-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-1


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8154 - 2024 / 11 / 7 - 13:34
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

إهداء
إلى سقراط
برزخ الفلسفة اليونانية وحادثها الأكبر
مؤسِّس روح العِلْم
به كان ما قبله وكان ما بعده
نقدم هنا استعراضاً نقدياً وتعليقات
على مقدمة الدكتور أحمد فؤاد الأهوانيّ في كتابه
"فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط"
استعراض نقدي-1
أريد لفت انتباه القارئ العربي إلى أهمية تأليفات وترجمات الدكتور أحمد فؤاد الاهواني، والاشارة إلى ما يتمتع به من اجتهاد علمي وحرص على تقديم كل ما هو مفيد في الثقافة اليونانية. وعلى هذا الأساس كانت هذه الملاحظات النقدية والتعليقات على مقدمة كتابه الهام "فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط" منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2009
المقدمة مؤرخة: جامعة القاهرة سنة 1954 وهي مقسمة إلى قسمين: الأوّل مرقّم بحروف الابجدية العربية في نظامها القديم: أبجد هوّز حطّي كلمون، حيث تشتمل على الحروف من الالف (1) حتى الياء (10)
والقسم الثاني مرقّم بأرقام أعلى الصفحة من (1-45) ومقسّم بعبارات مرقّمة ضمن قوسين متوسطين من [1] إلى [25] فقرة لتنتهي المقدمة بخريطة قديمة تُظهر إقليم أيونيا اليوناني والجزر المقابلة له على الساحل الغربي لآسيا الصغرى (تركيا الحالية) ويبدو أن إقليم أيونيا هو الذي أعطى بلاد الاغريق اسمه العربي الشهير (اليونان) أي الأيونيين. حيث يضم الإقليم أشهر المدن التي خرج منها فلاسفة اليونان قبل سقراط. فـ أنكساجوراس من قلازومينيا، وهيراقليطس من أفسُس، وفيثاغورس من جزيرة ساموس، والمدرسة الايونية التي تضم طاليس، انكسمندريس، وأنكسمانس هم جميعاً من مدينة ملطيّة، ولذلك تعرف المدرسة باسم مدرسة ملطية. وقد أطلق عليهم أرسطو اسم الطبيعيين الاولين، لأنهم اعتبروا العناصر المادية مبدأ أول أي قالوا بأولية الاسطقس أو العنصر في الوجود، لذلك ضم إليهم هيرقليطس (مع اختلافه عنهم) باعتبار أنه قال بالنار مبدأ أول. وقد يطلق على المدرسة اسم المدرسة العلمية وتارة المدرسة الطبيعية.
تبدأ المقدمة بالتقرير الهام التالي: "الفكر البشري كل لا يتجزأ، ترتبط حلقاته، ويتطور من الماضي إلى الحاضر بحيث لا يتيسر فهم المذاهب الحديثة إلا حين تُرَدّ إلى أصولها التي نشأت عنها" وهذا معناه تماماً أن حقيقة الفهم العلمي لا يتم إلا بفهم تاريخ العلم، وكذلك الفلسفة وهذا ما أشار إليه هيغل ليدلل على أن الديالكتيك قوة انتاج عقلية بشرية متراكمة منذ فجر التفلسف، وأعطى تاريخها طابع الحلقات المتتالية المترابطة. وهي الملاحظة التي ذكرها لينين لمناسبة تلخيصه منطق هيغل. إن الحلقة المتقدمة تشرح معنى الافقي والعمودي في تاريخ الفلسفة أي المتزامن والمتتابع في هذا التاريخ. يقول لينين: "إن المعرفة المصورة بسلسلة من الحلقات، قد حددها كل من هيغل (راجع "المنطق") وبول فولكمان، "الغنوصي" العصري في العلوم الطبيعية، الاختياري، خصم الهيغلية (التي لم يفهمها!) راجع كتابه "أسس نظرية لمعرفة العلوم الطبيعية وعلاقتها بحياة عصرنا الروحية " (لينين: حول الديالكتيك 1915) والحلقات في الفلسفة لا تفترض حقاً تسلسل تاريخ الأشخاص. يسأل لينين: "هل تسلسل تاريخ الأشخاص ضروري حقاً؟ ويجيب: كلا!" (حول الديالكتيك)
هكذا حتى نعود إلى "الأصل الاول" كما يقول الاهواني، مع التباس فكرة الأصل أصلاً. وضمن هذا الالتباس لفكرة الأصل يقول: "الأصل الأول للفلسفة بمعناها الذي اصطلحنا عليه ظهر في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وظل ينمو حتى بلغ ذروته عند سقراط ثم افلاطون وأرسطو"
وتحت ضغط نزعة "المركزية الأوروبية " أغفل الأهواني حلقتين حاسمتين من حلقات التفلسف العالمي وهما "حلقة" الإسكندرية، و"حلقة" الفلسفة الإسلامية العربية.
