حول المسألة اليهوديّة: تلخيص كتاب ماركس
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7987 - 2024 / 5 / 24 - 06:52
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
إهداء
إلى روح غسان كنفاني
(1936-1972)
اعتمدنا في هذا التلخيص "حول للمسألة اليهودية" لماركس على ترجمة النص عن الألمانية الذي قامت به د. نائلة الصالحي، منشورات الجمل في طبعة أولى سنة 2003 (كولونيا/ألمانيا). وقد قارنا الترجمة حين تتعثر بترجمة الياس مرقص "باور-ماركس: حول المسألة اليهودية" الصادرة عن دار الحقيقة للنشر-بيروت. من دون تاريخ. وقد جرت مقارنة النص حين يلزم الامر بالترجمة الإنكليزية للنص في المجلد الثالث من أعمال ماركس-انجلز الكاملة.
On The Jewish Question
Written: Autumn 1843
First Published: February, 1844 in Deutsch-Französische Jahrbücher
Proofed and Corrected: by Andy Blunden, Matthew Grant and Matthew Carmody, 2008/9.
"المسألة اليهودية" (1843) جزء من جهد ماركس النقدي الذي يبدأ بنقد فلسفة الحقوق لهيغل من ثم "المسألة اليهودية" عند برونو باور ويتمم ذلك في "الاسرة المقدسة" و"الأيديولوجية الألمانية". "المسألة اليهودية" جزء من هذه المسيرة في تصفية الحساب مع فكر باور المثالي ومادية فيورباخ الطبيعية التأملية ومع مثالية شترنر، ولاحقاً نقد لاشتراكية برودون واقتصاده السياسي.
"ماركس ومعه انجلز يصفي حساب برونو باور مع آخرين في مخطوطات الاقتصاد السياسي والفلسفة (1844) وخصوصاً في "العائلة المقدسة" (1845) و"الأيديولوجية الألمانية". ونقد "المسألة اليهودية" لبرونو باور يدخل في هذا النطاق، جزئياً على الأقل. وماركس يعود إليه في "العائلة المقدسة". (مقدمة الياس مرقص: حول المسألة اليهودية)
يبدو أن نص باور قد نشر في (برانشفايغ 1843) وهو طرح جديد حسب ماركس بما يخص المسألة اليهودية في أوروبا وألمانيا خاصة. يقول ماركس: "طرحَ باور مسألة تحرر اليهود طرحاً جديداً بعد أن وجه الانتقاد إلى الطروحات والحلول التي كانت قائمة حتى ذلك الوقت"
يقول باور: "يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرر يطالبون؟ المواطنة، التحرر السياسي" (ترجمة الصالحي)
إذا كانت الدولة الألمانية نفسها غير متحررة من المسيحية، وكانت في الظاهر دولة المسيحيين وفي الخفاء تمنح الامتيازات لليهود المرابين محاباتا لأموالهم، فكيف يطالب اليهود الألمان دولة غير متحررة سياسياً أن تمنحهم حقوقاً سياسية متساوية مع المسيحيين ذوي الدين المهيمن على الدولة. إن طلبهم يحمل مفارقة: عليهم أولاً أن يطالبوا بتحرر الدولة السياسية من مسيحيتها وأن تغدو دولة جميع المواطنين مهما كان دينهم. لكن مفارقة اليهود أنهم يريدون التمسك بدينهم وامتيازهم الديني المستور، ويطالبون الدولة الألمانية أن تتخلى عن طابعها المسيحي!
اليهودي يقتات على هذا الامتياز وعلى ذلك الحرمان من حقوق المواطنة. إن شعوبا تجارية كاليهود تعيش في شقوق العالم القديم، على طريقة آلهة أبيقور، أو مثل اليهود في مسامات المجتمع البولوني" (ترجمة مرقص) لقد استخدموا نقائص المجتمع لصالحهم "لم يستخدموا نقائص الدستور البولوني إلا لصالحهم الخاصة" حسب باور (ت مرقص). إنهم يقتاتون على بؤس الشعوب وظلم الحاكمين.
لقد طرحت الثورة الفرنسية عند قيامتها 1789 نوعين من الحقوق: حقوق الانسان وحقوق المواطن. الحقوق الأولى هي حق الافراد في التملك (الحقوق المادية الانانية المدنية)، وحقوق المواطن؛ هي الحقوق العامة السياسية، أي حق المشاركة في السياسة وإدارة الشؤون العامة. أي طرحت الثورة الفرنسية حقوقا عامة (سياسية) وحقوقاً خاصة (مدنية مادية أنانية).
يقول ماركس: اليهود الألمان يريدون الانعتاق (التحرر). أي انعتاق يطلبون؟ المواطنة (Civic)، الانعتاق السياسي." (ت مرقص)
Civic أقرب إلى فكرة الدولة، الوطن، المواطن، السياسية. هو الولاء للوطن" (هامش ص 169 ترجمة مرقص)
The German Jews desire emancipation. What kind of emancipation do they desire? Civic, political emancipation
Volume 3 p. 146
Civic: Civic rights حقوق سياسية، Civic rights: حقوق المواطن
اليهود في ألمانيا حسب باور يطالبون لأنفسهم بتحرر سياسي (قومي) دون أن يطالبوا بتحرير الألمان سياسياً عبر تخليص الدولة المسيحية من مسيحيتها. هم لا يكترثون لمصير بقية الشعب الألماني، بالتالي هم أنانيون لا يرون إلا مصلحتهم (كقومية يهودية خيالية؛ قومية بلا أرض)
ماركس يُقرّظ أسلوب برونو باور في طرح المسألة، يقول: إنه يتساءل: ما هي طبيعة اليهودي الذي يريد التحرر والدولة المسيحية التي يفترض أن تحرره؟ وهو يجيب من خلال نقده للديانة اليهودية، فهو يحلل التناقض بين اليهودية والمسيحية ويوضح جوهر الدولة المسيحية، وكل هذا بشجاعة ووضوح وظرافة وعمق، وبأسلوب يتصف أيضاً بالدقة والمتانة والحيوية." (ت الصالحي)
إن اليهودية في أساسها قائمة على الاستثناء والابعاد، إبعاد الاغيار عن حظيرة الرب، فاليهود هم "الفرقة الناجية"، وقد اختارهم الرب كشعب له دون باقي الخليقة، لن يتحقق مصير هذا "الشعب المختار" المكلّف أبد الدهر المصاب بالرَّهَق إلا بالقضاء على جميع الشعوب الأخرى، أما المسيحية الكاثوليكية صاحبة "قانون الايمان" فهي أيضاً قائمة على الاستثناء والحرمان والطرد، لكن بخلاف اليهودية قائمة على احتكار الايمان وتفسير النصوص المقدسة، إن الكنيسة الرسمية وآباءها هي حارسة باب التفسير، تفسير النصوص المقدسة. وبعكس عنصرية اليهود وقوميتهم الخيالية فهي تطرد باقي البشر (بشر المسكونة) ككفار وهراطقة مجدّفين. المسيحية تحتكر الايمان والتفسير، واليهودية تحتكر الربّ، كلاهما قائم على هذا الاستثناء وهذا الطرد. اليهودية طاردة للجميع والمسيحية طاردة لغير المؤمنين والهراطقة الضّالين! تظهر اليهودية عنصرية عرقية، وتظهر المسيحية عالمية مستبدة محتكرة للإيمان يحركها الطغيان، اقصائية لمن ليسوا من دين السلطة (حزب السلطة).
يكتب باور: "أكثر الامتيازات عمومية وبالتالي وأيضاً أكثرها استبعادية هو الإيمان" (ت مرقص 112)
يقول ماركس -يناء على ذلك-: كيف يحل باور إذن المسألة اليهودية؟ وما هي النتيجة؟ إن صياغة مسألة تتضمن حلها. ونقد المسألة اليهودية هو جواب عن المسألة اليهودية. والخلاصة (موجهة لليهود) هي ما يلي: علينا أن نحرر أنفسنا قبل أن نكون قادرين على تحرير الاخرين."
يقول باور: "لأن الدين هو نفسه الاستبعاد والطرد، وأن دينين من الأديان طالما هما معترف بهما كدين على انهما الموجود الأعلى والمنزل لا يمكنهما أبداً أن يعقدا سلاماً بينهما" (باور-ماركس: حول المسألة اليهودية ص 72)
إذن حل التعارض (حسب وجهة نظر باور) يكمن في حذفه الكامل وفي كفّ اليهود عن كونهم يهوداً دون اضطرار أن يصيروا مسيحيين. ولكن ماذا عملوا (اليهود) لجعل حل التعارض ممكناً ولإنتاجه؟ هل قاموا بأعمال نقدية، أعمال نقدية موجهة ضد اليهودية والمسيحية، ضد كل دين؟ (كما فعل باور في نقده للدين وللمسيحية)" (باور-ماركس ص 73)
يقول باور بخصوص التعارض بين اليهودية والمسيحية كدينين: حين لا يعود التعارض دينياً، حين يكون قد صار علمياً، واتخذ شكل النقد اللاهوتي. التعارض يُلغى لأنه بات الآن غير ممكن حتى علمياً (لاهوتياً)" (ت مرقص ص 73) ذلك لأن "النقد" اللاهوتي الباوري قد أخمده!
ماركس ينتقد هذا الحل "المثالي" العلمي/ اللاهوتي الذي يقدمه باور. لأن ماركس يريد القول: إن باور يجعل "العلم" أو "النقد العلمي" يقوم مقام نقد الدولة السياسية والمجتمع المدني، وأن وهم أن العلم اللاهوتي والنقد اللاهوتي يمكنهما تحرير الانسان من التدين، مع بقاء شروط توليد التدين قائمة في مجتمع فيه الافراد يعبشون اغتراباً اقتصادياً تجاه منتجات قوة عملهم، واغتراباً سياسيا تجاه الدولة القائمة التي أوجدوها، واغتراباً دينيا تجاه منتجات عقولهم. إن نقد الدين لا يستطيع إلغاء التدين، كما أن تفسير الاغتراب الاقتصادي في رأس المال لم يلغ الاغتراب الفعلي الذي تولده علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بالفعل. "إن الكشف عن سر القيمة (قيمة السلعة) يزيل الوهم الذي يصوّر أن مقدار قيمة منتجات العمل (قوة العمل) يتحدد بمحض الصدفة. ولكنه لا يزيل اطلاقاً الشكل الشيئي لتحديد مقدار القيمة، تماما مثلما بزيل كشف سرّ التدين سرّ الاغتراب الديني، لكنه لا يزيل التدين، لأنه يبقي على الشرط الإنساني الذي يولد هذا الاغتراب. وهو أن علاقات البشر فوقهم وما أن يتخلصوا من هذه الضرورة ويصلوا إلى وعي علاقاتهم كأفراد متحدين أحراراً ويتجاوزوا شرطهم بالفعل، حتى يزول هذا الشرط؛ شرط التدين" (نايف سلوم: الصنمية السلعية وسرها)
يقول ماركس: "إن الاكتشاف العلمي اللاحق، بأن منتوجات العمل، من حيث هي قيم، ليست أكثر من تعبيرات شيئية عن العمل البشري المُنفق في إنتاجها. ولكن هذا الاكتشاف لا يزيل المظهر الشيئي الذي يتلبّسه الطابع الاجتماعي للعمل. مثل حقيقة أن الغلاف الجوي ظلّ في شكله المادي الفيزيائي، حتى بعد أن اكتشف العلم العناصر المكونة للهواء" (رأس المال، المجلد 1 ص 108)
ولقد لاحظنا في قراءتنا لكتاب لينين "الدولة والثورة"، أن الاغتراب الاقتصادي والسياسي يبقى حتى في الطور الأول للشيوعية، حيث نبقى رأسمالية الدولة الاشتراكية تشرف على العملية الإنتاجية وتتحكم بالفائض الاقتصادي وتجعل من نفسها حارساً على "الحقوق البورجوازية" في التوزيع على مبدأ: من ينتج أكثر يأخذ من الفائض الإنتاجي أكثر، رغم الإلغاء الحقوقي-في هذا الطور الاول-للتملك الخاص لوسائل الإنتاج.
