المُعْجِزة بين الدّين والفلسفة
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7919 - 2024 / 3 / 17 - 11:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أقول على سبيل التمهيد: إن التغير (التحول) التاريخي يتعلق على وجه الخصوص بمعنى الفعل المُعْجِز من حيث أن التغير التاريخي (التحول) الذي ينجزه التاريخ "ذاتيا" هو المنبع الدائم والمتجدد للمُدهش.
غالباً ما نلاحظ علاقة ظهور الفعل المُعْجز بالتحولات التاريخية الكبرى، مع ما يلفّ فكرة "السنة الكبرى" سنة هيراقليطس من غموض ناجم عن "النزعة الطبيعية" عنده. سنة التجدّد الكوني. أو الكور بعد العديد من الأدوار (الاكوار والادوار)
إن الالتجاء إلى العقل الطبيعي من وجهة النظر العلمية التي تستهدف إقامة علاقات ثابتة متجمدة بين العلّة والمعلول ليصبح عالم الخبرة مستبعداً، إنما يعتبر انكاراً حقيقياً للمنهج العلمي" التجريبي وإنكارا للمُعجز نفسه الذي يقوم على التمييز الحاسم بين فعل الشرط وفعل الشيء داخل الشرط أو نوع استجابته لهذا الشرط. كالماء يصعد إلى اعلى أو ينزل إلى أسفل تبعاً لشرط الحرارة.
"والعلّية لا تعرف الزمان، لأن العلّية تقول فقط انه إذا وجد شيء وجد آخر، أو إذا وجدت العلّة وجد المعلول. أي أن العلية تعبر عن علاقة ضرورية قد صرفت النظر في تصورها صرفاً تاماً عن كل زمان (وكل شرط). " (الدمرداش: تاريخ العلوم عند العرب)
الذين يقولون بإله "مفارق" (للطبيعة والمجتمع القائم) سوف يُسلّمون بالمعجزة، والذي يشغلهم بالفعل هو مسألة التصور الصحيح للمُعْجِز." هذا الايمان بإله "مفارق" يعني أساسا الايمان بخلق العالم من قبل "الذات الإلهية" (الذات التاريخية)، وهذا الخلق للعالم الجديد هو فعل مُعجز. "كل خلق يضاف إلى الخلق الأول يكون مُعجزاً" والطبيعة إذ ترجع إلى إرادة الله معناه أن الطبيعة؛ فيزيك "ظهور"، وأن "للمادة" تاريخ هو تاريخ العلم بها ومعرفتها. الكون إذاً حادث بفعل الابداع، والقديم هو الله خالق الكون عن عدمٍ، أو "مبدع الأيس عن ليس" كما يقول جابر بن حيان" (التصور الإسلامي للطبيعة). أيسْ وجود وليسْ نفي؛ قال ابن عربي: سبحان الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه" (خطبة الفتوحات المكية) وفي رسالته "الفلسفية الاولى" يقول الكندي: علّة الابداع هو الواحد. الفاعل الحق، الأول التام (المحرك الاول) والفاعل السالب ("الناقص") الذي هو بالمجاز"، كان الله ولا شيء معه" (حديث) ويضيف الكندي: "إن الفعل الحقيّ الأول هو تأسيس الأيسات عن ليس. وهذا الفعل بيّنٌ أنه خاصة الله تعالى الذي هو غاية كل علّة، فإن تأييس الأيسات عن ليس، ليس لغيره، وهذا الفعل هو المخصوص باسم الإبداع" (التصور الاسلامي) فبعدمه توجد الموجودات، وهو الموجود عن عدم (وجوداً معنوياً). هو نفي للنفي. إن أقوال جابر صريحة وقاطعة في إبطال قدم العالم" (التصور الاسلامي) والطبيعة عند جابر أربعة أشياء ابتداء (مبادئ): حركة وسكون، بكيفية وكمية" ويرجع جابر اضطراب الحكيم اليوناني جالينوس إلى عدم تفرقته بين طبيعة الحكم الاستقرائي الاحتمالي المرجّح الحدوث والحكم البرهاني الضروري المحتوم الذي يستند إلى البديهيات وأوائل العقل. فليس لأحد أن يدّعي أنه ليس في الغائب إلا ما شاهد".