ينتقل الاهواني بقفزة واحدة من أرسطو إلى عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، حيث يقول: "وقد تجدد الاهتمام بدراسة الفلسفة اليونانية لما لها أثر في الفلسفة الحديثة منذ عصر النهضة، واحتذى فلاسفة عصر النهضة حذوها"
وتفنيداً لهذا القول أنقل مقتطف من كتابنا "رسالة في الغنوصيّة" جاء فيه: "بعد أن اضمحلت الفلسفة في أثينا وفي اليونان عموماً، انتقلت مع المعارف والعلوم القديمة، إلى عاصمة العلم والمعرفة في العالم القديم "الاسكندرية". ثم انسربت المسيحية إلى الإسكندرية رويداً واستقرت بها، حتى صارت في القرن الثالث الميلادي واحدة من الديانات التي حفل بها المزيج السكندري البديع. وفي القرن الثالث ذاته عاش في الإسكندرية فيلسوف اسمه "أمونيوس ساكاس ("ت 240م) كان أبوه وأمّه مسيحيين، فكان في شبابه المبكر مسيحياً بالمولد، حتى درس الفلسفة فانسلخ عن الديانة الوليدة". (رسالة في الغنوصية)
تكمن أهمية أمونيوس ساكاس في أ ّنه طوّر فلسفة أفلاطون وأعطاها شكلاً جديداً (سكندرياً) هو الذي يعرفه المؤرخون باسم الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية المُحْدثة." (رسالة في الغنوصية: 51) فصار لدينا عبرها الافلاطونية القديمة ممزوجة بعناصر من الدين المصري القديم.
أما الفلسفة الإسلامية العربية خاصة شروحات وتلخيصات ابن رشد، ومؤلفات ابن سينا، فقد شكلت حلقة أساسية في العصور الوسطى ربطت بين الفلسفة اليونانية القديمة، خاصة المشائية الأرسطية، وبين الفلسفة اللاتينية في العصر الوسيط، حيث توجد ترجمات لمخطوطات يونانية لا يوجد لها سوى الأصل العربي أو الترجمة العربية للنص اليوناني.
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: "الطبعة الأساسية لشروح ابن رشد باللاتينية ظهرت في مدينة بادوفا (إيطاليا) سنة 1472-1474، ثم طبعت بعد ذلك في فينيسيا أكثر من خمسين طبعة ما بين 1480 و1580، منها 14 طبعة كاملة أو تكاد، ومن أشهرها "طبعة الجونتا" سنة 1553 " (تقديم كتاب في النفس: 20)
إن اعتماد ابن سينا وابن رشد على شرّاح أرسطو السكندريين خاصة ثامسطيوس والافروديسي وسمبلقيوس ويوحنا النحوي الاسكندراني أمر ظاهر بجلاء. فعلى سبيل المثال وبمناسبة الحديث عن كتاب "في النفس" لأرسطو يقول بدوي: "نجد ابن النديم يتحدث عن شرح ثامسطيوس، لكن لا يذكر لنا أنه تُرجم إلى العربية. بيد أن اعتماد ابن رشد عليه وابن سينا قبله، يشهد شهادة قاطعة بأنه تُرجم إلى العربية" (تقديم كتاب في النفس: 16-17) ويضيف: "إن الترجمة التي بين أيدينا هي ترجمة اسحق بن حنين، وهي ترجمة كاملة لا ينقصها شيء " (في النفس: 16)
يقول الاهواني نفسه في المقدمة: "الفلسفة اليونانية نُقلت إلى العربية، وأثّرت في الحضارة الإسلامية أعظم تأثير"
نشير هنا إلى أن البورجوازية بدأت صعودها التاريخي بوضوح منذ القرن السادس عشر في أوروبا الغربية، أما البروليتاريا فكان أول بدو لها في ثورة 1830 الباريسية (توفي هيغل 1831)، وأول ظهور سياسي ومشاركة في الصراعات الطبقية كانت من خلال ثورة 1848 في فرنسا (النضال الطبقي في فرنسا، 1848-1850)