باور يريد بحركة نقدية علمية واحدة أن يلغي تدين الانسان واغترابه السياسي والديني. إنه يخلط التحرر السياسي بالتحرر الديني الإنساني، مثلما فعل الفوضويون في خلط الطور الأول للشيوعية بطورها الأعلى، مطالبين الثورة البروليتارية الظافرة بتحطيم الدولة بشكل عام، من دون الاستفادة منها كدولة اشتراكية لتحطيم مقاومة البورجوازية المهزومة كما تطالب الماركسية.
يقول ماركس: كيف يجعل المرء تناقضاً دينياً مستحيلاً؟ من خلال إلغاء الدين. وحالما يرى كل من اليهودي والمسيحي دين الاخر مجرد مراحل تطور مختلفة للفكر الإنساني، ويتعرفا فيهما على جلدي أفعى سلخهما التاريخ وعلى الانسان الذي يمثل الافعى التي كانت في هذين الجلدين، فلن تكون العلاقة بينهما علاقة دينية، وإنما علاقة علمية لاهوتية نقدية وحسب، علاقة إنسانية. يكون العلم اللاهوتي وحدتهما. أما التناقضات في العلم اللاهوتي فيحلها العلم نفسه. (ت الصالحي 10)
في ترجمة مرقص لنفس الفقرة: "كيف يجعل مستحيلاً تناقض ديني؟ بحذف الدين. حين لن يرى اليهودي والمسيحي في دينيهما سوى درجتين مختلفتين في انبساط الروح الانساني" (ت مرقص ص 171)
يقول ماركس: يواجه اليهودي الألماني انعدام التحرر السياسي بوجه عام ومسيحية الدولة الواضحة. في رأي باور تكتسب المسألة اليهودية أهمية عامة مستقلة عن الظروف الألمانية. إنها مسألة علاقة الدين بالدولة والتناقض بين التحيز الديني والتحرر السياسي." (ت الصالحي 10). المسألة اليهودية في ألمانيا تطرح مسألة علمانية الدولة البورجوازية الحديثة. وتخلّصها من التحيز الديني، وكيف لها أن تكون دولة جميع مواطنيها بغض النظر عن شكل اعتقادهم الديني؛ بغض النظر عن دينهم.
لا يطرح باور مسألة تحرر الدولة من التحيزات الدينية كشرط لتحرر اليهودي السياسي، أي لا يطرح علمانية الدولة البورجوازية كحل لمشكلة اليهودي، بل يضيف تحرراً آخر عجيبا، هو تحرر اليهودي من الدين!
يقول ماركس: يطرح (باور) التحرر من الدين كشرط أمام اليهودي الذي يريد أن يتحرر سياسياً. والدولة التي ينبغي أن تحرره (أن تتحرر من التحيز الديني)" (ت الصالحي 11)
الانسان حسن النية الذي يرى في اليهودي ساكن ألمانيا مجرد متدين يريد المواطنة، بحيث يتراجع اليهودي خلف المواطن. لكن اليهودي المتعصب لطبيعته اليهودية الطامح إلى تحرر "قومي خيالي"، إنسان مخادع في مطالبته بالتحرر السياسي وبالمواطنة.
يقول ماركس: "إن طبيعته اليهودية المحدودة تنتصر دائماً وأخيراً على واجباته الإنسانية والسياسية" إن هذه الطبيعة تطغى على كل ما عداها. (ت الصالحي 11)
نقرأ قول ماركس في ترجمة مرقص: "اليهودي يبقى يهودياً، رغم كونه مواطناً، ويعيش بشروط بشرية بشكل كلي: طبيعته اليهودية والمحدودة تحرز دائماً وفي المرجع الأخير النصر على فروضه الإنسانية والسياسية"
الحكم المسبق prejudgment (الذي تفرضه يهوديته) يبقى ويستمر رغم أن طبيعته تطفح عليها مبادئ عامة. تطفح وتطغى على كل الباقي" (ت مرقص 172)
معنى ذلك أن اليهودي "لا يستطيع أن يبقى يهودياً في الحياة العامة للدولة إلا سفسطائياً فقط، ظاهرياً. هذا يعني أن حياته في الدولة ستصبح مجرد مظهر أو استثناء مؤقّت للجوهر والقاعدة" (ت الصالحي 11)
هذا عن اليهودي وقدرة يهود ومسيحي اليوم على التحرر. (باور: الملزمة الحادية والعشرون)
يقول ماركس: لنسمع من ناحية أخرى كيف يطرح باور مهمة الدولة. (ت الصالحي 11)
يقول باور: "لقد منحتنا فرنسا مؤخراً (مناقشات مجلس النواب 26 ديسمبر 1840) فيما يتعلق بالمسألة اليهودية- كما تفعل في جميع المسائل السياسية الأخرى على الدوام- مشهد حياة حرة، ولكنها تخرق حريتها في القانون، وهكذا تجعل منه مظهراً، ومن جهة أخرى، تنقض قانونها الحر من خلال الفعل" (المسألة اليهودية) ويضيف باور: "لم تصبح الحرية العامة في فرنسا قانوناً بعد، ولم تُحلّ المسألة اليهودية أيضاً، لأن الحرية القانونية – التي يتساوى فيها جميع المواطنين- في الحياة التي تسيطر عليها وتقسمها الامتيازات الدينية تصبح محددة، وانعدام حرية الحياة هذا ينعكس في القانون الذي يرغم بدوره على الموافقة على تقسيم المواطنين الاحرار إلى مضطهَدين ومضطهِدين " (المسألة اليهودية)
يقول ماركس موجهاً السؤال إلى باور: إذن فمتى ستحل المسألة اليهودية بالنسبة لفرنسا؟
يجيب باور: يجب أن يكون اليهودي على سبيل المثال قد كف أن يكون يهودياً، حين لا يدع قانونه (شريعته) تعيقه عن أداء واجباته إزاء الدولة وشركائه في المواطنة، أي أن يذهب مثلاً يوم السبت إلى مجلس النواب ويشارك في المناقشات العامة" (ت الصالحي 12)
ويخرج باور بنتيجة عامة تقول: "لا يعود ثمة دين حين لا يعود ثمة دين يتمتع بالامتيازات. خذوا من الدين قوته المميزة له فلا يعود له وجود. سيكون الإعلان بأن قانون السبت لليهود لم يعد ملزماً، سيكون (ذاته) إعلان حل اليهودية" (المسألة اليهودية)
يعلق ماركس بالقول: هكذا يطلب باور أن يتخلّى اليهودي عن يهوديته والانسان بوجه عام عن الدين من جهة، ليتحرر كمواطن civic emancipation، ومن جهة أخرى يعتبر الإلغاء السياسي للدين كتبعة لذلك الغاء للدين بشكل عام." (ت الصالحي 13)
وcivic تعني مدني-سياسي، أي ينال حقوق المواطنة كمواطن في المجتمع المدني الذي تخلص من الامتياز الديني. إنها الحقوق المدنية-السياسية، وهي عينها حقوق المواطنة
ويضيف ماركس: إن الدولة التي تشترط الدين لم تصبح بعد دولة حقيقية، دولة واقعية" (ت الصالحي 13)
هذه الترجمة تبقي بعض الغموض في العبارة، لهذا نقابلها بترجمة الياس مرقص التي تقول: "الدولة التي تفترض الدين افتراضاً أول أو مقدمة لها، ليست بعد دولة واقعية وحقيقية، وبالبداهة إن التمثيل الديني يعطي ضمانات للدولة" (حول المسألة اليهودية 174)
بكلام آخر يريد ماركس القول: الدولة الدينية (المسيحية مثلاً) ليست دولة سياسية حقيقية بعد، ليست دولة علمانية دنيوية لجميع مواطنيها، إن الدولة الدينية لا تأخذ ضماناتها من تمثيلها السياسي لجميع مواطنيها، بل تأخذ ضماناتها من تمثيلها لجماعة دينية هي أكثرية في البلد المعني. كبلد غالبيته مسيحية أو مسلمة على سبيل المثال.
باور يظهر فهماً أحادي الجانب للمسألة اليهودية من وجهة نظر ماركس، الذي يقول: لا يكفي بأية حال من الأحوال أن نبحث: من الذي يقوم بالتحرير ومن الذي سيُحَرَّر؟ فعلى النقد أن يقوم باستقصاء نقطة ثالثة. عليه أن يسأل: بأي نوع من التحرر يتعلق الامر؟ أي شروط تقع في صلب التحرر المطلوب؟ فقط نقد التحرر السياسي نفسه هو النقد القاطع للمسألة اليهودية ودمجها الحقيقي في المسألة العامة للعصر.
يقول ماركس: ولأن باور لم يرفع المسألة إلى هذا المستوى فإنه يسقط في التناقضات. إنه يضع شروطاً لا تنتمي إلى طبيعة التحرر السياسي نفسه. (ت الصالحي 14)
حين يقول باور عن مناهضي تحرر اليهود: "كان خطأهم فقط هو أنهم افترضوا أن "الدولة المسيحية" هي الدولة الحقيقية الوحيدة، ولم يخضعوها للنقد الذي نظروا به إلى المسألة اليهودية" (ت الصالحي 14)
يقول ماركس: إننا نرى خطأ باور في أنه انتقد "الدولة المسيحية" وحدها وليس الدولة بوجه عام. وأنه لم يتناول بالبحث العلاقة بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني ويضع بذلك شروطاً لا يمكن تفسيرها إلا بخلط غير نقدي بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني العام." (ت الصالحي 14)
ماذا يريد ماركس أن يقول؟ يريد أن يقول: لا يمكن الحديث عن التحرر الإنساني، خاصة التحرر من الدين طالما أن الدولة السياسية موجودة وغير مضمحلة، لأن وجود الدولة السياسية الحديثة (البورجوازية بأنقى أشكالها السياسية) هي ضامنة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وحتى الدولة الاشتراكية في الطور الأول من الشيوعية هي ضمانة الحفاظ على حقوق التوزيع البورجوازية الطابع، أي أن الدولة السياسية هي حارسة "الاغتراب الاقتصادي" الذي هو القاعدة الأرضية الدنيوية "للاغتراب الديني".