وأقول لكم
من يدّعي أنّه لم يكن رجلٌ
إلا عن رجلٍ وامرأةٍ
يعجزُ عن فهم ولادة عيسى
من دون أب
ولادة بالنفخ الروحيّ
وقبله ولادة الإنسان الأول
آدم
في مخالفة لولادة سائر الناس
وكلها مُعْجزات خارقة للعادة و "الطبيعة"
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران: 59] إنهما أولاد النساء ولدا من دون أب! أي ولدا بالنفخ الروحي. جاء في القرآن الكريم: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 91]
الفلسفات الطبيعية التي تعتبر أن الله هو الكل وأن الله هو نظام العالم غير مفارق للطبيعة، تنكر بالضرورة الفعل التاريخي المُعْجِز، لأن الإله هنا مندمج مع الكل الطبيعي لا يلزمه الخلق ويغدو العالم الذي "لم يزل" قديماً يتجدد بشكل دوري وتلقائي من تدخل "ذات خالقة مجددة ". وهو عين مذهب "وحدة الوجود".
من هنا نفهم إنكار هيوم وأسبينوزا للفعل التاريخي المُعْجز "لقد سبق أسبينوزا إلى هذا الموقف النقدي العنيف من المُعْجِزات عندما نادى بأنه لا يحدث شيء مناقضاً للطبيعة وقوانينها العامة الأزلية الثابتة، وأن المُعجزات ليست وسيلة مألوفة للإيمان بوجود الله وعنايته بالكون، وأن العناية الإلهية تتمثل في قوانين الكون نفسها، ومتى وجدنا تسجيلا لما هو خارق للطبيعة فنحن مع تحريف العابثين بنصوص الدين" (مدخل إلى الفلسفة)
يعقب د. مصطفى لبيب عبد الغني: ولا ننسى أن مذاهب وحدة الوجود (ومنها مذهب اسبينوزا) التي ترى "أن الله هو الكل والكل هو الله" لا تفسح مجالا للمعجزة (ولا مجالا للخلق)، حيث لا تمايز بين الله والكون ولن تكون هناك ضرورة للقول بتدخل الله في الكون وهو مباطن له متوحّد معه" (مفهوم المعجزة عند ابن رشد)
بالطبع هذه الفلسفة الطبيعة ومذهب "التألُّه" يصعب عليهما استيعاب فكرة المعجزة والخلق التاريخي في التحولات الكبرى، لأنهما بالأصل مذهب "عقلاني طبيعي" عدمي تهكّمي وشكّاك بفعل انحطاط التاريخ وانصراف كل معنى عنه. نجد هذا الموقف الطبيعي الشكاك عند هيوم والمذهب الطبيعي المتأله العدمي لدى جوردانو برونو وأسبينوزا أيضاً ولدى الكثير من أعلام الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ولدى غوتيه في "فاوست"، حيث تتأله الطبيعة. في ردة فعل على حكم الباباوات ومحاكم التفتيش المسيحية الكاثوليكية في العصور الوسطى، وعلى صعود بورجوازية حديثة "يهودية"، لا إله لها سوى المال.
يرى البعض في بحث المعجزات على المستوى الفيزيقي خطأ يتردى بنا في هوة الخلط بين نظامين متباينين: النظام الإلهي أو (الكون النوراني التخيلي)، والنظام الطبيعي (الزمكاني) (التصور الإسلامي للطبيعة)
إن العقل الاستدلالي من دون اعتبار وربط على القلب يكون طَرْفه حسير أمام المُعجز؛ يقول الامام علي: "ومن فرّغ قلبه وأعمل فكره ليعلم كيف اقمتَ عرشك، وكيف ذرأتَ خلقك، وكيف علقتَ في الهواء سمواتك، وكيف مددتَ على مور المياه أرضك رجع طرفه حسيراً، وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً" (نهج البلاغة)
ما إن تُفهم نظرية الخلق على الوجه الصحيح، َحتى تفتح الطريق الملكي أمام فهم الفعل المُعجز التاريخي الذي يؤسس لكون جديد ومجتمع جديد.
