استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--1
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8077 - 2024 / 8 / 22 - 16:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
القسم الأول
حول كتاب لينين "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، أو "المادية ومذهب التجريبية النقدية" أو "المادية والنقد التجريبي"، "المادية ومذهب نقد التجربة" كلها عناوين لشيء واحد.
فقد كتبه لينين في حقبة هامة جداً بالنسبة للحركة العمالية الروسية والعالمية. فأوروبا برمتها كانت ترزح تحت تأثير االثورة البورجوازية –الديمقراطية الأولى التي نشبت في روسيا بين 1905-1907. وبالرغم من أنه لم يكتب لها النصر، كان لا بد لها أن تؤثر تأثيراً عظيماً في التطور اللاحق لروسيا وفي تطور الحركة الثورية العالمية. فلأول مرة في التاريخ تسلمت البروليتاريا دفة القيادة في الثورة البورجوازية-الديمقراطية. وتجلى للعيان بأنها هي وحدها المناضل الثابت من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم الاجتماعي. وبذلك تأكد تقرير لينين الوارد أثناء الثورة في كتابه "خطتا الاشتراكية –الديمقراطية في الثورة الديمقراطية"
كانت ثورة 1905 وفشلها هي الدافع وراء تأليف كتاب لينين، وكانت "أزمة العلوم الطبيعية" نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وظهور التحريفية في الحركة الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية (برنشتاين)، هي وسيلة المثقفين البورجوازيين للهجوم على النظرية الماركسية والزعم بأنها قد تخلّفت وشاخت مستغلين جو التخاذل والقنوط والخيبة. وفي جو البلبلة هذا شجعت الحكومة القيصرية ودعمت "بث نظريات "ضبابية" دينية (رجعية) تكن العداء للنظرية الثورية الماركسية"
وقد حلل لينين بالتفصيل في هذا الكتاب الذي ألفه في نيسان 1908، نشوء التحريفية في الحركة العمالية العالمية"
وبين أن التحريفية ظاهرة عالمية وبين جذورها الطبقية. وهي ظاهرة عالمية يرتبط نشوؤها بوثوق بالتطور الجديد للرأسمالية (الطور الامبريالي). يقول في مقالة له نشرت خريف 1899 "الان ترتفع في كل مكان أصوات تقول بأن هذه التعاليم (تعاليم ماركس وانجلز) لا تكفي وبأنها قد شاخت"
يكتب لينين: "نحن (الماركسيين) لا نعتبر أبداً نظرية ماركس شيئاً كاملاً لا يجوز المساس به، بل إننا مقتنعون على العكس، بأنها وضعت حجر الزاوية فقط لذلك العلم (الاجتماعي-التاريخي) الذي يترتب على الاشتراكيين (الماركسيين) أن يدفعوه إلى أبعد مدى في جميع الاتجاهات، إذا شاءوا ألا يتأخروا عن موكب الحياة"
إن مبدأ الإخلاص المطلق للنظرية الماركسية والموقف الخلاق والمنتج والبحث المثابر الذي ينتج كعاقبة للمبدأ الأول (الاخلاص) هو ما يميز المؤلف الفلسفي للينين (المادية والمذهب النقدي التجريبي)
أما فيما يتعلق "بأزمة العلوم الطبيعية" فالأمر يتعلق باختصار بما يلي: ارتباطاً بسلسلة الاكتشافات الهامة للفيزياء في نهاية القرن التاسع عشر، تحطمت صورة العالم المادية العفوية (المادية الطبيعية العفوية) عند العديد من علماء الطبيعة، الصورة التي كانوا يؤمنون بها سابقاً، وظهرت غير قابلة للتوافق مع النشاط الاشعاعي، والاشعاعات، والمجال المغناطيسي وغيرها، لأن صورة العالم هذه كانت تستند في الجوهر على تصور وحيد الجانب، المادة هي شيء ملموس Stof لا غير، أو كتلة بكل بساطة. وعند اكتشاف الالكترون والانشطار الاشعاعي ظهر وكأن العالم كله قد تحطم وتطاير. وظهر أن الذرة، التي كانت على ما يقارب القرنين ثابتة غير قابلة للانشطار، تنحل إلى كهربة وشوارد.