هكذا نستطيع أن نفهم عكس ماركس لسؤال باور. يسأل باور اليهود: هل لديكم الحق وأنتم في موقفكم (تمسككم بالشريعة اليهودية) أن تطلبوا التحرر السياسي؟ يقول ماركس: إننا نطرح السؤال المعاكس: هل لموقف التحرر السياسي الحق في أن يطلب من اليهودي التخلي عن اليهودية ومن الانسان التخلي عن الدين بوجه عام؟ (ت الصالحي 15)
يقول ماركس: تكتسب المسألة اليهودية مفهوماً متغيراً حسب الدولة التي يوجد اليهودي فيها،
في ألمانيا الدولة مسيحية (لا توجد الدولة كدولة سياسية خالصة): المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية محضة.
في فرنسا الدولة دستورية، مسألة النظام الدستوري، مسألة نصف التحرر السياسي، لأن مظهر الدولة الدينية هنا باق، وإن كان بصيغة متناقضة تفتقر إلى الدلالة، في صيغة دين الأغلبية (هذا يذكرنا بالدين الإسلامي الرسمي للدولة في الأقطار العربية) إن علاقة اليهودي بالدولة تتخذ هنا مظهر تناقض ديني لاهوتي" (ت الصالحي 15)
تفقد المسألة اليهودية معناها اللاهوتي وتصبح مسألة دنيوية (علمانية) حقاً في الدول الأميركية الشمالية الحرة، في قسم منها على الأقل. "لا يوجد في الولايات المتحدة لا دين للدولة ولا دين رسمي للأغلبية ولا أفضلية عبادة على غيرها. وليس للدولة أي شأن بالعبادات" (ماري، أو الرق في الولايات المتحدة، ج. دي بومون)
يعلق ماركس: حيثما توجد الدولة السياسية في بنائها الكامل (متخلصة من كل امتياز ديني أو غير ديني) يمكن أن تبرز علاقة اليهودي والانسان المتدين بوجه عام، إزاء الدولة السياسية، أي علاقة الدين بالدولة، في خصوصيتها ونقائها. ويكف نقد هذه العلاقة أن يكون نقداً لاهوتياً حالما تكف الدولة السياسية عن أن تقف موقفاً لاهوتيا من الدين، عند إذن يصبح النقد نقد الدولة السياسية. عند هذه النقطة حيث تكف المسألة أن تكون لاهوتية يكف نقد باور أن يكون نقدياً" (ت الصالحي 16)
لكن حتى في هذه الحالة، حالة الدولة البورجوازية الأميركية، وباعتبارها دولة أقلية بورجوازية حاكمة، لا يمكن لهكذا دولة أن تؤمّن ضماناتها من أغلبية شعبية (سياسية) فعلاً، وباعتبار اليهود يعيشون دائماً في شقوق المجتمعات القديمة والحديثة، ولهم امتيازات ضمنية باعتبارهم أرياب المال، فإن الدولة السياسية الأميركية تجد نفسها وقد أعطت امتيازات لليهود الاميركيين لكي تؤمن لنفسها ضمانات إضافية غير سياسية، خاصة ونحن نعلم أن الديمقراطية البورجوازية في عصرها المتأخر الامبريالي ديمقراطية للقلّة وشكلية للأغلبية الشعبية وباقي الشعوب المهمشة. وهنا تظهر الاستثنائية اليهودية بكل قوتها. في الدولة السياسية الكاملة المتخلصة من الامتيازات الدينية، اليهودي بات حقاً لا يفكر بالاستقلال القومي وبلاد كنعان والمسيح اليهودي (ميسّيا)، يقول باور: "بيد أنه، بالضبط هنا حيث قومية اليهودي وكل ما يجعله يهودياً يبدو قد اختفى، تظهر طبيعة اليهودي بكل قوتها، إذ أنها تعلم وتستطيع بالضبط أن تحافظ على نفسها في ضياعها، إذن تجعل الانعتاق في الاخير مستحيلاً، في الوقت الذي تبدو فيه أقرب ما يمكن إليه تبتعد عنه أكثر ما يمكن." (باور-ماركس ص 80)
يقول باور: "إن اليهودي الذي مثلاً في فيينا ليس أكثر من مقبول، إنما يحدد بقوته المالية كل مصائر الإمبراطورية. إن يهودياً يمكن ألا يكون له أي حق في أصغر دولة ألمانية، يقرر مصير أوروبا. " (ت مرقص 165) إنها حالة كاذبة حين عن اليهودي، في النظرية تُحفظ الحقوق السياسية بينما في العمل هو يملك قوة عجيبة ويمارس نفوذه السياسي المنقوص جملة بالمفرّق." (ت مرقص 165)
"أما اليهودية المستنيرة فإن انفتاح عيونها على شروط هذا العالم الحقيقية قليل لدرجة أن نظرها يبقى متوجهاً نحو الأعلى فقط، مركزاً على امتيازات إسرائيل الخيالية، الدينية والسياسية." (باور-ماركس 81)
"إذاً مرة أخرى هذا غير ممكن، إنه (اليهودي) سيدحض أجمل خطاباته عن المساواة وعن الإنسانية بأفعاله، إذ أنه يعلن كل الآخرين غير طاهرين عدا اليهود ويعلنهم غير طاهرين بصفته يهودباً" (باور-ماركس 82)
"في الدولة الواقعية وفي تاريخ الدول، اليهودي كيهودي عليه أن يبقى على الدوام عنصراً غريباً، لا لأنه ذو قومية خاصة، بل لأن قوميته خيالية غير واقعية، إذاً هو غير قادرة على التآخي مع قوميات واقعية أو الاندماج معها" (باور*ماركس 105)
السؤال ما هو موقف التحرر السياسي الكامل من الدين؟ أو كيف يقف التحرر السياسي الكامل من الدين؟
يقول ماركس: فإذا كنا نجد حتى في بلد التحرر السياسي الكامل ليس وجود الدين وحسب، وإنما وجود الدين المفعم بالحياة والقوة أيضاً، ويكون الدليل قد قُدّم على أن وجود الدين لا يتعارض مع قيام الدولة الكاملة. " (ت الصالحي 17)
وباعتبار أن سر الاغتراب الإنساني (الاقتصادي والديني) هو في وجود الدولة كقوة اكراه وفي وجودها كحارسة للحقوق الانانية (البورجوازية)، "فإن وجود الدين هو وجود لنقص، ومصدر هذا النقص لا يمكن أن يبحث عنه إلا في جوهر الدولة نفسه" (ت الصالحي 17)
إن نقص الحياة الدنيوية وأنانيتها بفعل سيادة الملكية الخاصة، وحكم القلّة هو في أساس ضيق الحياة الدنيوية التي تجعل قوى الانسان الإنتاجية وطاقاته اللامحدودة مقيدة بهذه الانانية ومحدودة بفعل الانانية الاقتصادية والاكراه السياسي. يقول ماركس: "لا يعود الدين بالنسبة لنا هو الأساس وإنما كمظهر للمحدودية الدنيوية " (ت الصالحي 17)
يضيف ماركس: "من هنا فإننا نفسر المحدودية الدينية للمواطن الحر بمحدوديته الدنيوية" وفي هذه العبارة تظهر محدودية ترجمة د. نائلة الصالحي التي تصيغ العبارة السابقة كالتالي: "من هنا فإننا نفسر اللاموضوعية الدينية للمواطنين الاحرار بلا موضوعيتهم الدنيوية" (ت الصالحي 17)
يقول ماركس: "لا ندعي أن عليهم (المواطنين الاحرار) أن يتخلوا عن محدوديتهم الدينية، ليزيلوا حواجزهم الدنيوية. بل نزعم أنهم سيتخلون عن محدوديتهم الدينية حالما يزيلون حواجزهم الدنيوية" (ت الصالحي 17)
يقول ماركس: إننا لا نحول المسائل الدنيوية إلى مسائل لاهوتية (كما يفعل باور)، وإنما اللاهوتية إلى دنيوية. نحن ندمج الغيبيات في التاريخ بعد أن اندمج التاريخ وقتاً كافياً في الغيبيات. (ت الصالحي 17) هكذا "تصبح مسألة علاقة التحرر السياسي بالدين بالنسبة لنا، علاقة التحرر السياسي بالتحرر الإنساني (البشري)"
يقول ماركس: التحرر السياسي لليهودي والمسيحي والانسان المتدين بشكل عام هو تحرر الدولة من اليهودية والمسيحية ومن الدين بوجه عام." (ت الصالحي 18)
حتى تكون الدولة السياسية لجميع مواطنيها، عليها أن تتحرر من أي دين. "تتحرر الدولة في شكلها، الذي يتضمن جوهرها الخاص (السياسي) كدولة، من الدين بتحررها من دين الدولة، هذا يعني عدم إقرار الدولة ككيان سياسي بأي دين، بل إقرارها بكونها دولة سياسية"
تظهر حدود التحرر السياسي في فجر الدولة على تحرير نفسها من الامتياز الديني، دون أن يعني ذلك أن الانسان متحرراً. لأن الانسان لا يمكنه التحرر من الاغتراب الاقتصادي والديني طالما الدولة قائمة في شكلها السياسي كأداة اكراه وآلة اخضاع وأجهزة عنف منظم.
ليس التحرر السياسي، ومعه الدولة من الدين هو عين تحرر الانسان من الاغتراب الديني. لذلك يجب عدم الخلط بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني.
يقول ماركس: يمكن أن تكون الدولة حرة (جمهورية) دون أن يكون الانسان حراً. يعترف باور نفسه بذلك ضمناً حين يضع الشرط التالي للتحرر السياسي: يجب الغاء كل امتياز ديني بوجه عام بما في ذلك احتكار كنيسة تتمتع بالامتيازات، وإذا كان البعض أو العديد أو الغالبية العظمى لا تزال تعتقد أن عليها أن تؤدي واجبات دينية، فإن هذا الأداء مسألة خاصة تماماً متروكة لها" (ت صالحي 18)
هكذا يمكن للدولة أن تكون انعتقت من الدين، حتى حين تكون الغالبية العظمى متدينة، متدينة في حياتها الخاصة. موقف الدولة من الدين، الدولة الحرة خاصة (الجمهورية الديمقراطية)، إنما هو موقف الناس الذين يشكلون الدولة (رجال الدولة) من الدين وحسب.
إن الانسان من خلال الوسيط الذي هو الدولة يتحرر سياسياً من حاجز (حاجز الامتياز الديني في الدولة) بأن يرتفع فوق هذا الحاجز بطريقة تجريدية ومحدودة وجزئية، متناقضاً مع نفسه" فهو بواسطة تحرر الدولة من الامتياز الديني يتحرر من الحاجز الديني، وهو في حياته الخاصة ما يزال متديناً يخضع للفروض الدينية. وبذلك يبقى الانسان حتى حين يعلن إلحاده بواسطة الدولة، حين يعلن الحاد الدولة (إعلانه لا دينية الدولة)، يبقى مع ذلك متحيزاً للدين، ذلك أنه يعترف بنفسه بطريقة غير مباشرة، من خلال وسيط فقط."