دعوى الأنبياء صريحة في نسبة معجزاتهم إلى الله، أي إلى "واجب الوجود بالذات" التاريخية التي تُحدث التحولات الاجتماعية الكبرى. (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ) (إبراهيم: 11)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (الرعد: 38)
يقول العقاد: ليست قدرة الله على تغيير ما حدث دون قدرته على الخلق لأول مرة" (التفكير فريضة اسلامية) ويضيف: ولا يطعن في وجود المعجزات إلا جمود العقل على صورة واحدة، يتصورها للكون دون ما عداها واعتبار المألوف مطابقا للمعقول" (إبراهيم أبو الانبياء)
لا يطعن في وجود المعجزات إلا جمود العقل على صورة واحدة للكون دون ما عداها واعتبار القائم والمألوف مطابقاً أبدياً للمعقول. مع أنّه (القائم المألوف) يكون أحياناً قد فقد كل عقل وبات فائتاً آفلا وبدأ تشققه واحتضاره وموته. "فليس كل موجود معقول" كما قال انجلز في تعليقه على عبارة هيغل: "كل ما هو موجود معقول!" هيغل يُعمّم، بإثباته على الاطلاق إمكانية معرفة ما هو موجود (ضد اللاغنوصية)، وانجلز يخصص، بأن ما هو موجود لم يجر عقله بعد في انحطاطه.
إن الاعجاز الباهر هو في الكون الجديد المخلوق بكل ما فيه ومن فيه من دلائل الصنعة والابداع وتصاريف القدرة، التي يستوي في حسابها القليل والكثير، وموطن الاعجاز هو أن ندرك اللغز فيما هو مألوف وأن ندهش من سر ما هو متواتر؛ فالذي أحدث الخليقة الأولى يحدث الثانية: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس: 81] وقال: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء: 5]
هكذا نلاحظ الاعراض عند إعادة الخلق من جديد في التحولات الكبرى.
القران الكريم هو المعجزة التي تستغني عن غيرها من المعجزات. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51]. هذا الكتاب "العربي" هو المُعجز في الإسلام.
كانت معجزة الكلام الذي أوحى به الله إلى أنبيائه هي المعجزة الغالبة المبينة والتي تتضاءل دونها سائر الخوارق للعادة. وهذا الاعجاز للذكر الحكيم هو الكرامة الحقيقية التي رآها أبو نصر الفارابي، سُنة الله الغالبة في دعوات أنبيائه، هكذا بدأت وهكذا كان ختامها. معجزة آدم فتق لسانه في مفتتح نبوته لما لم تعْلمه الملائكة على خلاف مجرى العادة فكان مفتتح المعجزات ومختتمها في آدم ومحمد بالكلام" (الفارابي: كتاب المّلة)
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 31] وجاء في الحديث: "وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ أَيِ ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ؟ قَالَ وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ. ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كَلِمَةً وَاحِدَةً نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا فَقَالُوا وَمَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يا ابن أخي؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ"
جاء في سورة ص: (أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) [ص: 8]
يكتب جون لويس: ورغم ما لمذهب العقلانية الطبيعية من قيمة تكمن في تأكيده على وجود نظام من القوانين وراء الاحداث التي نشهدها فهو يقع في خطأين أولهما: أن مفهوم العلّية الذي يترتب على هذا المذهب هو مفهوم يقول بالسببية المنطقية (لا السببية الاحتمالية المشروطة)، أي أنه في العلم تتبع النتيجة السبب تماماً كما تتبع النتيجة المقدمات في قياس منطقي. والامر ليس كذلك فقد بين هيوم فيما بعد أنه ليس ثمة ضرورة منطقية تفرض على نتيجة ما أن تتبع سبباً ما. إن حدوث مثل هذا التتابع حدث مشروط، تجريبيّ ليس إلا. (مدخل إلى الفلسفة)
لأنه إذا كانت النتيجة تأتي حتماً وجبرا بعد السبب، كما تأتي النتيجة بعد المقدمات في قياس منطقي أرسطي، تحول العلم إلى مجرد كاتالوغ للأسباب والنتائج، وهذه نقطة ضعف قاتلة في الفلسفة العقلانية الطبيعية.