وفي ملاحظة هامة للاهواني لا تخلو من الدلالة التاريخية يقول فيها: "أما العناية بالفلسفة قبل سقراط، ومحاولة الكشف عن حقيقة أمرها، فلم تظهر إلا في القرن التاسع عشر حين سادت نظرية هيغل الخاصة بتطور التاريخ (فلسفة التاريخ البورجوازية) وانتقاله في مراحل يرتبط بعضها ببعضها الاخر، فاتجهت الدراسات نحو كشف آثار الفلاسفة السابقين على سقراط "
إن ظهور البروليتاريا على المسرح الأوروبي في القرن التاسع عشر كقوة طبقية سياسية ذات طموح تاريخي بإنيّة جديدة جعلت المفكرين في القرن التاسع عشر يعودون إلى "االفلاسفة" (لا الفلسفة) قبل سقراط بأشخاصهم وفعاليتهم الفكرية كذوات فاعلة. يقول نيتشه بخصوص الفلاسفة قبل سقراط: "إنني أروي تاريخ هؤلاء الفلاسفة بشكل مبسط: فأنا لن أستخرج من كل نسق إلا النقطة التي تشكل جزءاً من شخصية والتي تعود إلى ذلك الحيز الذي لا يمكن دحضه أو مناقشته والذي على التاريخ المحافظة عليه. إنها لخطوة أولى نحو إعادة اكتشاف وبلورة هذه الشخصيات بالمقارنة، ونحو عزف أنغام المزاج اليوناني. إن مهمتي تقوم على إبراز ما يجب أن نحبّ ونكرّم دائماً، وما لا تستطيع أي معرفة لاحقة أن تنتزعه منا: الرجل العظيم " (الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي: 38). ويشير ماركس صراحة إلى "أن المجتمع البورجوازي لا يستطيع الحكم على النظم السابقة عليه إلا بنقد نفسه نقداً جذرياً" (رأس المال)، وهي المهمة التي تولتها الماركسية ابتداء بماركس.
يقول الاهواني: "واضطلع "ديلز" بوجه خاص بهذا العبء، فجمع "النصوص" من شتات التواريخ القديمة، ورتبها وطبعها، كما وجدها في المخطوطات القديمة، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر"
بخصوص الترجمة عن اليونانية يقول الاهواني: "ومن العلماء من يرى أن الترجمة مهما تكن دقيقة وأمينة لا تكفي في نقل المعنى نقلاً صحيحاً، فيذكر النص باليونانية على طوله، كما فعل الأستاذ "رافن" في كتابه "الفيثاغوريون والايليون" مثلاً. ويعمد سائر المؤرخين إلى استعمال المصطلحات اليونانية مثل "لوجوس" (لوغوس) و "نوس" و "فيليا" و "أبيرون" و "كاثارسيس" وغيرها لأن أي اصطلاح حديث مقابل لها لا يدل على المعنى المقصود دلالة صحيحة"
هذا أمر، وأمر آخر أن الكلمة الواحدة مثل "لوجوس" [لوغوس] تشير إلى أكثر من معنى واحد، فهي تشير إلى العقل النظري، وتارة إلى الشخص التاريخي القائم بالدعوة، ومرة ثالثة تشير إلى الملاك الوسيط بين الله والعالم، ورابعة إلى مبدأ ترابط العالم وتنظيمه. (راجع كتابنا: رسالة في نظرية اللوغوس عند فيلون الاسكندري)
يقول الاهواني: "يعد كتاب "برنت" المسمى "فجر الفلسفة اليونانية"، والذي أصدر طبعته الأولى عام 1892 حجّة في موضوع الفلاسفة السابقين على سقراط" ويضيف: "حين أصدر برنت الطبعة الثالثة من الكتاب عام 1920 كتب يقول: إن موضوع الفلسفة اليونانية كان لا يزال يعالج في إنكلترا من وجهة نظر هيغل، وكانت التأويلات التي سادت في القرن التاسع عشر تقوم على بعض الفروض التي لم يؤيدها أي دليل، بل أكبر الظن بعيدة الاحتمال"