الدين هو الاعتراف بالإنسان بطريقة غير مباشرة، عبر وسيط. يقول ماركس: "فكما أن المسيح وسيط يُحمِّله الانسان كل ألوهيته، كل تحيزه الديني، فإن الدولة هي الوسيط الذي يضع فيه كل بشريته وكل تحيزه البشري" (ت الصالحي 19)
يقول ماركس: يشترك ارتقاء الانسان السياسي فوق الدين مع الارتقاء السياسي بكل النقائص والفضائل بشكل عام"
هذا يعني أنه تماماً مثلما أدى إلغاء دين الدولة إلى عدم الغاء الدين في الحياة المدنية والخاصة، كذلك فإن الغاء امتياز الثروة والملكية الخاصة كشرط للمشاركة العامة في إدارة الدولة لا يعني أبداً الغاء الملكية الخاصة وامتلاك وسائل الإنتاج من قبل الافراد في الحياة الاجتماعية المدنية، بل يعني افتراط وجودها في الحياة المدنية الخاصة.
فحين يتم إقرار الحق العام في الانتخاب والترشح بغض النظر عن ملكية الثروة، يكون من حق غير المالك أن يكون مشرعاً للمالك، وتكون الملكية الخاصة في وضع نموذجي، لأنه آخر شكل من أشكال الدولة السياسية يسمح فيه بالتملك الخاص لوسائل الإنتاج في المجتمع المدني.
هكذا يشكل التعداد العام (الحق العام في الانتخاب والترشّح) آخر شكل سياسي يمكن أن يعترف بالملكية الخاصة. يقول ماركس: "مع النفي السياسي للملكية الخاصة لا ينتفي إلغاء الملكية الخاصة وإنما يصبح شرطاً. تلغي (بموجبه) الدولة فرق الأصل والمكانة الاجتماعية والثقافة والمهنة بطريقتها حين تقرر أن المولد (الأصل) والمكانة الاجتماعية والثقافة والمهنة هي فوارق غير سياسية، وحين تعلن دون مراعاة لهذه الفوارق عن كون كل فرد من أفراد الأمة مشاركاً متساوياً في السيادة الوطنية إذا ما تعامل مع جميع عناصر الامة الحقيقية من وجهة نظر الدولة" ومع ذلك تترك الدولة الملكية الخاصة والمهنة والثقافة تؤثر على طريقتها الخاصة، كملكية خاصة ومهنة وثقافة، مؤكدة طبيعتها الخاصة، تشعر الدولة أنها دولة سياسية وتجعل عموميتها نافذة في مواجهة عناصرها هذه، وفي مواجهة مجتمع مدني يُقر بحق التملك الخاص لوسائل الإنتاج.
يقول ماركس: من هنا فإن هيغل يحدد العلاقة بين الدولة السياسية والدين تحديداً صحيحاً تماماً حين يقول: "كي تقوم الدولة كواقع واع وأخلاقي للعقل، فإنه من الضروري تمايزها عن شكل السلطة والعقيدة. ولكن هذا التمايز لا يظهر إلا بمقدار ما تقوم به الكنيسة من جانبها بالفصل. هكذا فقط اكتسبت الدولة بوقوفها فوق الكنائس الخاصة شمولية الفكر ومبدأ شكلها الذي تظهره للوجود" (هيغل: فلسفة الحق)
بهذا الشكل تجعل العناصر الخاصة الدولة تؤسس نفسها ككلية فوق الجميع.
يقول ماركس: "الدولة السياسية المكتملة طبقاً لطبيعتها هي حياة النوع الإنساني على العكس من حياته المادية" (ت الصالحي 21). حياة النوع الإنساني أي التعبير العمومي الكلي عن حياته التي تتجسد في الدولة السياسية الجمهورية. أي حياة الانسان كشأن عام. أما حياته الخاصة الانانية، فهي حياته المادية في المجتمع المدني (البورجوازي) والتي تشمل الملكية الخاصة والمهنة والثقافة والمكانة الاجتماعية. الدولة تعبير عقلي عن الحياة العامة، بينما يعيش الافراد حياتهم الخاصة الانانية في المجتمع المدني البورجوازي. الدولة تعبر عن كلية المجتمع إذا كانت دولة سياسية متخلصة من الامتيازات على أنواعها.
أما حياة الافراد المادية "فجميع الشروط لهذه الحياة الانانية تبقى موجودة في المجتمع البورجوازي (المدني) خارج مجال الدولة، كخصائص لهذا المجتمع"
فحيثما بلغت الدولة نموها الحقيقي، كدولة سياسية حديثة متخلصة من الامتيازات الدينية والعسكرية والعائلية، يعيش الانسان حياة مزدوجة ليس فقط في الفكر أو الوعي، وإنما في الواقع، في الحياة، حياة سماوية، وحياة أرضية، الحياة في المجتمع السياسي حيث يعتبر نفسه كائناً عاماً والحياة في المجتمع البورجوازي (المجتمع المدني)، حيث يمارس حياته الخاصة، ويعتبر الاخرين وسيلة، ويتحول هو نفسه إلى وسيلة ولعبة في أيدي قوى غريبة."
إن منتوج قوة عمل المجتمع حين لا تكون خاضعة لإشراف الافراد الاحرار المتحدين تنتصب أمامهم كقوة غريبة فوق إرادتهم. وهذا ما يسمى بالاغتراب الاقتصادي.
"تقف الدولة السياسية إزاء المجتمع البورجوازي (المدني) بمثل روحانية السماء تجاه الارض " (ت الصالحي 22)
وبنفس الطريقة، وكما أن العالم الدنيوي ينشئ العالم الديني ويخضع لهيمنته في النهاية، كذلك الامر في علاقة الدولة بالمجتمع المدني، حيث ينشئ المجتمع المدني الدولة ويعود في نهاية الانشاء ليخضع لها.
الانسان في واقعه الأكثر مباشرة في المجتمع المدني (البورجوازي) هو كائن دنيوي. هنا حيث يعتبر بالنسبة لذاته وللأخرين فرداً يكون ظاهرة غير حقيقية. "، لأن هذه الحياة الفردية هي شطر واحد من حياته الكلية، حيث الشطر الاخر يكون في حياته العامة، في حياة الدولة كحياة عامة للأفراد.
على العكس، في الدولة حيث يعتبر الانسان كنوع (كائناً عاماً) يكون العضو الخيالي لسيادة وهمية، وتسرق منه حياته الفردية الحقيقية وتملأ بجماعية غير واقعية" لأن هذه الجماعية التي هي حياة الدولة لا تعبر عن كلية حقيقية للمجتمع، بل تعبر عن سيادة طبقة مهيمنة ومسيطرة على كامل المجتمع. إن هذه الدولة (النقابة) لا تُعبّر عن مصلحته الحقيقية إذا كان ينتمي كفرد إلى واحدة من الطبقات الهامشية.
"إن الصراع الذي يجد الانسان نفسه فيه كمعتنق لدين خاص (اليهودي مثلاً) وكمواطن لدولة مع الناس الاخرين كأعضاء في المجتمع، يتقلص إلى الانشطار الدنيوي بين الدولة البورجوازية والمجتمع المدني"
اليهودي الذي ولاءه للشريعة كمتدين من جهة، وللدولة كمواطن من جهة أخرى، يختزل انشطاره هذا إلى انشطار في الولاء موزع بين الدولة والمجتمع المدني البورجوازي، بين حياته العامة الوهمية، وحياته الخاصة المادية الظاهرية.
اليهودي الدنيوي كمنصاع للشريعة يعيش حياة سفسطائية وهمية، والبورجوازي يبقى في حياة الدولة سفسطائيا كاليهودي في حياة الشريعة. هكذا يبقى المواطن سفسطائيا في حياة الدولة يهودياً كان أو بورجوازياً. هذه السفسطة ليست شخصية إنها سفسطة الدولة السياسية، كما هي سفسطة الشريعة بالنسبة للحياة الدنيوية.
الانسان في التدين له حياة خاصة تقف مقابل المواطنة كحياة عامة، مثلها مثل التاجر كصاحب مهنة خاصة تقف مقابل المواطنة كحياة سفسطائية عامة. اليهودي مقابل المواطن كالتاجر أو الطبيب مقابل المواطن، أي الخاص مقابل العام. (ت الصالحي)
يقول ماركس: "هذا النزاع الدنيوي الذي تُخفض فيه المسألة اليهودية في أخر الامر، علاقة الدولة السياسية باشتراطاتها، سواء كانت هذه (الاشتراطات) عناصر مادية مثل الملكية الخاصة وما إلى ذلك، أو فكرية (ثقافية) مثل التعليم والدين، (النزاع الدنيوي) أو الصراع بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، (إنه) الانشطار بين الدولة السياسية والمجتمع المدني (البورجوازي). يترك باور هذه التناقضات الدنيوية قائمة، بينما يطعن في التعبير الديني عنها"(ت الصالحي 23)
يشيد ماركس بنص هيغل في "فلسفة الحق" بالتقابل مع صياغة باور، حيث يقول: "يعترف (نص هيغل) بالمجتمع البورجوازي في تناقضه مع الدولة السياسية كضرورة، لأن الدولة السياسية معترف بها كضرورة"
يتحرر الانسان سياسياً (في الدولة) من الدين بإقصائه من الحق العام إلى الحق الخاص. لم يعد الدين جوهر المجموع إنما جوهر الاختلاف. لذلك لم يعد الدين، أي دين، يصلح ليكون حلا لمسألة التحرر السياسي للدولة وإنضاجها كدولة سياسية حديثة. لم يعد من معنى لشعار أحزاب الإسلام السياسي "الإسلام هو الحل من معنى" لأن الإسلام كدين بات مسألة خاصة وموضع اختلاف مقابل الدولة السياسية الحديثة التي هي موضع اجتماع. لم يعد الإسلام جوهر المجموع، وإنما جوهر الاختلاف.
إن التشظي النهائي للدين في أميركا الشمالية مثلاً يعطيه ظاهرياً شكل قضية خاصة محضة.
على أنه يجب ألا يعترينا الوهم بشأن حدود التحرر السياسي. "إن انشطار الانسان إلى إنسان عام وآخر خاص ونقل الدين من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، ليسا مرحلة وإنما هما اكتمال التحرر السياسي الذي لا يلغي التدين الحقيقي للإنسان كما لا يسعى لإلغائه" (ت الصالحي 24)
إن تفكيك الانسان إلى متدين ومواطن هو الطريقة السياسية للتحرر من الدين. يسعى التحرر الإنساني هنا أن يحقق نفسه في صورة التحرر السياسي، وهي صورة أولى صورته النهائية هي التحرر من الدين، وهذا لا يكون إلا مع اضمحلال الدولة في الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي. وبعد أن تثور الدولة البورجوازية وتخوض صراعاً مع شروط حياتها الخاصة كالدين والثقافة والملكية الخاصة، تنتهي بالضرورة بإعادة الدين والملكية الخاصة وجميع عناصر المجتمع المدني (البورجوازي) إلى المجتمع المدني ويحل السلام.