هذا الكلام يقودنا إلى حجة الغزالي الهامة ضد العقلانية الطبيعية، حيث يتهم الغزالي الفلاسفة (العقلانيين الطبيعيين) بأنهم يدافعون عن دعوى الارتباط الوثيق بين القول بقدم العالم والقول بثبات طبائع الموجودات والتلازم الضروري بين أسباب الحوادث ومسبباتها بما لا يسمح بتقرير إمكان خرق العادة لمسار الطبيعة، كما يرى بوضوح تام أن القول بالمعجزات ينبني على أصل جوهري وهو الاعتراف بفاعلية الله المطلقة ومشيئته الخالصة في الكون" (تهافت الفلاسفة)
إنه إقرار بفعل الذات التاريخية في الطبيعة، وبأن "للمادة" وللطبيعة تاريخ هو عين تاريخ معرفتها.
هذا التلازم بين القول بحدوث العالم (خلق العالم) والتسليم بالمعجزات الذي نبه إليه الغزالي هو ما سوف يقرره موسى بن ميمون بعد ذلك لنفس الاعتبارات إذ يقول: اعلم أن ليس هربنا من القول بقدم العالم من أجل الذي جاء في التوراة بكون العالم محدث. ولا أبواب التأويل أيضاً مسدودة في وجوهنا ولا ممتنعة علينا في أمر حدوث العالم بل كان يمكننا تأويل ذلك كما فعلنا في نفي التجسيم ولعل هذا كان أسهل بكثير. إن اعتقاد القدم على الوجه الذي يراه أرسطو أنه على جهة اللزوم، ولا تتغير طبيعته أصلاً، ولا يخرج شيء عن معتاده فإنه هادّ (هادم) للشريعة بأصلها ومكذِّب لكل (فعل) مُعْجز ضرورة. الشريعة أخبرتنا بأمر لا تصل قوتنا إلى إدراكه والمعجِز شاهد على صحة دعوانا (دلالة الحائرين)”
يركز الغزالي حين يتحدث عن المعجزات عموماً، يركز فحصه العقلي في نمط رئيس من الإعجاز وهو ما يرتبط ببداية الوجود واكتماله، أي معجزة الخلق. فتصور الغزالي للطبيعة متميز عن تصور الفلاسفة (العقلانيين الطبيعيين) فالطبيعة (فيزيك) عنده هي خلق إلهي (أي ظهور) وتجلي تاريخيّ" وهذا القول الأخير لأرسطو (السماع الطبيعي)
نقرأ في المطارحة الأولى لماركس حول فيورباخ: "إن العيب الرئيسي للمادية (الطبيعية) السابقة كلها (بما فيها العقلانية الطبيعية) ومادية فيورباخ، هو أن تصور الشيء، الواقع، العالم الحسي، لا يتم فيها إلا على صورة الموضوع أو الحدس، وليس كفاعلية حسية كممارسة، ليس بصورة ذاتية". معنى القول أن هذه "المادية الطبيعية" تأخذ الطبيعة كموضوع تأمّل، ولا تأخذه كنتاج لفاعلية الذات الإنسانية الاجتماعية التاريخية.
