-الأسرة المقدسة-- تحقيقات وتعليقات، حاشية هامشية نقدية رقم 3


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 7996 - 2024 / 6 / 2 - 02:59
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

لا يمكن للسيد ادغار أن يجهل أن أخاه السيد برونو بوير قد وضع "وعي الذات اللامتناهي" في أساس سائر شروحاته، وأنه تصور هذا المبدأ كمبدأ مبدع للأناجيل نفسها (المبدأ المبدع للتصورات الدينية)، التي تبدو بلا وعيها اللامتناهي، متناقضة مباشرة مع وعي الذات اللامتناهي. وعلى الطريقة نفسها يتصور برودون المساواة وكأنها المبدأ المولّد لنقيضه المباشر، أي الملكية الخاصة".
يتابع ماركس: فليتفضل السيد ادغار ويقارن لحظة بين المساواة الفرنسية وبين وعي الذات الألماني، لكي يلمس بأن المبدأ الثاني يعبر، على الطريقة الألمانية، أي بالفكر المجرّد، ما يقوله الأول على الطريقة الفرنسية، أي بلغة السياسة والفكر الحدسي" أي في المجال العملي والممارسة العملية.
إن وعي الذات إنما هو مساواة الانسان مع نفسه في الفكر المجرد. والمساواة إنما هي الوعي الذي يكون لدى الانسان عن نفسه في المجال العملي.
أي أنا نفسي أساوي الانسان الذي أمامي، مثله مثلي. وسلوكي تجاهه سلوكي تجاه آخر هو مساو لي.
إن المساواة هي التعبير الفرنسي لترجمة الوحدة الجوهرية للكائن الإنساني، الوعي النوعي والسلوك النوعي للإنسان، والتماثل العملي للإنسان مع الانسان الآخر. (الكائن الإنساني مونادة لدى كل فرد، وهذه المونادات في علاقة اجتماعية)
وكما أن النقد الهدّام (النقد النقضيّ) قبل في ألمانيا أن ينتقل "وعي الذات" على يد فيورباخ إلى "حدس الانسان الواقعي" (الانسان الواقعي كمعطى مباشر)، حاول أن يحل كل شيء محدد وكل موجود اعتماداً على مبدأ وعي الذات، كذلك فإن النقد الهدّام في فرنسا، حاول الوصول إلى النتيجة نفسها، اعتماداً على مبدأ المساواة"
إن فيورباخ هنا في مقولة "حدس الانسان الواقعي" يأخذ الانسان كجوهر فرد، يحمل كامل الحقيقة الاجتماعية، ويظهر أمام فيورباخ كموضوع تأمل لوعي الذات النقدي.
يقول ادغار: إن برودون يحتدّ ضد الفلسفة. إن الفلسفة على حد زعمه لم تصبح عملية إلى حد الكفاية حتى الآن. إنها كما يقول ركبت مركب معزوفتها الدائمة التي هي التأمل النظري، فبدا لها البشر ممعنين في الصغر. إنني أعتقد أنها لم تكن حتى يومنا هذا سوى التعبير المجرّد لحالة الأشياء القائمة. وهي لم تستطع التخلص من المسبقات التي أوجدتها حالة الأشياء هذه، وهي مسبقات قبلتها على أنها مطلقة"
يعلّق ماركس: إن الرأي القائل بأن الفلسفة هي التعبير المجرد عن حالة الأشياء القائمة يعود بالأصل ليس إلى السيد ادغار وإنما إلى فيورباخ، فهو أوّل من عرّف الفلسفة كتجربة تأملية وصوفية، وأقام الحجة على ذلك. ففي حين يصل فورباخ بالواقع إلى هذه النتيجة، وهي أن على الفلسفة أن تهبط من سماء التفكير النظري إلى مناطق الشقاء الإنساني (الدنيا) الواطئة (تكتسب اعتباراً وقوة أخلاقية) نجد أن السيد ادغار يعلمنا العكس، بأن الفلسفة هي عملية فوق العادة (متعالية على الشقاء الانساني).
يقول ماركس: يبدو على الاصح، بأن الفلسفة، لكونها لم تكن بالضبط سوى التعبير المتعالي والمجرد عن حالة الأشياء القائمة ، بسبب تعاليها وتجردها، وبسبب تميزها الخيالي عن العالم، ربما تصورت أنها تركت تحتها على مسافة كبيرة الأشياء القائمة والبشر الواقعيين، وأنها، من جهة ثانية ، بسبب عدم تميزها فعلاً عن العالم، وجدت نفسها في حالة يستحيل عليها فيها أن تصدر حكماً واقعياً ، وأن تحرك ضده قوة ادراك فعلية، بالتالي أن تتدخل عملياً، وإنما كان عليها الاكتفاء على أكبر حد بممارسته على مستوى التجريد (المثالية عرفت الممارسة العملية بشكل مجرد وصوفي). ولم تكن الفلسفة عملية فوق العادة إلا بمعنى واحد: فقد كانت تحلق فوق الممارسة."