الدولة الملحدة، الدولة من دون دين، هي الدولة الديمقراطية، الدولة التي تضع الدين ضمن باقي عناصر المجتمع المدني (البورجوازي) الخاصة، أما الدولة الدينية فهي دولة مخفضة بإعطائها واحد من الأديان امتيازاً برفعه إلى مصاف العمومية. وهذا الرفع للدين يخفض الدولة السياسية ويجعلها غير ديمقراطية، وناقصة سياسياً. الدولة الإسلامية أو الدولة المسيحية دولة مخفضة ناقصة غير ديمقراطية، ولن تغدو دولة ديمقراطية سياسية حقاً لجميع مواطنيها سوى بنزع الطابع الديني عنها.
الدولة الدينية ليست تحقيقاً للدين من قبل الدولة بأي حال من الأحوال. ما يسمى بالدولة الدينية هي الدولة غير المكتملة، والدين بالنسبة لها تكملة وعلاج لنقصها (نظراً لشعبية الدين). من هنا يصبح الدين بالنسبة لها وسيلة، وتتحول إلى دولة النفاق أو دولة منافقة.
الدولة الديمقراطية الحقيقية لا تحتاج إلى الدين من أجل اكتمالها السياسي. أكثر من ذلك فهي تستطيع أن تطرح جوانب كثيرة من الدين لأن الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بطريقة دنيوية"
يقول ماركس بعد أن يستعرض رأي باور بالدولة الجرمانية المسيحية، وبعد أن يشير إلى أن تبني الدولة للدين يقود إلى إفقار مزدوج، افقار كل منهما للآخر. ويقول: "فقد أظهرنا أن التحرر السياسي من الدين يدع الدين قائماً لكن دون امتيازات"، يدعه قائماً كحياة خاصة في المجتمع المدني (البورجوازي).
يعيد ماركس هنا استنتاجاته بالقول: اكتمال الدولة المسيحية هو الدولة التي تقر بكونها دولة وتنفصل عن دين أعضائها. وتحرر الدولة من الدين ليس هو تحرر الانسان الحقيقي من الدين"، أي ليس هو تحرر المجتمع المدني من الدين؛ ليس هو تحرر الافراد من الاغتراب الديني.
وكما تكون الدولة مسيحية (انجيلية) رغم أنها دولة وتتصرف كدولة مسيحية تجاه اليهودي، فإن اليهودي يتسيَّس، رغم أنه يهودي ويطالب بحقوقه المدنية-السياسية (حقوق المواطنة).
الدولة الدينية تجعل الفُرَق الدينية تتسيَّس، أي تُحوّل الفرقة الدينية إلى "حزب سياسي" يطالب أعضاءها بالمساواة السياسية، المساواة كمواطنين.
يقول ماركس: إننا بالعكس من باور لا نقول لليهود: لا يمكنكم أن تتحرروا سياسياً دون أن تتحرروا جذرياً من اليهودية. بل إننا نقول لهم أكثر من ذلك: لأنكم تستطيعون أن تتحرروا سياسياً دون أن تتحرروا نهائياً من اليهودية، لذلك فإن التحرر السياسي ليس هو التحرر الإنساني. النقص والتناقض لا يكمن فيكم، بل يكمن في جوهر وفي مصطلح التحرر السياسي " (ت الصالحي 33)
لكن إذا استطاع اليهودي أن يتحرر سياسياً، ويحصل على حقوق المواطنة، هل يستطيع أن يطالب بما يسمى حقوق الانسان أو الحقوق المدنية كباقي المواطنين؟ ينكر باور هذا ويقول: "المسألة ما إذا كان اليهودي كيهودي، بمعنى اليهودي الذي يقرّ لنفسه أنه مرغم بسبب جوهره الحقيقي (التزامه الحرفي بالشريعة الموسوية) أن يعيش منفصلاً عن الآخرين إلى الابد، قادراً على تلقي حقوق الانسان العامة والاقرار بها للآخرين"
ينقل ماركس مقتطفين كبيرين من باور من أجل النقاش والسجال: "لم تكتشف فكرة حقوق الانسان في العالم المسيحي إلا في القرن الثامن عشر (قرن الثورة الفرنسية). هذه الحقوق المدنية لا يملكها الانسان بالولادة، بل هي تنتزع في الكفاح ضد التقاليد التاريخية التي نشأ عليها الانسان حتى الان. هي ثمن كفاح ضد صدفة الميلاد وضد الامتيازات التي أورثها التاريخ من جيل إلى جيل حتى الان. وهي نتيجة للتعليم ولا يستطيع أن يمتلكها إلا من اكتسبها واستحقها "
"هل يستطيع اليهودي أن يمتلكها فعلاً؟ إنه ما دام يهوديا فإن الجوهر المحدود الذي يجعل منه يهودياً ويفصله عن غير اليهود، ينتصر حتماً على الجوهر الإنساني الذي يفترض فيه أن يربطه كإنسان بالبشر الآخرين “. "بنفس الطريقة لا يستطيع المسيحي أن يكفل حقوق الانسان كمسيحي" يقول ماركس: "على الانسان كما يرى باور أن يضحي "بامتياز العقيدة" ليستطيع تلقي حقوق الانسان العامة" ويضيف ماركس: فلنتأمل لحظة ما يسمى بحقوق الانسان في شكلها لدى مكتشفيها الاميركيين الشماليين والفرنسيين.
يقول ماركس: هذه الحقوق هي حقوق سياسية في جزء منها، حقوق لا يمكن ممارستها إلا ضمن الجماعة. فالمشاركة في الجماعة تشكل محتواها، وبالذات في الجماعة السياسية، في الدولة."
هذه الحقوق الإنسانية السياسية تندرج تحت مصطلح الحريات السياسية، تحت مصطلح الحقوق المدنية التي لا تشترط بأي حال من الأحوال إلغاء الدين الإيجابي الخالي من التناقضات (الغاء الدين من المجتمع المدني البورجوازي).
الدين الإيجابي ومنه اليهودي الخالي من التناقضات تعني الدين البعيد عن الحياة السياسية والمقتصر على الحياة الخاصة للأراد وعلى وجدانهم دون أي تسييس.
لكن حقوق الانسان لا تقتصر على الحقوق السياسية، حقوق المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية، بل هناك حقوق إنسان أخرى. "تدخل في إطارها حرية الضمير، حق ممارسة العبادة التي يريدها المرء (بما في ذلك الالحاد) " (ت الصالحي 35)
يعترف بامتياز العقيدة وحق ممارستها بصورة مؤكدة إما مباشرة كحق من حقوق الانسان، أو كتبعة لحق من حقوق الانسان هو الحرية" أي تكون متضمنة في حق الحرية.
جاء في المادة العاشرة من إعلان حقوق الانسان بعد قيامة الثورة الفرنسية 1791: "لا ينبغي أن يضايق أي إنسان بسبب قناعاته، بما فيها الدينية"
وقد كفل دستور 1791 (دستور الثورة الفرنسية) في الباب الأول "حرية كل فرد في ممارسة العبادة التي ينتسب إليها، كحق من حقوق الانسان" (ت الصالحي 35). ويورد إعلان حقوق الانسان عام 1793، المادة السابعة "حرية ممارسة العبادات" وجاء ذلك في سياق حق الانسان في نشر أفكاره وآرائه وعقد الاجتماعات وممارسة العبادة.
إن ضرورة هذا الإعلان تفترض وجود الاستبداد أو ذكراه القريبة. (ت الصالحي 35)
في دستور بنسلفانيا، المادة التاسعة، الفقرة الثالثة: "لا يمكن أن يرغم أحد بحكم القانون أن يقرّ بأي عبادة أو إله، أو يمارسها أو يساندها خلافاً لرغبته. ولا يجوز في أي حال من الأحوال أن تتدخل أي سلطة بشرية في قضايا الضمير وتسيطر على قوى الروح" (ت الصالحي 36).
إذا حسب الدساتير الفرنسية بعد الثورة (1789) وحسب دساتير بعض الولايات في أميركا الشمالية تدخل "حقوق الضمير" ضمن حقوق الانسان المدنية. إن حق الاعتقاد الديني وغير الديني هو حق عام من حقوق الانسان المدنية.
يقول ماركس: لقد جرى التمييز بين حقوق الانسان وحقوق المواطن" أي التمييز بين الحقوق المدنية الخاصة (الحقوق الخاصة في المجتمع المدني) وبين حقوق المواطنة التي هي الحقوق السياسية أي الحق في المشاركة السياسية وإدارة الدولة ومؤسساتها. والحق في إنشاء الأحزاب السياسية والمشاركة فيها والنشاط السياسي عبرها.
لكن من هو الانسان المتميز عن المواطن؟ إنه لا أحد سوى عضو المجتمع المدني (البورجوازي)
فمن خلال علاقة الدولة السياسية بالمجتمع المدني (البورجوازي)، وبعد أن تحررت الدولة السياسية الجمهورية الديمقراطية من كل اشتراط خاص، ومن كل امتياز خاص، وهو جوهر التحرر السياسي، نثبت قبل كل شيء أن ما يسمى بحقوق الانسان (وهي خلاف حقوق المواطن)، ليست سوى حقوق أعضاء المجتمع المدني (البورجوازي)، هذا يعني (حقوق) الانسان الاناني، الانسان المنفصل عن الناس والمجموع (حقوقه الخاصة)"
ينبغي على الدستور الأكثر جذرية للثورة الفرنسية، دستور 1793 أن يقول: "إعلان حقوق الانسان وحقوق المواطن" (ت الصالحي 37)
تترجم د. نائلة الصالحي كلمة مجتمع مدني بمجتمع بورجوازي لأن الكلمة في الألمانية والتي استخدمها هيغل في "فلسفة الحق" هي (Bürgerliche) تعني "مدني" و "بورجوازي" في نفس الوقت. شكّل سكان المدن المُجمّع الذي يمكن استخلاص مسؤولي المدينة (سياسي المدينة) منه، وشكّلت عائلاتهم المباشرة الطبقة الاجتماعية للبرجوازية في (أواخر) العصور الوسطى. (Bürger) لقب مواطن متميز في مدينة أوروبية من نهاية العصور الوسطى إلى أوائل العصر الحديث.
المادة الثانية من دستور 1793: "هذه الحقوق (الحقوق الطبيعية والحتمية) هي: المساواة، والحرية، الأمن، والملكية (الخاصة)"
الحرية حسب إعلان حقوق الانسان لعام 1791: "تتمثل الحرية في الحق في فعل كل ما لا يضر بالآخرين". أما الحدود التي يستطيع كل فرد أن يتحرك فيها دون أن يضر بالآخرين فيحددها القانون كما يرسم وتد السور الحدود بين حقلين. يتعلق الامر بحرية الانسان كوحدة معزولة منطوية على ذاتها (مونادة).