ثم برز الاهتمام مرة أخرى بالفلسفة قبل سقراط في السنوات الأخيرة، فأصدر "ييجر" كتابه عن "العلم الإلهي عند فلاسفة الاغريق الاولين" أصدره عام 1947، وهو كتاب يعالج صلة الفلسفة بالدين واعتمادها عليه إلى حد كبير". وحسب الاهواني: تمتاز دراسات ييجر بالأصالة والوضوح والنفاذ مع التبصّر بمعرفة النصوص اليونانية وحسن تأويلها. ويبدو أنه هو نفسه يقرض الشعر، لأنه حين ينقل نصوص الفلاسفة التي كتبت شعراً مثل قصيدة بارمنيدس أو أنبادقليس ينقلها إلى الإنكليزية شعراً أيضاً. وهو كغيره من العلماء الافذاذ لا يأخذ بترجمات برنت أو خلافه ويؤثر ترجمته الخاصة، وقد اعتمدتُ كثيراً على نظراته الصائبة وآثرتها على غيرها"
وآخر ما ظهر في هذا الباب، كتاب "مبادئ الحكمة" وهو بحث كما قال صاحبه في أصول الفكر الفلسفي اليوناني، صدر آخر عام 1952، بعد وفاة مؤلفه الأستاذ كورنفورد. الذي لم يكن قد أتمه فقام بنشره الأستاذ "جوترييه" إحياء لذكراه. وكورنفورد من الباحثين المشهورين في الفلسفة اليونانية خاصة أفلاطون."
وكنت قد أخذت بوجهة نظر كورنفورد بخصوص مصادر التفلسف اليوناني المبكر قبل سقراط وعرضتها في كتابي "المعجزة" على النحو التالي: "في سنة 1912م نشر كونفورد كتابه "من الدين إلى الفلسفة" حيث حاول للمرة الأولى توضيح الرابط الذي يجمع الفكر الديني مع بدايات المعرفة العقلية. ولم يعد إلى هذه المشكلة إلا متأخراً في خريف العمر. ولم تظهر إلا في سنة – 1952 تسع سنوات بعد موته – الصفحات المجتمعة تحت عنوان: "بداية الحكمة" principium sapientiae؛ أصول الفكر الفلسفي اليوناني، حيث يُظهر الأصل الميثولوجي القصصي لأول فلسفة يونانية. وبيّن كورنفورد معاكساً بورني أن لا شيء مشترك بين الفيزياء والفلسفة الإيونية، وما نسمّيه اليوم علم (تجريبي)، إ ّنها تجهل كل شيء عن التجريب؛ كما أ ّنها ليست منتج الذكاء الذي يلاحظ الطبيعة مباشرة. إ ّنها تنقل في شكل معلْمن وعلى صعيد فكر أكثر تجديداً نسق التمثيل الذي أعدّه الدين. وكوسمولوجيات (cosmologies ) الفلاسفة تعيد وتكمل الميثولوجيات النشكونية (نشوء كون). إ ّنها تعطي إجابة عن نمط الأسئلة نفسها: كيف يمكن لعالم منظم (كوزموس) أن يخرج من الخواء أو الشدق (كايوس)، كما أ ّنها تستعمل أدوات تصوّرية مماثلة. فوراء "عناصر" الإيونيين ترتسم جانبياً صورة آلهة الميثولوجيا القديمة. فبعدما أصبحت "طبيعية" نزعت العناصر(الاسطقسات) مظهر الآلهة المفرّدة ولكنّها بقيت قدرات ناشطة، منتعشة وغير فانية، ومحسوسة أيضاً كالآلهة" (المعجزة: 36)
يقول الاهواني: "لم يكن فلاسفة الاغريق الأوائل فلاسفة فقط، بل كانوا حكماء يجمعون في تفكيرهم بين العلم والفلسفة والأخلاق والسياسة" وهذا معناه أن الفلاسفة اليونان قبل سقراط كانوا أنبياء يجمعون بين العلم والعمل، وبين النظرية وممارستها. أي كانوا دعاة مجتمع ومصلحين ووعاظ للفضيلة. أي لم يكونوا كائنات فلسفية بل كائنات دينية، كانوا دينيين على طريقة كيركيجور ونيتشه. وفيثاغورس كان صاحب أخوية سرية (جمعية سرية) وقد تجددت في الإسكندرية تحت لواء الفيثاغورية المحدثة وكذلك الافلاطونية ظهرت في الإسكندرية تحت لواء الافلاطونية المحدثة. وهذا القول يبطل قول الاهواني: وكان الايونيون علماء قبل أن يكونوا فلاسفة، واتجهت الفيثاغورية وجهة رياضية. لذلك اهتم المؤرخون للعلم بالبحث عنه في فلسفة هؤلاء الأوائل"
على العكس من هذا الفهم الوضعي للفلاسفة قبل سقراط أقول: كان الايونيون حكماء وأنبياء ودعاة إصلاح قبل أن يكونوا علماء وفلاسفة، من هنا تأخذ دراسة كورنفورد "بداية الحكمة" كامل معناها.
