروسية. لقد قرأ مرة أخرى الاعمال الفلسفية لماركس وانجلز، وكذلك أعمال بليخانوف، مهرينغ، وفيورباخ، وديتزغن وغيرهم" (لينين: بيوغرافي برلين)
لقد كانت (مساهمات في الفلسفة الماركسية) ممراً للهجوم على المادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية. وراحوا يدعون أن المسألة الأساسية للفلسفة المكتشفة من قبل ماركس وانجلز، التي افترق بالإجابة عليها مثلما هو معروف الماديون والمثاليون، لم تعد استناداً إلى المسائل الجديدة للعلوم الطبيعية مبررة. وقد تمت البرهنة على وجهة النظر التي تدعي بعدم وجود المادة خارج الوعي، حسب ادعائهم، من قبل العلوم الطبيعية. فالموضوعي والواقعي هو فقط الاحساسات، التجارب (خبرة الاحساس) ولا يوجد وراءها شيء مادي إذا لم يثر الاحساسات.
والديالكتيك بنظرهم قد "شاخ" إن المرء بحاجة إلى "فلسفة أكثر حداثة"، ويجب أن يعاد النظر بالفلسفة الماركسية. والفلسفة التي نصحوا بها كانت فلسفة ماخ وأفيناريوس، مما أعطاهم اسم "الماخيين"
إرنست ماخ (1838-1916) فيزيائي نمساوي وفيلسوف. ريتشارد أفيناريوس (1843-1896) فيلسوف ألماني. يمثل الاثنان مذهباً ذاتياً مثالياً. اعتمدت وجهات نظرهم على تعاليم الفلاسفة الإنكليز جورج بركلي (1685-1753) ودافيد هيوم (1711-1776) وقد أنكر كل من ماخ وأفيناريوس وجود العالم الواقعي الموضوعي خارج الوعي الإنساني، وادعى كل منهم أن الشيء الموجود فقط، هو المعطى إيجابياً (وضعياً) في الوعي. وهذا المعطى المباشر سماه ماخ وأفيناريوس بـ "سلسلة حياة". وعي الناس هو أولي بالنسبة إلى الطبيعة، الوجود. والعالم يوجد فقط إلى الحد الذي يمكن به تحديده ومراقبته من قبل تجربتي الحسية.
إن أفكار أفيناريوس –حسب لينين – ليست جديدة أو أصلية أبداً، بل إنها تعود كاملة إلى الفلسفة الذاتية-المثالية لفيخته" (تلخيص كتاب المادية)
إن هذا الاتجاه الفلسفي للمثالية الذاتية الذي يجعل وجود الأشياء والظواهر مرتبطاً بإدراك وضعي، بتحديد قابل للمراقبة من قبل التجارب يسمى بشكل عام بالوضعية. لكن ماخ وأفيناريوس أعطيا فلسفتهما اسماً آخر، لقد نعتاها بـ "التجريبية النقدية" وبهذه التسمية أرادا أن يعبرا على أن الفلسفة قد وضعت لنفسها مهمة الملاحظة الانتقادية المفكرة للتجربة (الخبرات، المعلومات الادراكية)، ولأن الخبرات (الاحاسيس) هي المعطاة فقط، يمكن أن تكمن مهمة الفلسفة في تحليلها انتقادياً لا غير.
يقول أرسطو في كتاب النفس: "جميع الكائنات إما محسوسة أو معقولة، والعلم من أحد الوجوه هو وموضوعه واحد، كما أن الإحساس والمحسوس شيء واحد. ولكن كيف يكون ذلك؟ هذا ما يجب أن نتفحصه " (كتاب النفس)
العلم والاحساس ينقسمان إذن بحسب موضوعاتهما، فالعلم بالقوة والاحساس بالقوة يقابلان الأشياء بالقوة، والعلم بالفعل والاحساس بالفعل يقابلان الأشياء بالفعل. وفي النفس قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما، أحدهما المعقول بالقوة والآخر المحسوس بالقوة. فبالضرورة كانت هذه القوى هي نفس موضوعاتها، أو على الأقل نفس صورها. أما أن تكون نفس موضوعاتها فليس هذا ممكناً، لأنه ليس الحجر هو الموجود في النفس بل صورته. العقل صورة لصور، والحاسة (الاحساس) صورة للمحسوسات. ففي غيبة جميع الاحساسات لا نستطيع أن نتعلم أو نفهم أي شيء. (أرسطو: كتاب النفس)
لكن للتحريف الفلسفي المتفشي في أوساط الكوادر القيادة للاشتراكية-الديمقراطية الروسية مصدر أصلي هو الأممية الثانية (1889-1916) التي يهيمن عليها الحزب الاشتراكي-الديمقراطي الألماني ممثلاً بكارل كاوتسكي.