يقول ماركس: لماذا لا يستطيع اليهودي، حسب رأي باور، تلقّي حقوق الانسان؟
يجيب باور: ما دام يهودياً يكون على الجوهر المحدود الذي يجعل منه يهودياً أن ينتصر على الكيان البشري (على الجوهر الإنساني)، وهو يفترض أنه (الجوهر المحدود) ما يربطه كإنسان بالبشر، ويفصله عن غير اليهود" يعلق ماركس: لكن حق الانسان في الحرية لا يستند إلى ارتباط الانسان بالإنسان بل بالأحرى إلى انفصال الانسان عن الانسان، إنه حق هذا الانفصال، حق المحدودية، محدودية الفرد بذاته" (ت الصالحي 38)
"إن الاستخدام العملي لحق الانسان في الحرية هو حق الانسان في الملكية الخاصة" جاء في المادة 16 من دستور 1793: "حق الملكية هو حق كل مواطن أن يتمتع كما يريد بممتلكاته، ومدخولاته وثمار عمله واجتهاده ويتصرف بها " (ت الصالحي 38)
حق المنفعة الذاتية هذه، تلك الحرية الفردية، وهذا الاستخدام لها، يشكلان أساس المجتمع البورجوازي. إنها تترك لكل إنسان أن يجد في الانسان الاخر حدود حريته وليس تحقيقها." الانسان الاخر هنا في هذا المقام عقبة أمام الانسان لا وسيلة له.
تبقى حقوق الانسان في "المساواة والامن" وهي المساواة أمام القانون لجميع المواطنين. "تتمثل المساواة في أن ينطبق نفس القانون على الجميع، سواء حين يحمي أو يعاقب" (المادة 3 دستور 1795) (ت الصالحي 39)
والأمن: المادة 8 من دستور 1793: يتمثل الامن في الحماية التي يكفلها المجتمع لكل عضو من أعضائه لحفظ شخصه وحقوقه وملكيته"
الامن هو أعلى مفهوم للمجتمع البورجوازي، مفهوم الشرطة، إن المجتمع بأكمله موجود فقط ليكفل لكل من أعضائه المحافظة على شخصه وحقوقه وملكيته. يسمي هيغل المجتمع المدني (البورجوازي) بهذا المعنى: "دولة الحاجة والعقل"
يقول ماركس: لا يرتقي المجتمع البورجوازي من خلال مفهوم الامن فوق أنانيته. فالأمن بالأحرى هو ضمان أنانيته"
يقول ماركس: إذن فلا يتجاوز مما يسمى حقوق الانسان الانسان الاناني، فالإنسان كعضو في المجتمع البورجوازي، منطو على نفسه وعلى مصالحه الخاصة ورغباته الخاصة، وفرد منفصل عن المجموع. تبدو حياة النوع الإنساني نفسه، المجتمع، كإطار خارجي للأفراد وتقييد لاستقلالهم الأصلي. والرابطة الوحيدة التي تمسك بها هي الضرورة الطبيعية، الحاجة والمصلحة الخاصة، أي حفظ ملكيتهم وشخصهم الاناني.
إنه لسر أن شعباً قد بدأ تواً بتحرير نفسه وهدم جميع الحواجز بين أعضاء الشعب المختلفين وتأسيسي جماعة سياسية، أن مثل هذا الشعب يعلن محتفلاً مشروعية الانسان الاناني المفصول عن الناس والمجموعة. بل ويعيد هذا الإعلان في لحظة لا يستطيع أن ينقذ الامة فيها إلا العطاء البطولي (الخالي من كل أنانية) " (ت الصالحي 40)
تصبح هذه الواقعة أكثر إلغازاً وغموضاً حين نرى أن المواطنة، أن المجموعة السياسية (الدولة)، تنحدر من التحرر السياسي وتصبح مجرد وسيلة للمحافظة على ما يسمى بحقوق الانسان هذه، أي أن المواطن (الانسان العام) يصبح خادماً للإنسان الاناني (ملكيته ومصالحه الخاصة). إن المجال الخاص يهيمن على المجال العام، ويغدو الانسان الحقيقي ليس المواطن في وجوده السياسي العام، بل الانسان البورجوازي ومصالحه الخاصة.
يقول ماركس: وهكذا تعلن الحياة السياسية، حتى في لحظات حماسها الفتي الذي دفعه ضغط الأوضاع إلى الذروة، أنها مجرد وسيلة هدفها حياة المجتمع البورجوازي." (ت الصالحي 41)
إن حق الانسان في الحرية ينتفي حالما يدخل في نزاع مع الحياة السياسية، بينما الحياة السياسية طبقاً للنظرية (والقانون) هي الضمان لحقوق الانسان البورجوازي الخاصة. أي حقوق الانسان الأناني الفرد.
يقول ماركس: يبقى علينا حلّ اللغز: لماذا تقلب الأوضاع رأساً على عقب (كما تقلب الشبكية ظل (شبح) الاشكال) في وعي المحررين السياسيين فتبدو الغاية وسيلة والوسيلة غاية. لا يزال خداع وعيهم البصري هذا نفس اللغز مع أنه لغز نفسي ونظري؟
في المجتمع الاقطاعي تظهر سلطة الدولة العامة كشأن خاص لحاكم اقطاعي معزول عن الشعب ولخدمه. هذا التنظيم لحياة الشعب لم يرفع الملكية أو العمل (الملكية عمل مستلب) إلى مستوى العناصر الاجتماعية، لم يحررها كعناصر خاصة في المجتمع المدني (البورجوازي)، بل أبقاها، وهكذا بقيت وظائف حياة وظروف المجتمع البورجوازي سياسية، وإن كانت سياسية بما يلائم الاقطاع. أي أن الملكية الخاصة تم انفصالها عن الدولة ككل (كشأن عام) وأنشأ منها مجتمعات خاصة داخل المجتمع.
هذه الأشكال من التنظيم فصلت الفرد عن الدولة ككل، وحولت العلاقة الخاصة لنقابته بالدولة ككل إلى علاقته الشخصية بعامة الشعب، كما حولت عمله ووضعه البورجوازي المحددين إلى عمل ووضع عام.
بكلام آخر: البورجوازي في النقابة في نظام اقطاعي له شكل البرزخ أو الوسيط: فهو بحكم ملكيته النقابية وعمله فيها له امتياز سلطة سياسية عامة يمارس هذه السلطة السياسية تجاه عامة الشعب بشخصه أي بكونه شخص ذو نفوذ اجتماعي وسياسي. النقابة من جهة السياسة والشخص من جهة الشعب. وكنتيجة لهذا التنظيم تبدو وحدة الدولة كذلك بالضرورة، كما يبدو الوعي والإرادة وعمل وحدة الدولة وسلطة الدولة العامة، كشأن خاص لحاكم معزول عن الشعب ولخدمه. كشأن خاص لوجيه من أعيان المدن.
إن الثورة السياسية (البورجوازية) التي أسقطت هذه السلطة (هذا الشكل الاقطاعي من التنظيم الاقتصادي للمجتمع) وجعلت شؤون الدولة شؤون الشعب كله (شأناً عاماً بالفعل)، وأقامت الدولة السياسية كشأن عام، أي كدولة حقيقية، حطمت بالضرورة جميع المراتب (الطبقات في التنظيم الاقطاعي) والطوائف المهنية والنقابات والامتيازات وكذلك التعبيرات الكثيرة التي تفصل بين الشعب وكيانه العام (الدولة السياسية). كل تنظيمات الفصل هذه أزيلت بضربة واحدة من ضربات الثورة السياسية البورجوازية. ألغت الثورة السياسية بذلك الطابع السياسي للمجتمع البورجوازي، ألغت هذا الخلط بين المدني والسياسي للملكية الخاصة البورجوازية وجعلت منها شأناً خاصاً بالمجتمع المدني البورجوازي. لقد فككت المجتمع البورجوازي إلى عناصره البسيطة: حياته المدنية الخاصة من جهة، وحياته النوعية السياسية من الجهة الأخرى. الأفراد من ناحية والعناصر المادية الخاصة والروحية السياسية العامة التي تشكل معنى الحياة والوضع البورجوازي لهؤلاء الافراد من ناحية أخرى. لقد جمعت العقل السياسي من هذا الشتات وحررته من اختلاطه بالحياة البورجوازية الخاصة (حياة الملكية والعمل النقابي) وشكلته كبيئة للكيان العام (كيان الدولة السياسية البورجوازية)، كشأن شعبي عام في استقلال مثالي (مجرد عام) عن تلك العناصر الخاصة للحياة البورجوازية (الملكية الخاصة وتنظيم العمل). لم يعد للمهنة المحددة وشكل تنظيم العمل معنى سياسي عام، لم يعد لها سوى معنى فردي خاص. لم تعد المهنة وشكل تنظيم العمل يشكلان العلاقة العامة للفرد بالدولة كامتياز عام لهذا الفرد، بل أصبح الشأن العام بحد ذاته شأناً عاماً لكل فرد وأصبحت الوظيفة السياسية وظيفة عامة منفصلة عن المهنة والملكية الخاصة وعن شكل تنظيم العمل.
يمكن التعبير عن الوضع الجديد بهذا القول المقتضب: كان اكتمال مثالية الدولة (تجريدها) هو في نفس الوقت اكتمال مادية المجتمع المدني البورجوازي.
لقد انحل المجتمع الاقطاعي في الانسان الذي هو أساسه، في الانسان الاناني البورجوازي.
هذا الانسان الاناني، الذي هو الآن عضو المجتمع المدني البورجوازي هو الآن أساس وشرط الدولة السياسية. وقد أعتُرف به بهذه الصفة في حقوق الانسان.
في هذه الحركة التحررية التاريخية (الثورة الديمقراطية البورجوازية)، حصل الانسان على الحرية الدينية في المجتمع البورجوازي، لكنه لم يتحرر من الدين (لم يتخلص من الاغتراب الديني). لم يُحرر من الملكية الخاصة لكنه وإنما حصل على حرية الملكية الخاصة في المجتمع، لم يُحرر من أنانية المهنة وإنما حصل على حرية المهنة.
الخلاصة: تمت إقامة الدولة السياسية وانحل المجتمع البورجوازي إلى أفراد مستقلين عن بعضهم، يحدد القانون علاقتهم، كما كانت الامتيازات في النظام الاقطاعي تحدد علاقات الطوائف المهنية والنقابات بالدولة والشعب. الانسان كعضو في المجتمع البورجوازي، الانسان الاناني غير السياسي، يظهر بالضرورة الانسان الطبيعي. وتبدو حقوق الانسان حقوقاً طبيعية، حيث أن النشاط الواعي والعام يتركز في الفعل السياسي.
الانسان الاناني هو النتيجة السلبية القائمة للمجتمع الاقطاعي المُنحل، هذه الانسان الاناني هو موضوع اليقين المباشر، يمكن الإمساك به في الفكر كشيء طبيعي. لقد فككت الثورة السياسية الحياة البورجوازية إلى مكوناتها الخاصة والعامة دون أن تدخل الثورة إلى هذه المكونات أو تتناولها بالنقد. سيكون هذا الدخول وهذا التناول بالنقد من مهمات الثورة الاشتراكية اللاحقة.