نلخص ما سبق بما يلي:
1-أن صورة العالم تستند إلى تصور معين لمفهوم المادة
2-أن هذا التصور وهذا المفهوم يتطور تبعاً لتطورات الكشوف العلمية الجديدة
3-أن لصورة العالم تاريخ وكذلك لمفهوم المادة، هو تاريخ تطور العلوم. فكل كشف علمي جديد يغير من مفهوم المادة ويوسع من مداه
4-كلما توسع فهمنا للمادة وتعمق انتقلنا أكثر من المادية العفوية الطبيعية (الميكانيكية والبيولوجية) إلى المادية التاريخية، وقد توصلنا إلى نتيجة حاسمة: أن للمادة ومفهومها تاريخ تطور كما جميع الأشياء التاريخية المتطورة. لأن معرفتنا بالطبيعة تتعمق باستمرار.
5-إن الاكتشافات العلمية الجديدة أظهرت صوراً وأشكالاً جديد للمادة وحطمت الصورة النمطية القديمة. هكذا يتوصل لينين وقبله انجلز إلى أن الطبيعة (physics) ظهور كما قال أرسطو من قبل.
ففي كراس "مدخل نقدي إلى كتاب انجلز "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية “تعليق ملفت لانجلز يقول فيه: "ليس الذنب ذنب فيورباخ إذا كان المفهوم التاريخي عن الطبيعة الذي غدا الان ممكناً (1886) والذي قضى على كل ما اتسمت به المادية الفرنسية من ضيق، قد بقي في غير متناوله". إن معنى هذا المفهوم يصلنا بفكرة أرسطوطاليس عن الطبيعة (physic) بوصفها ظهوراً (Docetism)، و"ظهور" يعني تطور معرفة الانسان بالطبيعة وظهورها وتجليها بوصفها شأناً تاريخياً. (مدخل نقدي)
وهذا ما توصل إليه لينين في كتاب "المادية ومذهب النقد التجريبي". نقرأ في "المادة كما ترى اليوم": "المادة التي اقتضت بنيتها بحق وجود الذرة لها هي الأخرى (الذرة) بنيتها أيضاً، وهي بدورها يجب أن تدرس، عند ذلك اجتاز العلماء حاجزاً مهمّاً تخلقه التصورات والمفاهيم. وفجأة لم تعد الطبيعة (المادة) شيئاً يمكن ردّه وتفسيره ببنيات أولية (دقائق) يمكن أن نعيد بها بناء كل شيء. لقد أصبحت الطبيعة كالزمن، غير ممكن استنفادها. فنواة الذرة كانت ثغرة معنوية في هذا الحاجز. إ ّن الكبت الفكري وضغط التصورات السائدة كان يقف عقبة أمام تلك الفكرة العظيمة، وهي أن الطبيعة لا يمكن استنفادها"“لقد بدأت الطبيعة فجأة، في هذه المرحلة، غير ممكن استنفادها. إنها فكرة قويّة، موجودة منذ هيغل (وفكره التاريخي) وقد عاد إليها الماركسيون، ففي مكان ما (المادية والمذهب النقدي التجريبي) قرأت عن لينين قوله: "إن الإلكترون أيضاً كالذرة لا يمكن استنفاذه. إ ّننا لن ننتهي من ذلك. وفي هذا عقبة كبيرة أعتقد أن الفيزياء قد ساعدت على اجتيازها ""“. أليس التساؤل عن خلقُ العالم هو طريقة في التصدي لفكرة المادة، وهل الحديث عن أصل المادة مشروع. بعبارة أخرى أمن الممكن أن نقول أنّ للمادة تاريخاً؟" اليوم تتجمع إيضاحات بأن للكون تاريخاً وللمادة تاريخاً" (المادة كما ترى اليوم)
واستغلت صعوبة المعرفة في مجالات المعرفة الطبيعية بشكل واسع من قبل الفلسفة البورجوازية، خاصة الوضعية المعادية لمبدأ النفي، ومن قبل دعاة التحريفية منكري المنطق الديالكتيكي وعلى رأسهم برنشتاين في الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية.
وهذا الموقف الفلسفي البورجوازي ومعه الموقف التحريفي يتضمن بالأصل فهماً مبتذلاً وسطحياً للمادية الماركسية، فهماً يحبسها في "مادية طبيعية" مبتذلة وضيقة. ويجعل من "نظرية الانعكاس المادية الطبيعية " مبدأ لها.
هذه المفارقة نجدها في كتاب لينين، مفارقة بين تصور الطبيعة على أنها تاريخية التطور وأنها ظهور يطرح صوراً وأشكالاً جديدة مع تقدم العلم وتطوره وبين فهم للمعرفة يقوم على نظرية الانعكاس المادية الطبيعية-البيولوجية دون مراعاة أن هذا الفهم المحدود والضيق يقوّض الفهم المادي للتاريخ أو المادية التاريخية للماركسية.
هذه بعض الظروف التاريخية لتأليف الكتاب. أما عن الأسباب المباشرة فنحن نعرف أن لينين قد كتب مؤلفه "المادية والنقد التجريبي" في الفترة الواقعة ما بين شباط وتشرين الأول من عام 1908، ونشر لأول مرة في مارس آذار من عام 1909 كطبعة منفردة. وكان مهتماً بإصداره بسرعة. وقد شرع في تأليفه أثناء لجوئه إلى سويسرا، وبسبب عدم توفر المصادر الضرورية في مكتبات جنيف سافر في مارس من عام 1908 إلى لندن، بغية دراسة المصادر العلمية والفلسفية الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني (عرض كتاب المادية)
لكن يمكننا الاستدلال على سبب تسرعه في انجاز الكتاب بالاعتماد على رسائله في تلك الفترة.
ففي رسالة مؤرخة بتاريخ 16 / 3 / 1908 الذي أرسلها إلى غوركي يقول فيها فيما يقول: بسبب هذه الفلسفة أقف نوعاً ما مع AL..AL (المقصود بوغدانوف واسمه الحقيقي: الكساندر الكساندروفيتسو مالينوفسكي) على أهبة الحرب. لقد تركت الجريدة بسبب ولعي الفلسفي، اليوم أقرأ لأحد النقاد التجريبيين، واشتم مثل بائعة في السوق. وغداً أقرأ لآخر وألعن مثل سائق عربة" (عرض كتاب المادية) وفي إحدى الرسائل التي أرسلها لينين إلى غوركي بتاريخ 25/2/1908 يخبره بأنه مشغول بأحد الكتب الذي صدر في بداية عام 1908 في روسيا والذي يسمى (مساهمات في الفلسفة الماركسية). لقد أثارته هذه المساهمة التي تتضمن كل شيء ما عدا الفلسفة الماركسية. ومؤلفو "المساهمات" كانوا كلهم من أنصار الاشتراكية -الديمقراطية الروسية من المثقفين وقسم منهم بلاشفة.
وقد كتب لينين بحذر: "أنا لا أعتبر نفسي متمكناً بقدر كاف في هذه القضية، لذا لا أتسرع بالظهور في الصحافة. لكنني تتبعت دائماً نقاشاتنا الحزبية حول الفلسفة بانتباه".
يذكّر لينين غوركي بجدالاته الفكرية التي جرت مع الشعبيين وبالنزاعات الأخرى في السنوات السابقة (خلافه مع بليخانوف حول استراتيجية الاشتراكية-الديمقراطية الروسية في الثورة الديمقراطية، وخلافه مع مارتوف حول قضايا تنظيمية حزبية وخلافاته مع تروسكي حول "الثورة الدائمة"). ويذكر بالأعمال الفلسفية لبوغدانوف، وخطأ آرائه. في البداية ابتعد عن النقاشات الفلسفية، لكن بعد فشل ثورة 1905 -1907 وجو الإحباط والتشاؤم الذي تلي ذلك، لم يعد يستطيع أن يتخذ نفس الموقف اللامبالي الآن تجاه الجدالات الفلسفية كما يعبر بذلك لغوركي. لا يستطيع الماركسي ألا يشغل نفسه بالفلسفة في زمن الثورة المضطرب. وفي رسالة إلى غوركي قال لينين: لقد كتب بوغدانوف في السجن سنة 1906 كتاباً آخر –أعتقد أنه الكتاب الثالث للـ "أحادية التجريبية"-في صيف 1906 أرسله إلي. وبدأت أقرأه بانتباه. بعد أن قرأته انتابتني موجة غضب عنيفة، لقد تجلى لي بشكل أوضح بأنه يسير في طريق خاطئ في الأساس، طريق غير ماركسي. وكتبت له حينذاك "رسالة حب"، رسالة صغيرة حول الفلسفة بحجم ثلاثة دفاتر. ونازعته فيها. ولأنني طبعاً في الفلسفة ماركسي بسيط فقط، لكن أعماله الواضحة، الشعبية المكتوبة بصورة جيدة جداً أقنعتني نهائياً بأن لبليخانوف في جوهر القضية الحق، وليس له أي حق." (عرض كتاب المادية)
ويتابع لينين رسالته إلى غوركي: وعرضت نفس الدفاتر على بعض الأصدقاء (منهم لونتشارسكي مفوض الثقافة لاحقاً في أول حكومة للسوفيتات)، وولد عندي فكرة نشرها تحت عنوان (ملاحظات ماركسي بسيط حول الفلسفة) لكنني لم أتمكن من ذلك. والآن أنا نادم لكوني لم أعمل على طبعها آنذاك. والآن نشرت (مساهمات في الفلسفة) لقد قرأت كل المقالات، ما عدا مقالة سافاروف (أقرأها الآن). وعند قراءة كل مقالة يتملكني الغضب، كلا، هذا ليس ماركسياً! وأصحابنا النقديين التجريبيين، أصحابنا الأحاديين التجريبيين، وأصحابنا الرمزيين التجريبيين، يسيرون باستقامة إلى المستنقع. يريدون أن يقنعوا القارئ بأن الاعتقاد بواقعية العالم الخارجي هو "تصوف" (بازاروف)، ويشابكون المادية والكانطية بشكل أكثر خزياً (بازاروف وبوغدانوف) ويوعظون بأحد أنواع اللاغنوصية (اللاعرفانية النقدية التجريبية)، وأحد أنواع المثالية (الأحادية التجريبية) –يُعلمون العمال "الالحادية الدينية" وتأليه أسمى الطاقات الإنسانية (لونتشارسكي) – يعلنون أن تعاليم انجلز عن الديالكتيك هي تعاليم متصوفة (برمان). يغرفون من البئر النتنة لأية "وضعية" فرنسية، من أي لا غنوصي، أو ميتافيزيقي، ليأخذهم الشيطان مع نظرية معرفتهم الرمزية (يوشكوفيتش) كلا، إن هذا لكثير! بالطبع نحن الماركسيين البسطاء لسنا متضلعين في الفلسفة، لكن لماذا يعاملوننا بهذا الأسلوب، ويقدمون لنا مثل هذه الأشياء بوصفها فلسفة ماركسية!" (عرض كتاب المادية)
هذا هو مزاج لينين بعد اطلاعه على (مساهمات في الفلسفة) لبعض رفاقه في الحزب، وهم في غالبيتهم أعضاء قياديين في حزب العمال الاشتراكي-الديمقراطي في روسيا. وهذه هي الأسباب المباشرة والمستفزة التي جعلت لينين يبادر لكتابة "المادية والنقد التجريبي".
مراجع القسم الأول
1-هانيرش أوبتنر: المادية والنقد التجريبي (عرض وقراءة لكتاب لينين) ترجمة عيسى عبد الرضى، دار ابن خلدون 1981 (الطبعة الألمانية عن دار ديتز للنشر برلين 1975)
2-المادة كما ترى اليوم -أحاديث أجراها إميل نويل مع عدد من الباحثين، ترجمة وائل الأتاسي منشورات وزارة الثقافة دمشق 1985
3-نايف سلوم: كتاب المعجزة، الشذرات والنكت في السيرة المحمدية. 2022
4-نايف سلوم: مدخل نقدي إلى كتاب انجلز "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية"، نشر "فاعل"
5-اينين: المادية والمذهب النقدي التجريبي، ترجمة دار التقدم 1981