بهذا الوصف كان وضع الإله في الفلسفة العقلانية الطبيعية التي تتخذ مذهب وحدة الوجود مذهباً لها، وضعاً غير مفارق وعاجز، فكون الإله متماه مع الطبيعة في وحدة فهو أعجز من أن يتدخل في العالم، أو أن يحرّك ضد هذا العالم قوة إدراك فعلية. وأقصى ما تستطيع هذه الفلسفة فعله هو الاعتراض التهكّمي والساخر تجاه العالم الذي لا نفع منه ولا أفق له. إن غياب الفارق والمسافة بين الله والعالم هو في أساس النزعة العدمية والإلحادية. وغياب المسافة تلك يجعل العقلانية الطبيعية ضرب من "الوثنية العقلية".
يقول ماركس: "النقد النقدي" الذي تذوب الإنسانية بالنسبة له في "جمهور" خال من الفكر، يزودنا بأبرز شهادة عن الصغر اللامتناهي الذي يظهر فيه البشر الواقعيون بنظر الفلسفة التأملية؛" النظرية.
يستشهد ماركس بمقتطف من فلسفة الحقوق لهيغل، ليشير إلى أن الفلسفة التأملية (النظرانية) لا تتناول الانسان إلا على سبيل التجريد.
يقول هيغل: "من وجهة نظر الحاجات (الانسان من الداخل)، إن ما هو محسوس في التصور، هو ما يسمى بالإنسان. هنا إذن، وعلى الأصح، هنا فقط يتناول البحث الانسان بهذا المعنى"
يبدو أن عبارة هيغل تضع هنا اشتراطاً لفهم الانسان على أنه "ما هو محسوس في التصور" أي حالة الوعي والشعور لدى الانسان، وهذه الحالة حسب العبارة مشروطة بحاجات الانسان.
يعلق ماركس على العبارة بالقول دون أن يتحدث عن اشتراطها بوجهة نظر الحاجات: إن الفلسفة التأملية عادة (ليس دائماً) عندما تتحدث عن الانسان لا تكون مستهدفة الملموس (الأفراد الفعليين)، بل المجرد، المعنى، الروح، الخ." هذا يعني أنها يمكنها أن تستهدف في شروط أخرى الملموس والافراد الفعليين، وهذا ما انجزه ماركس في الأيديولوجية الألمانية بوحي "سلبي" من فلسفة هيغل التأملية.
هذه القراءة لهيغل من قبل ماركس لها تبعات، ومنها ضرورة قراءة هيغل مرة أخرى. وكان ماركس قد اعتذر في مقدمات "رأس المال" عن تسرعه في الحكم على فلسفة هيغل في مخطوطات 1844؛ الاقتصاد السياسي والفلسفة (نقد جدل هيغل وفلسفته بوجه عام) يكتب بوتيجللي في تقديمه للمخطوطات: "بالتأكيد هذا هو المكان الذي أفصح فيه ماركس بالشكل الأكثر صراحة، رغم أن صياغة الامر غامضة في أحيان كثيرة، عن نقده الأساس لفلسفة هيغل" وفي الواقع كتب هذا النقد قبل البحوث عن دلالة الحاجات الإنسانية في نظام الملكية الخاصة وفي ظل الاشتراكية"
إنه يأتي بعد الفصل المعنون: الملكية الخاصة والشيوعية. أي بعد الفصل الذي يستخلص فيه ماركس نتائج تحليله للاقتصاد السياسي، وفي ضوء مفهوم العمل المضاع (العمل المغترب) ويضيف بوتيجللي: في الواقع، هذا الفصل ليس منتهياً. يبدو إذن أن ماركس قد توقف عن كتابته في الوقت الذي كان فيه قد جمع كل العناصر اللازمة لوضعه، وكانت فيه خطوط برهانه العريضة مثبتة فيه" هامش ص 76
عند هذه اللحظة يرى ماركس إلى أين يقوده تحليله للضياع ونقده عند هيغل، وقد اكتشف "نقص المبدأ" هذا في فلسفة هيغل. هكذا فإن هذا الفصل هو بشكل أخص التعميم الفلسفي للمخطوطات"
لا يركز ماركس هنا على هيغل بشكل خاص، إن فكره مشبع بالقضايا المؤقتة، والسجالات الراهنة، ونقده لنقاد هيغل من جهة اليسار (اليسار الهيغلي أو الهيغليين-الشبان) معتمداً إلى حد ما على انجاز فيورباخ "المادي". يقول بوتيجللي: "إن ماركس لدى كتابته هذه الصفحات، يفكر جوهرياً بأولئك الذين يقدمون أنفسهم على أنهم نقاد الفلسفة الهيغلية، أي الهيغليين-الشبان الذين يبين نشاطهم على وجه الضبط قصور نقدهم. ويفكر أيضاً بفويرباخ" الذي حقق، على صعيد نظرية المعرفة، القلب المادي للمثالية الهيغلية. وماركس يبرز مآثر صاحب "ماهية المسيحية" (أي فيورباخ) بالتعارض مع عجز اليسار الهيغلي. ولكن، لئن كان يوجه ضرباته ضد هذا النقد، فإنه ينتقد أيضاً دون أن يصرح بذلك قضايا فيورباخ. إن فكرماركس مشبع بالقضايا المؤقتة وب "مبادئ فلسفة المستقبل" (لفيورباخ). وهو ماركس يستخدم مفردات فيورباخ نفسها، ولكننا نرى بشكل جيد تماماً أنه من الآن يتباعد عنه. في الواقع، إن ماركس يعرض لأول مرة قواعد فكره الخاص، وينشئ أسس الجدل المادي" 76 (يترجم مرقص الديالكتيك بكلمة الجدل العربية)