يعتبر الانسان كعضو في المجتمع المدني البورجوازي، الانسان الحقيقي الذي يختلف عن المواطن، لأنه الانسان في وجوده الفردي المحسوس المباشر، بينما الانسان السياسي هو الانسان المُجرّد المُصطنع فقط، الانسان كشخص معنوي أخلاقي. ولا يتعرف على الانسان الحقيقي إلا في هيئة الفرد الاناني، لا في هيئة المواطن المُجرَّد.
الانسان في الدين يحول ذاته إلى الذات الإلهية. لذلك فكل تحرر للإنسان هو استعادة العالم البشري والعلاقات إلى الانسان ذاته.
في الطور الأعلى من الشيوعية يكون الانسان قد تعرّف على قواه الخاصة كقوى اجتماعية ونظّمها، فلا تنفصل القوة الاجتماعية في هيئة قوة سياسية مجرّدة، بل تبقى قوة الافراد المنظمين المتحدين بوعيهم وإرادتهم الكاملة، عندها فقط يكون التحرر الإنساني قد تحقق، ويظهر الانسان في كماله ويغدو الدين نافلاً ويغيب كل اغتراب ديني.
"قدرة يهود ومسيحي اليوم على التحرر". بهذه الصيغة يعالج باور علاقة الدين اليهودي بالدين المسيحي وعلاقتهما بالنقد.
بالنسبة لنقد باور، تعتبر المسيحية اكتمال تطور اليهودية، حيث بقيت اليهودية غريبة عن هذا التطور وهذا الاكتمال، وأنكرته. حتى يتحرر المسيحي سياسياً عليه أن يرتقي درجة فوق دينه، أن يتحرر من الدين بشكل عام، "أي ان يصبح حراً" أما اليهودي فعليه القيام بمهمة مزدوجة، ليس فقط التخلص من جوهره اليهودي، بل أن يستوعب التطور المسيحي لدينه وان ينتهي من ذلك أيضا. وهكذا يحول باور مسألة التحرر السياسي لليهودي إلى مسألة دينية بحتة. لم يعد السؤال مطروحاً: هل تحرر اليهودية أم المسيحية الانسان؟ بل بالعكس: ما الذي يحرر أكثر نفي اليهودية أم نفي المسيحية؟
يقول باور: إذا أراد اليهود أن يتحرروا فإنه لا يجوز لهم اعتناق المسيحية، وإنما المسيحية الملغاة، الدين الملغى بوجه عام. هذا يعني اعتناق التنوير، اعتناق النقد (اللاهوتي) ونتائجه، الإنسانية الحرة"
يطالب باور اليهود بالتخلي عن جوهر الدين المسيحي، وهذه المطالبة لا تنبثق من تطور الجوهر اليهودي. بمعنى آخر إن تطور جوهر الدين اليهودي لا يقود إلى التخلي عن الدين المسيحي. لم يدرك باور في نهاية المسألة اليهودية، الديانة اليهودية إلا عبر نقد المسيحية الديني الفج لها. فلا تكتسب المسألة لديه إلا أهمية دينية. يمكن الاستنتاج بأن تحرر اليهود قد تحول لديه إلى عمل فلسفي لاهوتي.
يصوغ باور الجوهر المثالي المجرّد لليهودي، أي دينه كجوهر كلي له. ويستنتج وهو في ذلك على حق: "لا يعطي اليهودي للبشرية شيئاً، حين يغفل تطبيق قانونه المحدود" أي طالما أن اليهودي في خضوعه الكلي للشريعة اليهودية، يعيش حياة وهمية انطوائية، فهو بتخليه عن هذا الوهم (عن دينه اليهودي) لا يقدم ولا يوخِّر بالنسبة للجنس البشري.
تصبح العلاقة وفقاً لنقد باور كالتالي: المصلحة العامة للمسيحي في تحرر اليهودي هي إنسانية عامة. وحتى يستطيع اليهودي التحرر والمشاركة في الجوهر الإنساني للمسيحي عليه أن يتحرر من يهوديته ومن المسيحية عبر "نقد الاناجيل الأربعة" و"حياة يسوع"، وهي من أعمال باور.
يقول باور: عليهم أنفسهم أن يروا: سيقررون مصيرهم بأنفسهم، فالتاريخ لا يسمح أن يُسخر منه" ومن سخرية التاريخ وتواطؤ الرأسمالية الاستعمارية أن يقرر اليهود مصيرهم بمعيّة القوة الاستعمارية للرأسمالية ويناء دولة يهودية لهم في فلسطين.
"في عام 1843 كان المشروع الصهيوني قيد الطبخ والانضاج عند نفر من الناس. بعد طرد إبراهيم باشا من بلاد الشام (سوريا) 1841 على يد بريطانيا العظمى وحلف الدول العظمى والخليفة العثماني وحلف عدد من الطوائف في لبنان، كتب بالمرستون (وزير الخارجية البريطاني) إلى سفيره في الاستانة يدعوه إلى أن يوصي السلطان (العثماني) بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ضد خطر عودة محمد علي أو أحد حلفائه. قبل ذلك جرى تمهيد متنوع فكري (نظري) وتنظيمي في أوساط أدبية ولاهوتية (الكنيسة الانجليكانية، وهي كنيسة بروتستانتية تضم كنيسة إنكلترا والكنائس المرتبطة بها تاريخياً)، وانضم إليه ملك بروسيا وبعض رجال الكنيسة اللوثرية البروسية"
(راجع الاب حجّار في كتابه غير المترجم: أوروبا ومصائر الشرق الأدنى 1815-1848)، الوحدة العربية، الارساليات المسيحية، المسألة السورية-الفلسطينية والسورية اللبنانية. الكتاب منشور بالفرنسية 1970.). (نقلا عن مقدمة مرقص لترجمته كتاب باور-ماركس: حول المسألة اليهودية)
يضيف مرقص" في بحث برونو باور (موضوع الترجمة) سيجد القارئ، أكثر من تلميح لهذه النقطة التاريخية من زاوية اللاهوت ونقد اللاهوت"
يقول ماركس: إننا نحاول أن نحطم الصيغة اللاهوتية للمسألة" اليهودية (ت الصالحي 51)
يقول ماركس: تحيلنا مسألة قدرة اليهودي على التحرر إلى مسألة أخرى: ما هو العنصر الاجتماعي الخاص الذي يجب التغلب عليه لإلغاء اليهودية؟ فقدرة يهود اليوم على التحرر هي علاقة اليهودية بتحرر عالمنا الراهن. تتأتى هذه العلاقة بالضرورة من الموقع الخاص لليهودية في عالمنا المستعبد الراهن."
يجب التركيز على العبارات التالية: العنصر الخاص الذي يجب التغلب عليه
علاقة اليهود بتحرر عالمنا الراهن: هل هي علاقة طردية أم عكسية، خاصة وأن اليهود يطردون جميع الشعوب من حظيرة الرب، وينفردون بنعمته وامتيازاته.
الموقع الخاص لليهود في عالمنا الذي ما يزال يرزح تحت نير العبودية عبر سيطرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعبادة المال.
حتى نركز على العنصر الخاص الذي يجب التغلب عليه، علينا أن نتأمل اليهودي الدنيوي الواقعي، اليهودي في حياته اليومية، وليس اليهودي الديني، يهوديّ السبت كما يفعل باور.
يقول ماركس: لن نبحث عن سر اليهودي في دينه وإنما عن سر الدين اليهودي في اليهودي الواقعي.
لكن، ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ إنها الحاجة العملية والمنفعة الخاصة.
ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة
ما هو إلهه الدنيوي وربه؟ المال
نستنتج: سيكون التحرر من التجارة والمال، أي من اليهودية العملية الواقعية تحرير عصرنا لنفسه. إن تنظيماً للمجتمع يلغي التجارة، سيجعل وجود اليهودي مستحيلاً. وسيتلاشى وعيه الديني مثل بخار باهت في هواء الحياة الحقيقية للمجتمع. وإذا أقر اليهودي ببطلان جوهره العملي هذا وعمل على إلغائه، فإنه يعمل انطلاقاً من تطوره حتى هذا الوقت، في التحرر البشري العام وينقلب ضد أقوى تعبير عملي للاغتراب الإنساني عن الذات " وهو الاغتراب الاقتصادي للإنسان؛ اغتراب الانسان عن نتاج قوة عمله.
إننا هنا نتعرف في اليهودية على عنصر لا اجتماعي عام راهن دُفع إلى ارتفاعه الحالي من خلال التطور التاريخي (صعود البورجوازية وعالمية التجارة) الذي أسهم فيه اليهود من هذه الناحية السيئة بحماسة، إلى ارتفاع لا بد له فيه من الانحلال (والالغاء).
يقول ماركس بناء على ذلك: "إن تحرر اليهودي هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية"
لكن اليهودي في عصرنا الرأسمالي البورجوازي قد تحرر فعلاً على طريقته اليهودية، يكتب باور: "إن اليهودي الذي لا يُقبل في فيينا مثلاً إلا على مضض، يتحكم من خلال سلطته المالية بمصير المملكة كلها. واليهودي الذي يمكن أن يكون بلا حقوق في أصغر دولة ألمانية يقرر مصير أوروبا" (ت الصالحي 53) ويضيف باور: "وبينما تبقى الطوائف المهنية والروابط (النقابات الحرفية في العصور الوسطى) مقفلة أمام اليهودي أو لا تميل إليه، تسخر شجاعة الصناعة (البورجوازية الحديثة) من تعنُّت مؤسسات القرون الوسطى" (باور: المسألة اليهودية)
ليست كلام باور حقيقة فحسب، بل أكثر من ذلك: "لقد تحرر اليهودي على الطريقة اليهودية، ليس فقط بامتلاكه سلطة المال وإنما أيضاً أصبح المال من خلاله وبدونه سلطة عالمية، وأصبحت روح اليهودي العملية الروح العملية للشعوب المسيحية. لقد تحرر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهوداً". لم يقم اليهودي دولته في فلسطين بجهوده فقط، بل بمعية الامبراطوريات الرأسمالية.
إن الانسان البورجوازي المعاصر عبد للمال، عابد للوثن الأكبر الذي كاهنه الكاهنة لاوكون ساكنة أمريكا الشمالية (إنكلترا الجديدة) التي لا تبذل أقل جهد لتتحرر من الافاعي التي تلتف حولها. ليست الأرض في نظر هذه الكاهنة سوى بورصة. إن هذا الوثن الانثى لا قدر لها في هذه الدنيا سوى أن تصبح أغنى من جيرانها. لقد سيطرت التجارة على جميع أفكارها، وأصبحت تسليتها الوحيدة تغيير الأشياء (shoping، تحمل حين تسافر أمتعتها التافهة أو مكتب تجارتها على ظهرها ولا تتحدث عن شيء غير الفوائد والارباح. وإذا غابت تجارتها عن أعينها لحظة فإنما يحدث ذلك فقط لتتجسس على الاخرين"
قلنا في مقالتنا المنشورة "الصنمية السلعية وسرها": "الصنم “أنثى”، وجمعها أصنام، (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) [إبراهيم:36] "
نعم لقد بلغت سلطة اليهودية على العالم المسيحي في أميركا الشمالية التعبير الطبيعي الذي لا لبس فيه، حتى أن التبشير بالإنجيل نفسه ووظيفة التبشير المسيحي أصبحا بضاعة يتاجر بهما، والتاجر المفلس في الانجيل يفعل ما يفعله الإنجيلي (المتهوّد) الذي أصبح ثرياً في التجارة.