"إن العديد من منظري الأممية الثانية بذلوا جهدهم في بداية القرن العشرين لتحقيق تحريفات أساسية في جميع مجالات الماركسية. وظهرت هذه التحريفية في مجال الفلسفة بتيارين: الكانطية الجديدة والوضعية. وهما لا يشكلان ابداعات جديدة، بل يعكسان تأثير الفلسفة البورجوازية في تلك الفترة على الحركة العمالية. "
يقول جان بول سارتر: "لقد لاحظت هذه الملاحظة دوماً: إن أي حجة من الحجج "المناوئة للماركسية" ليست إلا تجديداً ظاهرياً لشباب فكرة سابقة للماركسية. وأي "تجاوز" مزعوم للماركسية لن يكون في أحسن الأحوال، سوى اكتشاف لفِكْر قد تضمنته سابقاً الفلسفة التي ظن انها تُجوّزت" (الماركسية والوجودية)
عند انتقال الرأسمالية إلى مرحلتها الامبريالية حدث انعطاف في الفلسفة البورجوازية نحو المثالية الذاتية التي تنكر أي واقع موضوعي. إن الكانطية الجديدة ارتكزت على فرضية كانط: "العالم وقوانينه غير قابلة للإدراك أساساً. وعلى النظرية الأخلاقية لكانط وحاولوا البرهنة على أن التعاليم الأخلاقية هي أساس كل الفلسفات والنظريات الاجتماعية " (تلخيص كتاب المادية)
الاتجاه الاخر في الفلسفة البورجوازية هو الفلسفة الوضعية، والتي انتشرت على الغالب في النمسا وروسيا (ممثلة بالماخية)
"تمثلت الكانطية الجديدة في الحركة العمالية الأوروبية من قبل منظري وأيديولوجيي الاشتراكية الديمقراطية، كونراد شميدت، ادوارد برنشتاين ، كارل فورليندر، وماكس أدلر. وأدعى هؤلاء من بين ما ادعوا بأن الماركسية لا تمتلك نظرية أخلاقية خاصة بها. ومن أجل المساعدة في سد هذا النقص ينبغي على الحركة العمالية الاهتمام بفلسفة كانط وخاصة بتعاليمه الأخلاقية، والاستفادة منها. أما الوضعية فقد تمثلت في الحركة العمالية من قبل فريديرك آدلر (النمسا) ومن قبل الماخيين الروس" (تلخيص كتاب المادية)
وقد كتب لينين عن هذه التحريفية الفلسفية في الحركة العمالية ما يلي: "في حقل الفلسفة سارت النزعة التحريفي في "زبد" العلم التدريسي البورجوازي، و "عاد" الأساتذة المدرسون إلى كانط. وسارت النزعة التحريفية في ذيل الكانطيين الجدد. ولاك الأساتذة السخافات الكهنوتية مرة أخرى ضد المادية الفلسفية، فإذا المحرفون يبتسمون بشفقة ويتمتمون (كلمة بعد كلمة حسب كتاب الجيب الاخير) زاعمين أن المادية قد "دُحضت" منذ زمن بعيد. حين نعت الأساتذة هيغل بأنه "كلب فطس" أو "كلب ميْت". وهو النعت الذي أثار حفيظة ماركس في مقدمات كتابه "رأس المال"، حيث يقول: "لقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل زهاء ثلاثين عاماً يوم كان يمثل الموضة السائدة. ولكن بينما كنت أعمل في المجلد الأول من رأس المال ، راق أنصاف المثقفين ، المتغطرسين ، التافهين المشاكسين (الفلاسفة: بوشنر، لانغه، دوهرنغ، وفشنر وغيرهم..)