وأقول قول الاهواني مع تحوير: لا بد لمن يريد الالمام بفلسفة القدماء أن يعرف رأيهم في الدين التاريخي الباطني التوحيدي، فلم تكن المعرفة والعلم منفصلة عن هذا الدين في ذلك الزمان، واستمرت تبعية الفلسفة للدين بشكل عام حتى القرن الثامن عشر، قرن التجارة البورجوازية والالحاد البورجوازي.
يقول الاهواني: "درج المؤرخون على قسمة الفلسفة اليونانية إلى ما قبل سقراط وما بعده، ذلك لأن سقراط كما يقال هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي حولها من البحث في الطبيعة الخارجية للأشياء إلى البحث في النفس الإنسانية، باعتبار أنها مصدر المعرفة"
وبكلمات أخرى أقول: لقد حول سقراط النظر لدى الفيلسوف من الظاهر إلى الباطن، ومن العالم المبسوط الخارجي إلى العالم المقبوض الداخلي، رافعاً شعاره الشهير المكتوب على مدخل معبد دلفي: "اعرف نفسك!" ويلاحظ هنا أن الطبيعة والعالم الخارجي كانت هي السماء في الديانات الطبيعية، لكن الامر انقلب مع مجيء الديانات التاريخية ديانات الأنبياء.
هذا التحول في النظر لدى سقراط كان موجوداً في الأصل لدى أغلب الفلاسفة اليونان قبله مع شيء من التمثيل بعناصر الطبيعة الأساسية الأربعة (النار والتراب والهواء والماء).
والامر الحاسم في التحول في النظر هو تحول من النزعة الطبيعية أو المادية الطبيعية التي تعتبر النظر في الطبيعة يفسر كل شيء، إلى النزعة التاريخية أو المادية التاريخية التي تجعل من الطبيعة ظهوراً وانكشافاً للعقل البشري التاريخي بطبيعته، بالتالي تجعل للطبيعة تاريخاً يتعمق بلا نهاية كتاريخ البشر نفسه. الطبيعة بهذا الفهم التاريخي السقراطي لا يمكن استنفادها، ومعرفتنا بها تتعمق بلا نهاية.
هذه النظرة الغنوصية الباطنية السقراطية، وهذا الدين الباطني التوحيدي الغنوصي لدى سقراط، والذي كان التبس لدى الفلاسفة قبل سقراط بالتمثيلات "الطبيعية المادية"، هي التي تسلمها كل من أفلاطون وأرسطو بعد إعدام سقراط نتيجة اعتراضه على الدين الطبيعي الوثني للمدينة –الدولة اليونانية.
يقول الاهواني: "واعتمد أفلاطون ثم أرسطو على هذه النظرية، وسلكا هذا السبيل، واستمرت الفلسفة بعد ذلك إما أفلاطونية وإما أرسطية" وإما كلاهما معاً كما هو حال الافلاطونية المحدثة والفيثاغورية المحدثة في الإسكندرية وحرّان الفرات، وكما هو حال الفارابي في كتابه المعروف "الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطاطليس" بحيث جمع الفارابي، وعلى طريقة أفلوطين في التاسوعات بين الديالكتيك الصاعد (ديالكتيك أرسطو في الاستدلال والبرهان والقياس واعتبار الطبيعة وملاحظتها) وبين الديالكتيك الهابط، ديالكتيك أفلاطون في الحوار والاقوال وقص القصص وضرب الامثال للناس لعلهم يتفكرون. وهو عين ديالكتيك الوحي المحمدي، حيث جاء في القرآن الكريم في وحي السيد محمد إلى واحد من المُنبأين: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف: 3] ويضيف القرآن قوله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]
ويضيف الاهواني بخصوص هذا المذهب السقراطي المتسلم من قبل أفلاطون وأرسطو والذي أسس له الفلاسفة قبل سقراط: "ولكننا لا نستطيع أن نفهم سقراط وأفلاطون وأرسطو دون الرجوع إلى السابقين عليهم. وقد اعترف لهم أرسطو بالفضل، وكان منهجه (التاريخي في العلم) يقوم على استقصاء جميع الآراء السابقة ونقدها (وتسلّمها حسب عبارة هايدغر) والتطور بها إلى فلسفة جديدة. وقد رأينا أن كتب أرسطو، وكذلك محاورات أفلاطون، تعد مراجع للفلاسفة الاولين الذين فقدت كتبهم" ولم يبق منها سوى شذْرات.
يقول الاهواني: "نحن في حاجة إلى معرفة تاريخ هؤلاء الأوائل، لا لكي نُحسن فهم أفلاطون وأرسطو فقط، بل لكي نفهم التاريخ مرتبطاً متطوراً متفاعلاً، بل للمعرفة ذاتها والكشف عن ذلك التاريخ"
أما بخصوص العرب فيقول: "الفلسفة اليونانية نقلت إلى العربية، وأثرت في الحضارة الإسلامية أعظم تأثير. ونحن نجد في تواريخ العرب عن الحكماء، خلطاً عجيباً بين هؤلاء الأوائل. ولهذا علينا أن نبين المصادر التي رجع إليها المؤرخون العرب في كتاباتهم.
لهذا قمت بنقل معظم نصوص الفلاسفة الذي أتحدث عنهم إلى اللغة العربية، حتى تكون ماثلة بين يدي الطالب والقارئ يعتمد عليها في فهمه الخاص، ويرى فيها الصورة الحقيقية (لأقوال) هؤلاء الفلاسفة، وكيف كانوا يصوغونها، وعلى أي هيئة كان الجمهور يطلع عليها في ذلك الزمان.
يقول الاهواني مقتدياً بمذهب سقراط: "وجدير بمن يحاضر عن سقراط أن يتمثل حكمته القائمة بالشعور بالعجز عن العلم، والتواضع في هذه الحياة، وإيثار الحياة الآخرة"
ويجب أن ألفت انتباه القارئ إلى إيمان سقراط باليوم الآخر الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 62]
وسقراط من "الذين آمنوا" بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وسعد، وأنت تسعد بجوار السعيد
يقول الاهواني: أود في ختام هذه المقدمة أن أشكر طلابي الذين تقبلوا هذه الدراسات العميقة بصبر، وشعروا بصحبتها بلذة. وهم الذين دفعوني دفعاً خلال العام الدراسي الجامعي (1953-1954) إلى طبع هذه المذكرات التي آثرت أن أسميها كما سماها برنت "فجر الفلسفة اليونانية"
مراجع استعراض نقدي-1
1-الدكتور أحمد فؤاد الاهوانيّ: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009
2-نايف سلوم: رسالة في الغنوصية 2022 (نسخة الكترونية)
3-نايف سلوم: المُعْجزة-الشذرات والنُكت في السيرة المحمدية؛ مقدمة جديدة 2022 (نسخة الكترونية)
4-نايف سلوم: رسالة في نظرية اللوغوس عند فيلون الاسكندري، منشورات (فاعل) 2024
5-كارل ماركس: النضال الطبقي في فرنسا 1848-1850
6-كارل ماركس: رأس المال، المجلد الأول، ترجمة د. فالح عبد الجبار، دار الفارابي بيروت الطبعة الأولى 2013
7-فريدريك نيتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الثانية 1983
8-أبو نصر الفارابي: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، قدم له وحققه الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق المطبعة الكاثوليكية بيروت الطبعة الثانية 1968
9-أرسطوطاليس: في النفس، الآراء الطبيعية المنسوبة إلى فلوطرخس، الحاس والمحسوس لابن رشد، النبات المنسوب لأرسطوطاليس، راجعها على أصولها اليونانية وشرحها وحققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة 1954
10-لينين: المادية والمذهب النقدي التجريبي، دار التقدم موسكو 1981 –مقالة حول الديالكتيك 1915
11-القرآن الكريم