يكتب بومون: "فذلك الذي يقف على رأس رهبانية محترمة قد بدأ تاجراً، ولأن تجارته أخفقت أصبح رجل دين، وبدأ آخر بوظيفة الكاهن وما أن أصبحت لديه كمية معينة من المال حتى استبدلها بالتجارة. والوظيفة الدينية هي سيرة مهنية في نظر الغالبية فعلاً." (ت الصالحي 54)
لقد صدق باور حين قال في "المسألة اليهودية": "إنه لوضع كاذب أن تحجب عن اليهودي الحقوق السياسية على الصعيد النظري، بينما يملك في الواقع العملي قوة هائلة ويمارس تأثيره السياسي الكبير حتى لو كان مقيداً في التفاصيل"
يقول ماركس: إن التناقض بين السلطة السياسية العملية لليهودي (سلطة المال) وحقوقه السياسية (الحقوق المدنية السياسية المنقوصة) هو التناقض بين السياسة وسلطة المال بشكل عام. فبينما تحتل (السياسية) نظرياً مكاناً فوق الثانية (سلطة المال)، فإنها في الواقع مستعبدة لها." أي أن السياسة عبد لسلطة المال.
لقد عاشت اليهودية إلى جانب المسيحية كنقد ديني للمسيحية، كشك متضمن في الأصل الديني للمسيحية. لم تعترف اليهودية يوماً بمسيح المسيحية يسوع، وهي في حالة انتظار ظهور المسّيا messiah أو المسيح اليهودي. هذا أولاً، وثانياً لأن الروح العملية اليهودية، روح حب المال والربا، بقيت في المجتمع المسيحي نفسه وحصلت على أعلى نمو لها مع صعود المجتمع البورجوازي وسيادة البورجوازية الحديثة كطبقة حاكمة.
اليهودي الذي يعتبر عضواً خاصاً في المجتمع البورجوازي ليس سوى الظاهرة الخاصة ليهودية المجتمع البورجوازي الذي يعبد المال. لقد وجدت الروح اليهودية العملية في البورجوازية ضالتها التاريخية، ووجدت البورجوازية في اليهودية قدوتها التاريخية ومرشدها في عبادة المال.
يقول ماركس في هذا المقام: "لقد بقيت اليهودية ليس رغماً عن التاريخ وإنما من خلال التاريخ." (ت الصالحي 55)
لقد تركت أوروبا الإقطاعية فراغات في نظامها الاقتصادي، كالاقتصاد النقدي والربا، جاء اليهود وملؤوها، وعندما جاءت الرأسمالية بـ«دين» الرأسمال وجد اليهوديّ في الرأسمال دينه. هكذا أعادت الرأسمالية اليهوديّ إلى الحياة من جديد. فالمجتمع البورجوازي يولِّد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع "
إن أساس الدين اليهودي في ذاته هو الحاجة العملية، الأنانية. من هنا كلما تعددت الحاجات الإنسانية تعددت آلهة اليهودي (التوحيدي!)، هو تعدد آلهة يجعل من المرحاض موضوعاً للقانون الإلهي اليهودي. لكننا نعلم أن الحاجة العملية، الانانية هي مبدأ المجتمع البورجوازي، وتبرز على هذا النحو حالما يكون المجتمع المدني البورجوازي قد أكمل نموه بولادة الدولة السياسية وما تفترضه من ولادة أنانية المجتمع المدني البورجوازي. إن إله الحاجات العملية والمصلحة الذاتية هو المال.
المال هو إله إسرائيل الغيور الذي لا يقف أمامه أي إله آخر. يحط المال من قيمة جميع آلهة الانسان الأخرى ويحولها إلى سلعة. المال هو القيمة العامة (الشاملة) universal القائمة بذاتها universal self-established value لجميع الأشياء. فعبر المال نُهبَ من العالم كله، عالم الانسان والطبيعة قيمته النوعية (إنسانيته).
Money is the estranged essence of man’s work and man’s existence, and this alien essence dominates him, and he worships it.
المال هو الماهية الغريبة لعمل الانسان ولوجوده، وهذه الماهية المغتربة تهيمن عليه، وتجعله يعبد المال.
المال هو الاله الحقيقي لليهودي، وإلهه الديني هو الصيرفة الوهمية.
في ظل سيادة الملكية الفردية والمال، النظرة إلى الطبيعة تعني الاحتقار الحقيقي والحط العملي من شأن الطبيعة، وهما سمتان توجدان في الديانة اليهودية حقاً، لكنهما يوجدان في الوهم.
من هنا رفع غوته وبشكل ملفت من شأن الطبيعة في عمله العظيم "فاوست" كما أن الإشادة بالمذهب الرومانسي لديه الذي يشيد بالفن والانسان كغاية بحد ذاتها، يعمل في نفس الاتجاه.
يقول ماركس: "إن ما هو مجرد في الدين اليهودي هو احتقار النظرية والفن والتاريخ والانسان كغاية بحد ذاتها، هذا هو الموقف الحقيقي الواعي (لليهودي)، هذه هي فضيلة إنسان المال" أما علاقة النوع ذاتها، علاقة الرجل والمرأة، فإنها تصبح موضوعاً للتجارة! تصبح المرأة بضاعة يتاجر بها"
إن القومية الخيميائية chimerical nationality الخيالية لليهودي هي قومية التاجر، إنسان المال بشكل عام.
وقانون اليهودي الذي لا أساس له سوى الكاريكاتير الديني للأخلاقية التي لا أساس لها وللقانون بوجه عام وللطقوس الشكلية وحسب، تلك التي يحيط عالم المنفعة الذاتية نفسه بها.
إن الجزويتية اليهودية (اليسوعية الكاثوليكية المتشددة)، الجزويتية العملية نفسها، التي يحيلنا إليها باور في التلمود، هي علاقة عالم المنفعة الذاتية بالقوانين السائدة فيه والتي يشكل الالتفاف الذكي عليها الفن الرئيسي في هذا العالم. لا يمكن لدين الحاجة العملية (اليهودية) بطبيعته أن يبلغ الكمال في النظرية، وإنما في التطبيق، لأن الحاجة العملية هي حقيقته.
بلغت اليهودية نقطة الذروة باكتمال المجتمع المدني البورجوازي، لكن المجتمع المدني البورجوازي لا يكتمل إلا في العالم المسيحي. المسيحية التجريدية الهاربة إلى ملكوت السماء التجريدي، والتي تفصل ملكوت السماء عن الملكية الأرضية الدنيوية. في ظل المسيحية هذه فقط، التي تجعل جميع العلاقات الوطنية والطبيعية والأخلاقية والنظرية شيئاً ظاهرياً بالنسبة للإنسان استطاع المجتمع البورجوازي أن ينفصل عن حياة الدولة انفصالاً تاماً ويمزق جميع روابط النوع الإنساني، ويضع الانانية وحاجة المنفعة الذاتية مكان رابطة النوع الإنساني ويحل عالم الانسان في عالم من أفراد مفتتين يعادي بعضهم بعضاً.
لقد انبثقت المسيحية من اليهودية، ثم عادت وذابت في اليهودية. المسيحي منذ البدء هو المنظّر واليهودي هو المسيحي العملي، وقد أصبح المسيحي العملي يهودياً ثانية مع انتصار البورجوازية. كانت المسيحية أكثر سمواً وروحانية من أن تلغي فجاجة الحاجة العملية بطريقة أخرى غير تصعيدها إلى أثير.
المسيحية هي الفكرة النبيلة لليهودية واليهودي هي الاستخدام المبتذل للمسيحية، ولكن هذا الاستخدام لم يستطع أن يصبح عاماً إلا بعد أن استكملت المسيحية كدين ناجز اغتراب الانسان عن نفسه وعن الطبيعة نظرياً" أي بعد أن هرب إنسان المسيحية من التاريخ إلى ملكوت السماء وتُركت الأرض لليهود. عند ذلك استطاعت اليهودية أن تصل إلى السيطرة العامة وتبيع الانسان والطبيعة المُتخلى عنهما وتجعلهما قابلين للبيع، وموضوعاً لعبودية الحاجة الانانية والتجارة.
وكما يحوّل الانسان في الدِّين كيانه إلى شيء خيالي غريب عنه، فإنه تحت سلطة الحاجة العماية ينتج أشياء عملية ويضع منتجاته وكذلك نشاطه العملي تحت سيطرة كائن غريب ويمنحها قيمة كائن غريب هو المال.
تتحول الانانية الروحية المسيحية في عمله الكامل بالضرورة إلى أنانية الجسد اليهودية، تتحول الحاجة السماوية إلى حاجة أرضية، والذاتية الإنسانية إلى منفعة ذاتية. إننا لا نفسر صلابة اليهودي بدينه، بل بالأساس البشري لدينه، الحاجة العملية الانانية.
ولأن الجوهر الحقيقي لليهودي قد تحقق بشكل عام في المجتمع البورجوازي (المدني)، وأصبح دنيوياً، لم يستطع المجتمع البورجوازي اقناع اليهودي بوهمية جوهره الديني الذي هو ليس سوى المفهوم المثالي للحاجة العملية.
وهكذا فإننا لا نعثر على جوهر يهودي اليوم في الاسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (أسفار موسى التوراتية) وفي التلمود وحسب، وإنما نجده في المجتمع البورجوازي الراهن، ليس كتجريد وإنما ككائن على أعلى درجة من العملية، ليس فقط كضيق أفق اليهودي وإنما كيهودية المجتمع ضيقة الأفق.
ينهي ماركس كتابه الفاذّ هذا بالقول: "حالما ينجح المجتمع في التغلب على الجوهر العملي لليهودي، على التاجر وشروطه، يصبح وجود اليهودي مستحيلاً، لأن وعيه لا يعود يملك موضوعاً، ولأن القاعدة الذاتية لليهودية، وهي الحاجة العملية تكون قد اتخذت طابعاً إنسانياً، لأن النزاع بين الوجود الفردي المحسوس وبين وجود النوع البشري يكون قد ألغي".
أي أن المسافة بين المجتمع المدني والدولة تكون قد أزيلت بفعل اضمحلال الدولة السياسية في الطور الأعلى للشيوعية، اضمحلال قائم على الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وعلى الاشراف المباشر للأفراد المنظمين المتحدين على عمليتي الإنتاج والتوزيع في المجتمع الشيوعي الإنساني الجديد. ويكون الشعار الإنساني العام مفاده: إن التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية.
كتب ماركس "المسألة اليهودية" في آب-كانون الأول 1843،
ونشرت في (الحولية الألمانية-الفرنسية، باريس 1844)
نهاية التلخيص