يتخذ ماركس من "فينومينولوجيا الروح" لهيغل قاعدة لنقده. إن الفكرة المركزية في الفينومينولوجيا هي مفهوم الضياع الذي كان ماركس قد حلله عندما وصل إلى أصله؛ أي العمل المضاع (المغترب) ومسألة تجاوز الضياع عند هيغل هي على وجه التحديد التي تقدم له فرصة تعميق نقده للجدل الهيغلي. " 77
ومع ذلك "لا يتردد ماركس في إعلان مآثر هيغل، مبرزاً بذلك ما أتى به فكره من إغناءات إيجابية لتصور حقيقي للعالم" 77
هيغل حسب ماركس يجعل من العمل في الواقع الرأسمالي قاعدة فكره. وهيغل في نهاية المطاف يوحّد الانسان ووعي الذات، أي مع فكر فاعليته الوحيدة محض فاعلية روحية. وفلسفة وعي الذات لبرونو باور (على سبيل المثال) التي تريد نفسها نقدية، لا تفعل سوى مواصلة وتشديد هذا التصور المغلوط. الانسان موجود منتج، ولئن كان هيغل يدخل في حسابه وجوه العمل الإيجابية (المنتجة)، إلا أنه يجهل وجوهه السلبية، يجهل حالة العامل في المجتمع الرأسمالي. يبقى ضياع الانسان بالنسبة إليه، ظاهرة مجردة. يقول ماركس بهذا الخصوص: "إن ما اعتبر ماهية الضياع، أي الموضوع الواجب حذفه، ليس كون الموجود الإنساني يتموضع بشكل لا إنساني، بالتعارض مع ذاته (منسلخ عن ذاته عبر موضعة المنتوج في العمل)، بل كونه يتموضع بتمايزه عن الفكر المجرد، وبالتعارض معه" 77
إن النقص في مبدأ هيغل؛ "التصور الهيغلي لاسترجاع الضياع عبر نفي النفي" هو في حذف الموضوعية، حذف الشرط الرأسمالي والملكية الخاصة الرأسمالية المولدة للضياع الفعلي وللبؤس اللاإنساني لحالة العامل.
الخروج من الضياع عند هيغل أو نفيه، يكون بالعلم المطلق؛ فالعلم المطلق هو الوعي يسترجع إلى ذاته كل ضياعاته (في الموضوع (منتوج العمل) أو في الطبيعة)، بينما نفي الضياع عند ماركس هو مسألة ممارسة عملية سياسية تاريخية تقوم على نفي الشرط البورجوازي للإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولاحقاً نفي التوزيع البورجوازي.
يتحدث هيغل عن ضياع الروح أو "الذات" في الموضعة أو المحايثة، بحيث ينتج عن الفاعلية الذاتية للإنسان شيء-موضوع (لوحة فنية مثلاً أو سلعة)، بينما يميز ماركس هذه الموضعة او المحايثة عن الضياع والاغتراب بحكم عمل الذات العاملة في شرط رأسمالي تحكمه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
يقول بوتيجلي: إن "الذات" ونحن نتكلم بلغة هيغل، قد اغتنت بكل كثرة التحديدات التي تمكنت عن طريقها من معرفة ذاتها. ولكن العالم الموضوعي لم يعد سوى التجلي التجريدي، الغريب بحد ذاته لحركة وعي الذات، ليس له من علة وجود إلا بهذه الحركة نفسها. والنفي الذي يؤلفه استرجاع الموضعة أو المحايثة ليس إلا عودة إلى الأصل، إعادة نقطة الانطلاق في مستوى أعلى.". أي العودة إلى الذات.
ومن الملفت تشابه هذا القول مع "عينية" ابن سينا في "النفس" (الروح)، حيث يقول:
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تدلل وتمنّع
محجوبة عن كل مقلةِ ناظرٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع
فلأي شيء أهبطت من شامخ عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟
إن كان أهبطها الإله لحكمة طويت على الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لا شك ضربة لازب لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية في العالمين فخرقها لم يرقع
وفي عبارة موحية وغامضة من ماركس هي بين الاعتراض تارة والشرح والبسط تارة أخرى. يقول بخصوص هذه الحركة للروح المطلق الإنساني:
إن عودة وعي الذات المطلق إلى ذاته هي نتيجة حركة، كل هذه الحركة عند هيغل مجّانية، إلا إذا أخذت بالمعنى الظاهراتي (الفينومينولوجي) أي كيف يظهر الروح ويتموضع في الشيئية ويتحايث في حركة هابطة، ثم يعود ويصعد وعياً جديداً إلى ذاته بعد أن يكون اغتنى أكثر وتراكم كوعي جديد.
يقول ماركس معلقاً: "لذا فإن هذه النتيجة، الذات التي تعرف نفسها على أنها وعي الذات المطلق، هي الله، الروح المطلق، المعنى الذي يعرف نفسه ويتجلّى. الانسان الواقعي والطبيعة الواقعية يصبحان محض محمولات (صفات)، رموزاً لهذا الانسان غير الواقعي المخفي ولهذه الطبيعة غير الواقعية (التخيلية). الموضوع والمحمول هما إذاً في علاقة تعاكس مطلق الواحد تجاه الآخر" 78 مخطوطات.
فإذا كانت البروليتاريا من دون وعي ذاتها ووعي المهمة التاريخية المكلفة بإنجازها هي مجرد موضوع وسلعة (سلعة نيئة غير مطبوخة) تستغلها البورجوازية لمراكمة ثروتها، فإننا نفهم أن التاريخ الذي سوف تصنعه البروليتاريا الواعية لذاتها ، لا يتم من دون هذا الوعي، وفي حالة إنجازها للوعي المطلق بذاتها تكون في وضعية إلهية قادرة على صنع المجتمع الجديد والانسان الاشتراكي الجديد المتخيل ، غير الواقعي الآن والخفي والمتخيل في البرنامج الاشتراكي الديمقراطي الذي ترسمه بوعي، وتكون حركة الموضوع والمحمول معكوسة، بحيث تكون الذات البروليتارية الاشتراكية هي الحاملة للصفات المستقبلية للإنسان الجديد، وحيث يظهر الانسان خالق للطبيعة وصانع لها في حركة هابطة من السماء إلى الارض، على العكس تماماً من حركة معرفة الواقع القائم (حركة المعرفة والاستدلال الطبيعي) التي تتحرك صاعدة من الموضوع (الظواهر القائمة بالفعل) إلى الذات التاريخية الواعية. ولا يمكن تصور صنع التاريخ من قبل الذات الواعية لمهماتها التاريخية والمنظمة لصفوفها بدون هذا الديالكتيك المزدوج: صاعد-هابط. وحتى تصل البروليتاريا إلى هذا الوعي المطلق للذات ولدورها التاريخي فعليها عبر مثقفيها العضويين أن تنجز فهماً شاملاً بالنظام الرأسمالي والتشكيلة الرأسمالية، وهو ما أنجز ماركس حلقته الرئيسية الحاسمة لاحقاً عبر تأليف كتاب "رأسمال المال".
وأقول صراحة أنه من دون هذه الازدواجية في حركة الديالكتيك، لايتبقّي لنا إلا القليل لفهم فكرة ماركس التي تشرح لنا: كيف يصنع البشر تاريخهم بأنفسهم (بذاتهم الواعية)، وهذا الامر ينطبق بشكل خاص وحاسم على البروليتاريا، لأنها من دون هذا الوعي بذاتها وموقعها في عملية الإنتاج الاجتماعية، والمهمة التاريخية الموكلة لها، لن تكون سوى مجموعة من أفراد بورجوازيين صغار يتزاحمون على لقمة العيش في مجتمع بورجوازي مستغِلّ لقوة عملهم.
كما أننا من دون هذه الازدواجية، سنواجه صعوبة في مواجهة فكر الشرق، خاصة الإسلام المُحمديّ بالاعتماد على التنظير الماركسي الكلاسيكي الأساسي.
وقد نعتقد أن هيغل قد انجز تاريخياً هذا الديالكتيك المزدوج، إلا الامر لم يتعد الديالكتيك الصاعد أو محاولة تفسير تناقضات العالم البورجوازي. إن جدله المثالي إنما ينتهي فقط إلى نفي الضياعات الواقعية عبر رفع التناقضات الفعلية في الرأسمالية إلى مستوى الوعي الهيغلي. لكن وكون فلسفة هيغل فلسفة غير معنية بتحويل العالم القائم، ومغتبطة بالتفسير، فقد أعاد هذا الامر بشكل خطير مقولات التفسير الهيغلي وجعلها قاصرة، حتى في مسألة تفسير العالم الرأسمالي بالفعل، حيث بينت أن العمل في أساسه المنتج، لكنها عجزت عن تبيان أن البؤس والفقر والتمييز والاستغلال أساسه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والتي تشكل جوهر نمط الإنتاج الرأسمالي. إن خلط الطريق الهابط بالطريق الصاعد في الفكر النظري الهيغلي قائم في فكرة التصويف (التصوّف) التي ذكرها ماركس بخصوص طريقة هيغل.
كان على ماركس بعد إعادة توجيه مقولات التفسير بغرض تحويل هذا الشرط المولد للضياع والبؤس، أن يقود تفسيراً جديداً ومبتكراً للنمط الرأسمالي للإنتاج والتشكيلة الرأسمالية عبر درس دؤوب ومثابر للاقتصاد السياسي ونقده وعبر دراسة مثابرة وناقدة لمجمل ديالكتيك هيغل وللمذهب الاشتراكي الفرنسي. كان على التفسير الماركسي الجديد للعالم الرأسمالي أن يمر بكل ذلك مروراً نقدياً لا يرحم.
لقد كان هناك بعض الاستعجال في صياغة المطارحة 11 حول فيورباخ التي تقول: (الفلاسفة فقط فسروا العالم بطرق متعددة، لكن الامر المهم على أية حال هو تغييره" (ترجمة فؤاد أيوب وهو مطابق للصياغة في الطبعة الإنكليزية الصادرة عن دار التقدم)
قلنا في "خمسة دروس في الأيديولوجية الألمانية": "الفرضية 11 في صياغتها الأولى، وعبارة الأيديولوجية الألمانية الواردة أعلاه التي تحتها خط، تفترض أن العالم مُفسّر بشكل تام من قبل الفلاسفة (ممثلين بهيغل) عند مجيء ماركس إلى فضاء الصراع الفكري العالمي، بحيث لا تكون هناك ضرورة لدراسة التشكيلة الرأسمالية، بل يتوجب البدء والمباشرة بعملية تغييرها فوراً، وهذا مناقض لمجمل عمل ماركس النظري بما فيه كتابه "رأس المال""
وقلنا: إن العبور مثله مثل المخاض عملية شاقة، له مراحله المتعددة التي تستغرق فترة من الزمن يكفي لنضوجها، وهو بالنسبة إلى الماركسية سنوات عديدة. وكما أنه لا يمكن الانتقال في التاريخ الفعلي من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر بين ليلة وضحاها، كذلك لا يمكن الانتقال في تاريخ الأفكار من نظرية إلى أخرى بين ليلة وضحاها، بل لا بد من وجود مراحل انتقالية ربما خيّم عليها بعض الابهام والغموض" (الأيديولوجية الألمانية: ص 17) ) وهذا ما ينطبق على (الفرضية 11 عن فيورباخ) حيث ما يزال سحر هيغل الفيلسوف الأكبر حاضراً عبر اعتقاد ماركس أن هيغل قد فسر العالم البورجوازي الحديث في كتابه "أصول فلسفة الحق" عبر تبيانه الجانب العقلاني للدولة البورجوازية الحديثة والمجتمع المدني البورجوازي الحديث. ما يزال ماركس في هذه الفرضية مفتوناً بهيغل وعمله العظيم. يكتب هيغل في أصول فلسفة الحق: "هذا الكتاب إذن وهو يحتوي على علم الدولة، لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورة لها بوصفها شيئاً عقليا في ذاتها. ولا بد له بوصفه عملا فلسفياً، أن يكون بعيداً عن محاولة بناء دولة على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. والدرس الذي يتضمنه لا يمكن أن يعتمد على تعليم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالماً أخلاقياً. هنا رودوس هنا نقفز! (هنا الوردة فلنرقص هنا!)" (أصول فلسفة الحق ص 115)
ماركس في رده على عبارة هيغل هذه إنما يدعو لتغيير الدولة البورجوازية التي باتت لا عقلية ورجعية في السياسة والايديولوجيا، أي باتت لا أخلاقية بالمعنى التاريخي. هيغل الفيلسوف فسر واقع الدولة البورجوازية (عالم الدولة البورجوازية الحديثة) وأنا ماركس ادعو لتغييرها لكونها باتت عالما لا عقليّا ولا أخلاقيا بامتياز، لكن هذه الدعوة تطلبت من ماركس عملا تفسيريا طويلاً عميقا وشاملاً للتشكيلة الرأسمالية الحديثة والمجتمع المدني البورجوازي الذي يقوم عليه كيان هذه الدولة، وجهداً نظريا جبارا متواصلاً تُوّج بـ “رأس المال" لفهم النظام الرأسمالي بشكل "شامل وعميق" حسب تعبير هايدغر. رودوس هيغل الاغتباط بالتفسير ورودوس ماركس الاغتباط بالتفسير العميق والشامل والتغيير معا، هي نظرية ثورية وممارسة ثورية قائمة عليها حسب قول لينين الشهير: "لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية" (خمسة دروس في الأيديولوجية الألمانية)
في غموض موقف ماركس من الديالكتيك المزدوج الذي يجهضه هيغل بمثاليته وصوفيته، وجدله "التفسيري" الصاعد، ينضم ماركس (مع الاغناء والتطوير)، إلى تصور فيورباخ الذي يبين أن نفي النفي يقود إلى إعادة اللاهوت، الذي كانت الفلسفة الهيغلية تزعم أنها نفيه. ولكن برهانه أكثر نفاذاً إلى عمق الأشياء. وهذا أمر طبيعي طالما أن المبدأ المنظم لتفسير الواقع الرأسمالي القائم ومعه البؤس هو مبدأ الممارسة العملية والتغيير. وقد لاحظنا أن فكراً موجهاً نحو التغيير التاريخي للشرط القائم أكثر عمقاً بما لا يقاس من فكر مغتبط بالتفسير في هذا اليوم، صارفاً التغيير إلى يوم القيامة أو اليوم الآخر. ليس فقط باسم المادية ينتقد قلب الواقع الذي يمثله المذهب الهيغلي، بل باسم جدل الواقع (والذي يفترض أن يكون جدلاً مزدوجاً)، الجدل الذي يتجلى في التاريخ والمجتمع. والتاريخ هنا ليس عبرة الماضي فقط، بل مآلات المستقبل ووضع خطة منظمة للتغيير التاريخي الاجتماعي. إن التاريخ بالنسبة لهيغل، بحكم مبدئه ذاته، يؤول إلى إلغائه، إلى حلّه في الروح المطلق، لأن الممارسة العملية عنده هي ممارسة ذهنية، لعبة وعي، رفع التناقضات القائمة في الواقع إلى مستوى العقل وتلاشيها هناك من دون أي فعل تاريخي فعلي. هذا الرفع ينجزه الفيلسوف وهو في مكتبه يتأمل حركة الواقع. بينما تحليل الفاعلية الإنسانية عبر وعي البروليتاريا لذاتها ودورها وما هي مكلفة تاريخياً بإنجازه، يظهر ضرورة الانتقال إلى مستوى أعلى؛ الانتقال من النظام البورجوازي إلى النظام الاشتراكي. يقول ماركس: لقد حذف هيغل واسترجع (عبر مقولة وعي الذات) في ذاته هذا الضياع وهذه الموضوعية، وأنه بالتالي موجود في وجوده الآخر، بوصفه وجوداً آخر قريب من ذاته" 80 مخطوطات
إذن إن مبدأ الفلسفة الهيغلية ذاته هو الذي يقود إلى هذه الحماقة. وفقط التحليل الجدلي للواقع الذي عمد إليه ماركس منذ ذلك الوقت وحتى إنجاز رأس المال، كان قادراً على جعله يكتشف هذا التهافت وهذا التفكك في تفسير هيغل.