كل فاعلية لموجود هي فاعلية مستعارة؛ هي فاعلية الشرط، فإذا افرطنا في الحرارة صعد الماء إلى اعلى وإذا افرطنا في البرودة نزل إلى أسفل. هكذا تظهر فاعلية "الذات التاريخية" وكأنها من فعل الشرط، لا من فعل البشر ذاتهم الصانعين للتاريخ المغييرين للشرط. لهذا يظهر "آخر" كأنه هو الذي فعل فعلهم الذي قاموا به حقيقة وفعلاً. وأنهم لو انتبهوا واستيقظوا لتبينوا أنهم بفعلهم هذا قد حوّلوا الشرط الذي شرطهم من قبل وغيروه. لكن الرجال، رجال الله الذين فعلوا كل ذلك عندما اقتربت أشراط الساعة وعلاماتها التاريخية، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن عرفوا الشرط وعلامات القيامة والخروج على الوضع المعوّج الفاسد. بهذه المعرفة الحق قاموا وبها رموا سهامهم وأصابوا على قول القرآن الكريم: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الانفال: 17]
فالتساؤل عن المعجزة والفعل المعجز هو نفسه تساؤل عن سر "الخلق" وسر "البعث" الذي لا يفسره إلا أمر الله وكلمته. فالمعجزة باعتبارها من "خارج" الطبيعة ظاهرة ترجع إلى خالق الكون، وهي صادرة عن علّة معنوية ذاتية غير طبيعية. "إن فضل فيثاغورس في تاريخ الفلسفة أنه استطاع أن ينتزع الصورة المحدودة من المادة اللامحدودة، مما عجز عنه الطبيعيون الأولون (فلاسفة المدرسة الايونية الثلاثة)" (فجر الفلسفة اليونانية: 84)
نقد الغزالي هنا للفلاسفة العقلانيين الطبيعيين الذين يبالغون في اعتبار الارتباط "المنطقي" والارتباط "الطبيعي" بين الحوادث محض تطابق أو تضايف، هذا النقد هو نقطة البداية في التعرف على رأي ابن رشد ودوافعه في مسألة المعجزات.
يتعاطى ابن رشد "بتقية" في مسألة المعجزات "فالذي يجب أن يقال فيها أن مبادئها هي أمور الهية تفوق العقول الإنسانية (للعامّة) فلا بد ان يُعترف بها مع جهل أسبابها. ولذلك لا نجد أحد من القدماء تكلّم بالمعجزات مع انتشارها وظهورها في العالم لأنها مبادئ تثبيت الشرائع. فإن تمادى بالإنسان الزمان والسعادة إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم فعرض له تأويل مبدأ من مبادئها ففَرْضه ألا يصرح بذلك التأويل وأن يقول فيه كما قال سبحانه: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا".
يلاحظ أن ابن رشد يقول "سبحانه" ولا يقول "تعالى"، لأنه لا يقول بالفعل المفارق للطبيعة. وهو يذهب إلى عدم افشاء الاسرار الإلهية ومنها تأويل المعجزات. ويريد "تقيةً" أن يوصد باب الجدل العقلي في المعجزات، على طريقة المتكلمين. ويوصي بعدم تثبيت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية (من جمهور العامة) فضلاً عن الفاسدة، إذ إن كثيراً من الأصول التي بنت عليها الفرق الكلامية معارفها، ومنها فرقة الاشعرية التي ينتمي إليها الغزالي، هي سوفسطائية" (تبريرية)، فإنها تجحد كثيراً من الضروريات (للعقلانية الطبيعية) مثل ثبوت الاعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض ووجود الأسباب الضرورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط"، وهو ما يسمى في الادبيات الماركسية التعليمية (البيداغوجية) ب "ديالكتيك الطبيعة" (راجع انجلز: دياكتيك الطبيعة)
أن يبحث ابن رشد عن علاقة الكون بالله من حيث القدم والحدوث والضرورة والامكان ثم يحجم بعد ذلك عن البحث في المعجزات التي تتضمن الادعاء بتدخل الله المباشر في مسار الطبيعة لحكمة يراها في ظروف تاريخية معينة" خاصة وأن هذا التدخل المباشر بعينه هو فعل معجز وأصل الاعجاز، يعني أن موقفه منسجم تماماً مع المذهب العقلاني الطبيعي في الفلسفة.