، الذين لهم الكلمة العليا اليوم (عقد الستينيات القرن التاسع عشر) بين متعلمي ألمانيا ، أن يعاملوا هيغل معاملة موسى مندلسون "الشجاع" لسبينوزا في عهد ليسنغ، أي يعاملوه مثل "كلب ميْت" لذلك أعلنت نفسي جهاراً تلميذاً لذلك المفكر الجبار، بل عمدت في هذا الموضع أو ذاك في الفصل الخاص بنظرية القيمة، إلى مغازلة (محاكاة) أسلوبه الخاص بالتعبير" (تعقيب ماركس على الطبعة الألمانية الثانية لرأس المال المجلد الأول)
يتابع لينين القول: لقد هزوا أكتافهم بازدراء عند الحديث عن الديالكتيك، فإذا المحرفون يتخبطون وراءهم في مستنقع التحقير الفلسفي للعلم، مستعيضين عن الديالكتيك "المنمق " و "الثوري" ب "تطور بسيط" و "هادئ"، وكان الأساتذة يكسبون معاشاتهم الرسمية، مكيفين مناهجهم المثالية و "الانتقادية" وفقاً "للفلسفة" السائدة والموروثة من القرون الوسطى (أي اللاهوت). وإذا المحرفون يقفون إلى جانبهم، ساعين قصارى جهدهم لكي يجعلوا من الدين "قضية خاصة" لا بالنسبة للدولة المعاصرة، بل بالنسبة لحزب الطبقة المتقدمة" (لينين: الماركسية والنزعة التحريفية)
حسب كلام التحريفيين لم تعد مسألة العلمانية خاصة بالدولة الحديثة وفصلها عن كل امتياز ديني، بل جعلوها مسألة خاصة بوجدان الفرد وبالحزب الاشتراكي. وهنا تأتي ملاحظة لينين أعلاه ملفتة وحاسمة لجهة انكار لينين لأي دعوة الحادية من قبل الحزب الاشتراكي الماركسي. يقول لينين عن هؤلاء التحريفيين: " يعظون بأحد أنواع اللاغنوصية (اللاعرفانية النقدية التجريبية)، وأحد أنواع المثالية (الأحادية التجريبية) – يُعلمون العمال "الالحادية الدينية" وتأليه أسمى الطاقات الإنسانية (لونتشارسكي) – يعلنون أن تعاليم انجلز عن الديالكتيك هي تعاليم متصوفة (برمان)”.
إن الوظيفة السياسية للتحريفية الفلسفية، التي بدأت تتنامى في الحركة العمالية كالورم السرطاني في بداية القرن العشرين، هي إثارة البلبلة الأيديولوجية في أوساط الحركة العمالية، بحيث يتوجب طمس هدف النضال الطبقي البروليتاري في ظلام مضبب، من أجل أن يختفي في آخر الامر تماماً عن مجال الرؤيا. (تلخيص كتاب المادية). إن الهدف النهائي من كل ذلك هو تصفية النظرية العلمية الماركسية والتنظيم السياسي للطبقة العاملة، تصفية الأحزاب الثورية للطبقة العاملة وتقسيم الحركة العمالية وتشتيتها. وقد أكد لينين في رده على التحريفية أن وعي وتنظيم السلوك الثوري هي شروط لازمة من أجل انتصار الثورة الاشتراكية. وقد اكتسب كفاح لينين ضد التحريفية منذ البداية أهمية عالمية.