إن انعكاس الواقع الذي زعمت فلسفة هيغل اعطاءه، لم يكن في الأساس إلا ظاهرياً. كان انعكاساً معكوساً مزيفاً لأنه كان يرتكز على مبدأ يحرم نفسه أخذ حساب الواقع الحقيقي بكل تناقضاته وبؤسه. يقول ماركس: هكذا ليس ممكناً بعد الآن الحديث عن تنازلات قدمها هيغل للدين، للدولة (القائمة) لأن هذه الاكذوبة هي أكذوبة مبدئه ذاته" 81 مخطوطات
كل هذا الكلام لا يقلل من شأن هيغل وخطره في رأي ماركس. فما أنا "إلا تلميذاً لهذا المفكر العملاق". هذا ما قاله ماركس لاحقاً في مقدمة "الرأسمال".
بالعودة إلى برودون يقول ماركس: إذا تكلمنا بالألمانية: الملكية الخاصة هي وجود المساواة المستلبة (نفي المساواة) المتناقضة مع نفسها، الغريبة عن نفسها. إن الوضع الواقعي للضياع في فرنسا، وكذلك إدراك (وعي) هذا الضياع، يوجهان برودون بحق نحو الإلغاء الفعلي للملكية الخاصة. هكذا يتطلب إلغاء الملكية الخاصة أوضاعاً وشروط مواتية، ويتطلب وعياً بالضياع الذي تخلقه بهيمنتها.
إن برودون مع انكاره للملكية الخاصة، يشعر بالحاجة لتبرير وجودها تاريخياً. وككل التحليلات الأولية من هذا النوع، فإن بحثه ذرائعي (ذو مصلحة). إنه يفترض أن الأجيال الماضية قد أرادت، بصورة واعية ومتبصرة، أن تحقق في مؤسساتها المساواة، التي تمثل في نظره الجوهر الإنساني. إننا نكرر هذا باستمرار: إن برودون يكتب لمصلحة الكادحين، لا لمصلحة "النقد" المعجب بنفسه، إنه لا يكتب لمصلحة مجردة ومصطنعة، بل لمصلحة تاريخية حقيقية، مصلحة "الجمهور"، مصلحة تقود إلى الازمة، إن برودون لا يكتب فقط لمصلحة الكادحين، إنه هو نفسه كادح، عامل. إن كتابه "ما هي الملكية " هو بيان علمي للبروليتاريا الفرنسية، ولهذا يحمل معنى تاريخياً يختلف كل الاختلاف عن المحاولات الأدبية الفاشلة التي يقوم بها فلان من الناس "النقد النقدي". واضح هنا تقريظ ماركس لبرودون، ولسوف يقوم لاحقاً بنقده بشدة بعد سنوات ثلاث في "بؤس الفلسفة" ورداً على "فلسفة البؤس لبرودون". حيث يصدر ماركس حكماً على برودون في نهاية الكتاب، في رسالة مؤرخة بتاريخ 24 يناير-كانون الثاني 1865، بعث بها ماركس إلى ج. ب شوايتزر، وهو العام الذي توفي فيه برودون، يقول فيها:
سيدي العزيز: تلقيت أمس خطابك الذي تطلب فيه مني حكماً تفصيلياً على برودون.
كتابه الأول "ما هي المُلكية؟" هو بلا منازع أفضل كتبه، فهو كتاب كان فاتحة عصر، إن لم يكن من أجل جدة محتوياته فعلى الأقل من أجل الطريقة الجديدة الجريئة التي يقول بها أشياء معروفة. بالطبع لم تكن الملكية قد انتقدت فحسب بمختلف الطرق في كتابات الاشتراكيين الفرنسيين الذين كان يعرف كتاباتهم بل قضى عليها بالأسلوب الطوباوي، وتبدو صلة برودون في كتابه هذا بسان سيمون وفورييه أشبه بعلاقة فيورباخ بهيغل. ففيورباخ فقير إلى أقصى حد بالمقارنة بهيغل، ورغم هذا فقد كان فاتحة عصر بعد هيغل لأنه أكد نقاطاً معينة لم تكن مقبولة لدى الوعي المسيحي لكنها هامة بالنسبة لتقدم النقد الفلسفي، وهي نقاط تركها هيغل في شبه غموض صوفي.
يسود كتاب برودون هذا أسلوبه القوي ذو العضلات إذا جاز هذا التعبير، وأسلوب الكتاب في نظري هو ميزته الكبرى. ونحن نرى أنه حتى حيثما كان برودون يعيد عرض مواد قديمة فقد كان يكشف عن أن ما يقوله جديد بالنسبة إليه، ويستخدمه باعتباره جديداً.
إن ذلك الاقدام المستفزّ تجاه "قدس الاقداس الاقتصادي"، وهذه المفارقات الذكية التي يسخر بها من الحس البورجوازي المشترك، ونقده الكاسح، وسخريته المريرة، وذلك الشعور العميق بالسخط على دنس الوضع القائم الذي يكشف عن نفسه هنا وهناك وحماسه الثوري، هذا ما يفسر التأثير الكهربي، تأثير الصدمة، الذي أحدثه كتاب "ما هي المُلْكية؟" فور ظهوره. ولا يكاد الكتاب يستحق الذكر في تاريخ علمي دقيق للاقتصاد السياسي، لكن الكتابات المثيرة تلعب دورها في العلوم تماماً كما في الادب. فنأخذ مثلاً كتاب مالتوس "بحث عن السكان" لم يكن هذا الكتاب في طبعته الأولى سوى كتيب مثير، بل ومنتحل باسره بالإضافة إلى هذا، ورغم هذا فأية صدمة سببها هذا القذف (والسب) للجنس البشري.
تبدو نقيضة الكتاب من عنوانه ذاته. فقد صيغ السؤال بطريقة خاطئة بحيث لم يكن أن يجاب عنه بطريقة صحيحة. "فعلاقات الملكية" القديمة قد حلت محلّها الملكية القديمة، وحلت محل هذه الأخيرة الملكية البورجوازية. ومن هنا فقد اخضع التاريخ ذاته علاقات الملكية السابقة للنقد. وما كان برودون يتناوله هو في الواقع الملكية البورجوازية الحالية. ولم يكن في الوسع الإجابة عما هي هذه الملكية إلا بتحليل نقدي للاقتصاد السياسي يشمل علاقات الملكية هذه في مجموعها، لا في تعبيرها القانوني كعلاقات إرادية، بل في شكلها الواقعي كعلاقات إنتاج. ولما كان برودون قد دمج كل هذه العلاقات الاقتصادية في المفهوم القانوني عن الملكية (الشكل القانوني) فإنه لم يكن يستطيع أن يمضي إلى أبعد من الإجابة التي قدمها بريسو – وقبل عام 1789 – في كتاب مماثل وبالكلمات عينها: "المُلْكية هي السرقة"
يقول ماركس: وخلال إقامتي في باريس في عام 1844 ارتبطت بعلاقة شخصية ببرودون. وأنا أذكر هذا الظرف لأني مسؤول إلى حد ما عن "تحريفاته" وهي كلمة يستخدمها الإنكليز للإشارة إلى غش البضائع التجارية –ففي مجرى مناقشات طويلة، كثيراً ما دامت الليل بأكمله، أصبته -لسوء حظه-بعدوى الهيغلية التي لم يكن يستطيع أن يدرسها بعمق لافتقاره إلى معرفة الألمانية. وبعد طردي من باريس واصل كارل غرون ما بدأته، وكانت لهذا الأخير ميزة عليّ كمدرس للفلسفة الألمانية هي أنه هو نفسه لا يفهم عنها شيئاً.
وقبيل ظهور كتاب برودون الثاني أعلن لي هذا الخبر بنفسه، في خطاب مفصل كان من بين ما قاله لي فيه: "أنا انتظر سوط نقدك" وسرعان ما هوى عليه هذا السوط (في كتابي "بؤس الفلسفة" باريس 1847) بطريقة أنهت صداقتنا إلى الأبد.