يعلق د. عبد الغني: أيا ما يكون الجواب عن إشكال المعجزة أو دعوى استحالة البرهنة العقلية (الطبيعية) عليها فإن مجرد التناول العقلي لها أمر مشروع في نظرنا لا غبار عليه. وتعليق البحث فيها بحجة منهجية أو عملية هو هروب من المسألة لا نلتمس مبرراته إلا في ضوء الملابسات التي أحاطت بفكر ابن رشد في الزمان والمكان. أما أنا فأقول: إن نقاش الفعل المُعجز يعني بالضرورة نقاش فكرة الخلق، ما يخلق حرجاً لدى الفيلسوف العقلاني الطبيعي، الذي يؤمن بقدم العالم.
يبدو أن ابن رشد تنبه إلى ما يؤدي إليه نقد الغزالي -والمتكلمين-من خطر بالنسبة لنسق الميتافيزيقا والفيزيقا الأرسطي الذي عرض له ابن سينا وهاجمه الغزالي." حيث نجد في "إلهيات الشفاء لابن سينا تقريراً صريحاً لنظام العلية الثابت في الوجود" هذه النزعة العقائدية لدى ابن رشد وابن سينا، وهذا التعصب للعقلانية الطبيعية ولمذهب أرسطو الاستدلالي البرهاني هو الدافع الأكبر لعدم مناقشة المُعجزة. كان ابن رشد يستهدف تحقيق ضمان لإمكانية المعرفة العلمية البرهانية من منطلق عملي ونظري معاً"
يرى دي بور (تاريخ الفلسفة في الاسلام) في فلسفة ابن رشد دفاعاً صريحاً عن ارتباط حوادث الكون ارتباط عليّا ضروريا لا يترك مجالا للعناية الإلهية أو الخوارق". إنه ديالكتيك للطبيعة من دون ديالكتيك للتاريخ! إنه "مادية طبيعية" من دون "مادية تاريخية".
يقول عبد الغني: "في مذهب ابن رشد تأكيد صريح لدور مبدأ العلية وقيمته بما هو أساس ضروري لا يمكن التهوين من شأنه لقيام أي معرفة علمية بحقيقة الوجود، بل إنه يسوي بين العقل والعليّة" يقول: إن رفع المسببات مبطل للعلم ورافع له. وليس العقل شيئاً أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وبه يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعاً أن ها هنا أسباباً".
بالطبع علينا التفريق بين قولين: إذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود" وبين القول: متى ارتفع الشرط ارتفع المشروط" ابن رشد يقول بالقول الأول ويهمل القول الثاني في سجاله مع الغزالي، الذي يعلق عليه ابن رشد بالقول: فلا خلاف بين المتكلمين والفلاسفة في هذا الباب" ، لأن هذا القول من تحصيل الحاصل.
وعلى هذا النحو يدافع ابن رشد عن ثبات الطبائع وعن الضرورة وجريان العادة بالنسبة لسير حوادث الطبيعة في مقابل الإمكان والحدوث" وبهذا يكون مشمولاً في مذهب "وحدة الوجود" الذي قال بها أسبينوزا وجوردانو برونو لاحقاً. بالتالي لا ضرورة لتدخل الله في العالم طالما أنه هو هو نظام وجوده بالذات. ويكون مذهب ابن رشد الفلسفي مذهباً عقلانياً طبيعياً (ديالكتيكاً للطبيعة) غير منشغل بالتحولات التاريخية الكبرى وبالعلم الاجتماعي -التاريخي. وغير منشغل بمبدأ الخلق المُعْجِز. ويكون مع القائلين بقِدم العالم.
وفي سبيل مواجهة انتقادات الغزالي يعمد ابن رشد إلى توضيح الأساس اللغوي للمفاهيم الفلسفية المستعملة الشائعة وبوجه خاص مفاهيم القِدم والحدوث والضرورة والامكان والسبب والفعل والقدرة والعقل والعادة."