لقد استند لينين في نقده لمذهب "النقد التجريبي" الوضعي على الاعمال الفلسفية لماركس وانجلز. وأعار عناية خاصة لأعمال انجلز "ضد دوهرنغ" و "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ". لم يدافع فقط عن الأفكار الأساسية الواردة فيها بل طورها، من خلال تحليله المفصل للعلاقة بين المادة والوعي، استناداً إلى وجهات نظر القضايا العلمية الحديثة" (تلخيص) وكنا قد انتقدنا كتاب انجلز "لودفيغ فيورباخ" الذي يعتمد عليه لينين كثيراً في كتاب "المادية ومذهب النقد التجريبي" لجهة طغيان "المادية العلمية الطبيعية" وهيمنتها على "المادية التاريخية"، ولجهة أن المسألة الأساسية في الفلسفة ليست بين مادية ومثالية، بل بين أنصار قدم العالم وأنصار العالم المخلوق والمحدث. إن اختزال وتبسيط نظرية المعرفة وحصرها في علاقة المادة بالفكر أو الطبيعة بالفكر يعني تخفيض المسألة إلى المستوى الطبيعي وإلى المستوى الفيزيولوجي-البيولوجي، استناداً إلى وجهات نظر القضايا العلمية الحديثة. والغائب الأكبر هو المجتمع والتاريخ وقضايا المادية التاريخية. هذا المستوى الفيزيولوجي يقود إلى مادية سيكولوجية، وانعكاس غير موسّط وغير تأملي. بينما يقود اعتماد انجلز على تطور العلوم الطبيعية إلى مادية جدلية طبيعية (ديالكتيك الطبيعة). ففي الفترات غير الثورية نجد هذا التعدد بفعل صعوبة هيمنة المادية التاريخية على المستويات الأدنى (الفزيولوجية والعلمية الطبيعية) (راجع هامش ص 143 من موسوعة العلوم)
"لقد عارض لينين التركيب الذاتي المثالي (للنقد التجريبي) وبعد ذلك طرح سؤالين: هل وجدت الطبيعة قبل الانسان؟ هل يفكر الانسان بواسطة الدماغ؟" (تلخيص كتاب المادية). وهذا تخفيض بيولوجي طبيعي للإنسان، يجعل من هذه المادية الطبيعية *البيولوجية مادية ضيقة وقاصرة، تسهل مهاجمتها من قبل الخصوم الفلسفيين. خاصة وأنها تغفل فعالية الذات في الطبيعة والمجتمع، وفعالية الممارسة الإنسانية والتحويل الدائم للطبيعة.
يعتبر لينين النزاع في الحقل الفلسفي على أنه صراع طبقي في الحقل النظري والايديولوجي بين البروليتاريا والبورجوازية. فرسالته إلى غوركي 25/2/1908 تبين حماسة لينين في خوض الصراع النظري وشدة غضبه على الذين يقفون من رفاقه بتهور تجاه النظرية (الماركسية) النظرية الثورية للطبقة العاملة" (تلخيص كتاب المادية). وهذا الغضب جعل الشتائم كثيرة في الكتاب. فحين كانت أخته آنا أوليانوفنا تقوم بمهام الاعمال التحضيرية لطباعة الكتاب، ومن أجل نشره بسرعة، وجهت اللوم لأخيها بسبب اللغة الحادة، حيث قالت له: يجب أن تزيل بعض الشتائم أو تعدلها" (يوم عادي من أيام عائلة أوليانوف)
لقد حاول لينين في "دفاتر الفلسفة" 1914-1915 تجاوز النزعة العلمية الطبيعية للمادية التي هيمنت في "المادية والنقد التجريبي" بفعل تأثير مؤلفات انجلز الفلسفية والتي اعتمدها لينين بكثرة في هذا المؤلف. ففي الدفاتر استعاد لينين ديالكتيك هيغل ومادية ماركس التاريخية عبر قراءته لتاريخ الفلسفة وتلخيصه لكامل منطق هيغل في "موسوعة العلوم الفلسفية" أو المنطق الصغير و "المنطق الكبير"، و"تاريخ الفلسفة". وهذا لا يعيب لينين، بل بالعكس يظهر قدرة الماركسيين على النقد الذاتي في كل وقت وأوان.
إن ما يسمى بالحس الإنساني السليم القائم على تجربة فردية ووعي عادي يومي لا يعتد به في البت والحكم على القضايا المذهبية الفلسفية وغيرها. "إن الحس الإنساني السليم مثلما أكد انجلز "رفيق محترم" لكن فقط في "مجال الجدران الأربعة لبيته" وهذا يعني أنه يبقى في عالم التجربة محدداً بتجربة الفرد وخبرته، ولذلك "يلاقي مغامرات عجيبة جداً حالما يتجرأ بالدخول إلى عالم البحث" (راجع أنتي*دوهرنغ)
يقول هيغل: "اتفقت الفلسفة النقدية (كانط) مع المذهب التجريبي في الزعم أن التجربة تقدم الأساس الوحيد لمعارفنا، لكنها لم توافق على دفع هذه المعارف إلى مرتبة الحقائق وإنما ذهبت إلى أنها معرفة بالظواهر فحسب" (موسوعة العلوم الفلسفية)
تناولت الفلسفة النقدية المقولات التي تستخدمها الميتافيزيقا بشكل نقدي، وقد تناولتها وهي متأثرة بالتعارض بين الذاتي والموضوعي. هذا التعارض الذي يعتمد على التفرقة بين عنصري التجربة: الذاتي الذي هو عنصر التجربة، والموضوعي الذي هو عنصر الضرورة والشمول حيث يطلق عليه كانت صفة الموضوعي، أعني على المقولات ذاتها، أو ما يسمى بالعنصر القبلي الاولي السابق على التجربة (البنية الذهنية والفكرية التي تقوم بالتجربة). "غير أن الفلسفة النقدية وسّعت هذا التعارض وذهبت إلى أن الذاتية تنسحب على عنصري التجربة معاً. أي على العنصرين السابقين (عنصر التجربة، وعنصر الضرورة والشمول) بحيث لا يبقى شيء في الجانب الاخر (الموضوعي) سوى "الشيء في ذاته" (موسوعة العلوم الفلسفية)
يضيف هيغل: "إن الصورة الخاصة للعنصر الاولي القبلي، الصورة الخاصة للفكر. وهي الصورة التي ينظر إليها على أنها فعل ذاتي خالص رغم موضوعيتها، ظهرت في نظام نسقي لا يقوم إلا على أسس نفسية وتاريخية"
لا شك أن وضع مصطلحات (مقولات) الميتافيزيقا القديمة موضع البحث (من قبل كانط)، كان خطوة على جانب كبير من الأهمية. (موسوعة العلوم)
لقد أخذ كانط على عاتقه أن يفحص إلى أي حد تستطيع صور الفكر أن تقودنا إلى معرفة الحقيقة. ولقد طالب بصفة خاصة، بنقد ملكة المعرفة كعمل تمهيدي قبل ممارستها. وهذا مطلب عادل لو كان يعني أننا ينبغي علينا أن نضع صور الفكر موضع البحث (لا الحكم عليها مسبقاً، أي قبل عملية البحث)، إلا أنه سرعان ما انزلق، لسوء الطالع، إلى تصور خاطئ عن المعرفة بالفعل قبل أن نعرف. وهو نفس الخطأ الذي يقع فيه من يرفض النزول إلى الماء قبل أن يتعلم السباحة. صحيح أن صور الفكر يجب أن تخضع للبحث (والنقد) قبل أن نستخدمها: لكن ماذا عساه أن يكون هذا البحث نفسه إن لم يكن معرفة؟ ومن هنا فإن ما نطالب به هو أن نربط في عملية البحث بين صور الفكر ونقدها" (موسوعة العلوم)
إن صور الفكر هنا "في آن معاً موضوع البحث وفعل (ذاتية) البحث، ومن ثم فهي تفحص نفسها بنفسها، وبنشاطها الخاص ينبغي عليها أن تبين حدودها وأن تشير إلى عيوبها ونقائصها. وذلك هو نشاط الفكر الذي سأدرسه، من الان فصاعداً، بصفة خاصة باسم الديالكتيك (الجدل) Dialectic " (موسوعة العلوم)
يقول هيغل: الواقع أن الذاتي والموضوعي تعبيران شائعان في الاستعمال المألوف، غير أن استعمالهما يمكن بسهولة أن يؤدي إلى الخلط واللبس. لقد بينت لنا المناقشة السابقة ثلاثة معاني، حتى الان لكلمة الموضوعية Objectivity:
1-فهي تعني أولاً ما له وجود خارجي في مقابل الذاتي الذي يعني ما نفترضه، أو نحلم به فحسب، الخ..
2-وتعني ثانياً الضرورة والشمول وهو المعنى الذي أضافه إليها كانط في مقابل الجزئي أو العنصر الذاتي الطارئ الذي يعود لإحساساتنا (الإحساس الذاتي في التجربة الفردية مقابل شمولية صور الفكر وضرورتها) [يشبه هذا علاقة اللغة القارة بالكلام اليومي الدائب الحركي]
3-وهي تعني ثالثاً، وهذا المعنى الذي شرحناه تواً (ولم يكن عند كانط) – الفكر الذي ينظر إليه على أنه ماهية الأشياء الموجودة (محتوى صور الفكر)، وهو يتميز بالتضاد مع الفكر الذي هو فكرنا فحسب، وبالتالي فهو ينفصل عن الشيء ذاته على نحو ما يوجد في ماهية مستقلة قائمة بذاتها. (حيث يتحول "الشيء في ذاته" إلى شيء لي)" (موسوعة العلوم)
إن كانط يتحدث عن عنصري التجربة الذاتي والموضوعي، ثم يجمعهما في بوتقة ذاتية واحدة مقابل الشيء الموضوعي الخارجي؛ "الشيء في ذاته"، دون أن ينبث بكلمة عن محتوى صور الفكر أو ماهية هذا الشيء بذاته.
عندما تحدث كانط عن "الشيء في ذاته" الذي لا يمكن معرفته، تساءل هيغل بتهكم ساخر موجهاً كلامه إلى كانط: ولكن كيف عرفت أنه لا يمكننا معرفته! فإذا ما قال الرجل: هذا ليس بنبي، فقوله يتضمن أنه يعرف من هو النبي الحقيقي!
من هنا يتبين لنا أن اللاغنوصية (اللاعرفانية) "للشيء في ذاته" ليست سمة لازمة للمثالية، والدليل القائم هيغل ومثاليته الغنوصية التي تقر بقدرتنا كبشر على معرفة ماهية الأشياء وجوهرها معرفة حقيقية. والمادية الطبيعية الميكانيكية، وبسبب قصورها المعرفي تعجز عن معرفة حقيقة الأشياء والتاريخ. إن الجمع التلقائي غير النقدي بين اللاعرفانية والمثالية أمر خاطئ. كما أن الجمع بين ماركس وفيورباخ وانجلز تحت يافطة الانكار التام لكل مثالية أمر خاطئ. فيورباخ مادي في الطبيعة ومثالي في الأخلاق (مدخل نقدي)
إن التقسيم الالي المجرد للفلسفات بين مادية ومثالية تغلق الباب أمام تحليل المحتوى الفلسفي للنظريات. إن تحليل انجلز لمحتوى فلسفة فيورباخ (لودفيغ فيورباخ) تبين أنها خليط من مادية ومثالية.
بعض نقاد تقسيم الفلسفة إلى مادية ومثالية والذين ينكرون القضية الأساسية للفلسفة ويعلنون أن الاختلاف بين المادية والمثالية ليس جوهرياً أو حتى غير مناسب. وسمى أحد أنصار "النظرية النقدية " لمدرسة فرانكفورت أوسكار نكت هذا "الاختلاف" بآلية مجردة من المثالية والمادية، التي غلقت منذ لينين تحليل المحتوى الفلسفي للنظريات" (الماركسية معلم تفويضي) وأيضاً بتجوفيك أحد دعاة ما يسمى بفلسفة الممارسة، يذم "التقسيم الآلي لكل الفلسفات إلى مثالية ومادية" وسماها بكل بساطة "ستالينية" (الممارسة الثورية) وستالينية لأن هذا التجريد الفارغ، وهذه المادية الطبيعية البيولوجية (فيزيولوجيا وسيكولوجيا) المبتذلة تناسب دوغما البيروقراطية الستالينية.
مراجع القسم الثاني
1--هانيرش أوبتنر: المادية والنقد التجريبي (عرض وقراءة لكتاب لينين) ترجمة عيسى عبد الرضى، دار ابن خلدون 1981 (الطبعة الألمانية عن دار ديتز للنشر برلين 1975)
2-كتاب النفس لأرسطوطاليس: ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، مراجعة الاب جورج شحاتة قنواتي، تصدير ودراسة: مصطفى النشار. المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الثانية 2015
3-جان بول سارتر: الماركسية والوجودية، ترجمة جورج طرابيشي، دار اليقظة العربية-بيروت
4-لينين: الماركسية والنزعة التحريفية، دار التقدم
5-كارل ماركس: رأس المال، المجلد الأول، ترجمة د. فالح عبد الجبار، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2013
6-هيجل: موسوعة العلوم الفلسفية (المجلد الأول)، ترجمة وتقديم وتعليق: د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير بيروت، الطبعة الثالثة 2007
7-نايف سلوم: مدخل نقدي إلى كتاب انجلز "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية" نشر "فاعل" 2024
8-انجلز: ضد دوهرنج –ثورة السيد أوجين دوهرنج في العلوم، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن، دار التقدم موسكو 1984