يقول ماركس: إن كتاب برودون "فلسفة البؤس أو مذهب التناقضات الاقتصادية" هو الذي حوى للمرة الأولى بالفعل إجابته عن سؤال: "ما هي المُلْكية؟" والواقع أن برودون لم يبدأ دراساته الاقتصادية إلا بعد نشر كتابه الأول، فوجد أن السؤال الذي طرحه لا يمكن أن يجاب عنه بالسباب بل بتحليل للاقتصاد السياسي الحديث. وقد حاول في الوقت عينه أن يعرض مذهب المقولات الاقتصادية جدلياً، ومحل نقيضته التي كان لا حل لها أدخل التناقض الهيغلي كوسيلة للتطور." (بؤس الفلسفة ص 275-280. راجع ايضاً مراسلات ماركس –انجلز ص 176)
يقول ماركس: كانت هجمات برودون على الدين والكنيسة فضيلة كبيرة في فرنسا في وقت كان الاشتراكيون الفرنسيون يتباهون فيه بمشاعرهم الدينية كميزة على الفولتيرية البورجوازية في القرن الثامن عشر والإلحاد الألماني في القرن التاسع عشر. وإذا كان بطرس الأكبر قد هزم البربرية الروسية بالبربرية فقد بذل برودون أفضل ما في وسعه لهزيمة العبارات الفارغة الفرنسية بالعبارات الفارغة" (بؤس الفلسفة 286)
يقول ماركس في آخر الرسالة: لقد عهدتَ إليّ بدور القاضي .. بعد وقت قليل من وفاة الرجل: وعليك الان أن تتحمل المسؤولية." (المخلص كارل ماركس) ص 288
يقول ماركس: بحسب السيد ادغار، الاقتناء وعدم الاقتناء هما في عرف برودون، مقولتان مطلقتان. إن "النقد النقدي" لا يرى في كل مكان إلا مقولات، وهكذا على حد قول السيد ادغار، فإن الاقتناء وعدم الاقتناء (الأجر، المكافأة، الشقاء والحاجة، العمل لإشباع الحاجة)، ليست سوى مقولات. ولكن، لما كان عدم الاقتناء ليس مجرد مقولة وإنما هو حقيقة مؤسفة كل الأسف، وكان الانسان الذي لا يملك شيئاً، في يومنا هذا، لا يساوي شيئاً، ولما كان هذا الانسان منقطعاً عن الوجود، على وجه العموم، ومن باب أولى عن الوجود الإنساني، وكانت حالة عدم الاقتناء هي حالة الانفصام التام بين الانسان وحقيقته الموضوعية، فإنه يبدو أن لعدم الاقتناء (الحرمان) ملء الحق بأن يكون باعتقاد برودون، الموضوع الأول للتفكير، لا سيما وأن قبله وقبل الكتّاب الاشتراكيين لم يجر التفكير بهذا الموضوع إلا قليلاً".
يقول ماركس: إن عدم الاقتناء هو الروحانية الأكثر يأساً، إنه وهمية الانسان التامة، الوجود الحقيقي التام لما هو لا إنساني، امتلاك إيجابي جداً للشعور بالجوع والبرد، امتلاك الامراض والجرائم والخزي والخبل؛ امتلاك اللاإنسانية التامة والانحراف التام عن الطبيعة. وذلك أن كل موضوع تملك الوعي التام بأهميته، والذي يصبح للمرة الأولى موضوع التفكير، يشكل بذلك الموضوع الأول للتفكير.
إن القول بأن برودون يريد إزالة عدم الامتلاك والنموذج القديم للامتلاك، هو تماماً بأنه يريد أن يلغي حالة الضياع الواقعي للإنسان بالنسبة لجوهره الموضوعي.
هذا الضياع الواقعي لجوهر الانسان الموضوعي (وجود الافراد الواقعيين) هو التعبير الاقتصادي للضياع الذاتي للإنسان. ولكن لما كان نقد برودون للاقتصاد السياسي لا يزال أسير للمسبقات في الاقتصاد السياسي، فإن إعادة امتلاك العالم الموضوعي نفسه تبقى متصورة على الشكل الذي تتخذه الحيازة في الاقتصاد السياسي" 75
يضيف ماركس: في الواقع إن برودون لا يواجه الامتلاك وعدم الامتلاك، كما يدّعي "النقد النقدي" إنه يفعل ذلك، بمقابلة الحيازة (نموذج التملك القديم) بالملكية الخاصة البورجوازية الحديثة. إن الحيازة هنا "وظيفة اجتماعية" والشيء الهام في وظيفة ما، ليس الطرد، وإنما هو تشغيل القوى الذاتية الأساسية وتحقيقها. إن برودون لم ينجح في توسيع هذه الفكرة بشكل ملائم. إن فكرة الحيازة بالتساوي تعبر بلغة الاقتصاد السياسي، بالتالي ايضاً بلغة الضياع، عن أن الموضوع كوجود بالنسبة للإنسان (وجود الانسان الآخر الموضوعي بالنسبة لي) هو في الوقت نفسه وجود الانسان بالنسبة للإنسان الاخر، علاقته الإنسانية بالآخر، السلوك الاجتماعي للإنسان بالنسبة للإنسان. إن برودون بفكرة الحيازة بالتساوي يلغي الضياع الاقتصادي في إطار الضياع الاقتصادي" 75
نشير إلى استخدام حنا عبود في ترجمته "العائلة المقدسة " لفظة "الاغتراب" بدل لفظة "الضياع " في هذه الترجمة لرزق الله هيلانه.
والحيازة هي وضع اليد على ملكية خاصة لآخر، يسيطر الحائز بموجبه عليها بنية استعمالها مثله كمثل المالك. لدينا وضعان: ملكية خاصة أو ملكية دولة، وحيازة لهذه للملكية.
كانت الحيازات المتساوية أو المُلْكية الأميرية (ميري) توزع بشكل سنوي ومدوّر على الفلاحين، وكانت تخفي وراءها ملكية الاقطاعات الخراجية. الحيازة تُقنِّع الملكية الخاصة، ولا تلغيها، بالتالي لا تستطيع بوجودها إعدام وجود الملكية الخاصة التي تشكل أس الضياع (الاغتراب).