وفي نفور أصحاب مذهب "وحدة الوجود" من جبروت التسلط وفساد الحكام وفراغ التاريخ من العقل والمعنى قول ابن رشد: إذا لم يكن في الوجود إلا إمكان المتقابلين في حق القابل والفاعل فليس ها هنا علم ثابت بشيء أصلاً ولا طرفة عين إذا فرضنا الفاعل بهذه الصفة متسلطاً على الموجودات مثل الملك الجائر وله المثل الأعلى الذي لا يعتاص عليه شيء في مملكته ولا يعرف منه قانون يرجع إليه ولا عادة. "
فالفعل عنده هو الفعل بإطلاق والفاعل هو من يخرج غيره من القوة إلى الفعل ومن العدم إلى الوجود.
وتأكيداً لالتزامه بمذهب وحدة الوجود (وحد الله ونظام الطبيعة) يقول ابن رشد: "بأن الله لا يخرق القانون الطبيعي الثابت إذ الُسنة الإلهية أو قوانين الطبيعة ونظام الوجود من ذات الطبيعة الإلهية" وهذا القول يختلف مع قول القرآن (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62] هذه سنة الله والتاريخ وتحولاته الكبرى وسنة العقل الفعّال والوحي، لكنها ليست سنة الطبيعة والعالم المخلوق فحسب. حيث ابن رشد وعلى طريقه أسبينوزا يدمج سنة الطبيعة بسنة الله منكراً على الله ورجاله القدرة على تحويل الطبيعة الفاسدة وتقويم الزمن المعوجّ.
ويضيف : إن العلم الإلهي لأنه يصدر معبّراً عن ثبات أزلي ومصدر صدقه في مطابقته لما يوجد بالفعل وجوداً حقيقياً أصيلاً " وهذه الدوغما للعقلانية الطبيعية ومذهب وحدة الوجود تجعل العلم الإلهي والعقل الفعّال ملازماً للطبيعة لا مفارقا (وهذا قول مناقض لقول أرسطو في كتاب النفس)، وتربطه بطبيعة وموجودات فعلية في تغير دائم. يقول وعلم الخالق الذي هو السبب في حصول طبيعة الموجود (تحقق طبيعته) التي هو بها متعلق (الموجود متعلق بطبيعته) وإن جهلنا نحن بالممكنات (أي الحوادث) إنما هو من قبيل جهلنا بهذه الطبيعة ، والعلم بوجود تلك الطبيعة هو الذي يوجب المتقابلين الوجود أو العدم"
لا يقر ابن رشد بالاستحالة والمتناقض في ذاته لأنه مستحيل. لا يشغله صراع الاضداد والتحولات، بل يشغله فساد الحكّام. فهو يدعو إلى تحول سياسي لا إلى تحول اجتماعي تاريخي، وهو في ذلك، وبفعل شغفه بالاستدلال الطبيعي والبرهان، ينبه إلى مخاطر الشغب والجمود على الصور العقلية الواحدة والانتشاء بغموض اللفظ المموه، ينبه إلى خطر جمود العقل بفعل النقل التلقائي من دون تحقيق أو تدقيق، وهو محق في ذلك كل الحق.
مراجع:
1-د. مصطفى لبيب عبد الغني: مفهوم المعجزة بين الدين والفلسفة عند ابن رشد
2-الفارابي: كتاب المِلّة ونصوص أخرى
3-عباس محمود العقاد: التفكير فريضة إسلامية
4-موسى بن ميمون: دلالة الحائرين
5-أبو الوليد بن رشد: تهافت التهافت.
6-ابن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال
7-ابن رشد: تلخيص "ما بعد الطبيعة" لأرسطو
6-أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة
7-د. أحمد سعيد الدمرداش: تاريخ العلوم عند العرب
8-جون لويس: مدخل إلى الفلسفة
9-الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط